اليونان: بين الأمل والحذر

الطاهر المعز

“يهدف الدائنون أن تستمر الديون، وليس أن تنتهي الدول المستدينة من تسديدها في يوم ما، فللدَّين في النظام الرأسمالي الحالي دورٌ سياسي، اذ لا تقتصر دورة الدين المتتالية على الاقراض، ثم الدفع مع الفائدة، فينطفىء الدين وينتهي، ولا تريد بيوت المال والمؤسسات الدولية الدائنة ذلك؛ بل تفترض أنّ تستمر هذه الدول المستدينة (والأجيال المتتالية) في دفع الفوائد وخدمة الدين بلا نهاية، بمعنى أن يصير هناك دائنون دائمون (كالثلاثية المالية في اوروبا: البنك المركزي والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد) ومدينون دائمون (كاليونان والدول الافريقية مثلاً)، وبين الطرفين علاقة قوّة واضحة، تسمح للدائنين بالاشراف على اقتصاديات الفقراء، والزامهم بسياسات معينة وضبطهم، بل وابتزازهم الى الأبد”  عن الفيلسوف “سلافوي جيجك” – السفير 26/01/15

 

مقدمة

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، نجحت الولايات المتحدة في إبعاد الأحزاب الشيوعية التي قاومت النازية في إيطاليا واليونان، ونصبت قوى يمينية مساندة لها (منها “الديمقراطية المسيحية” المتعاونة مع المافيا في إيطاليا)، وأنشأت قواعدها العسكرية التي أصبح بعضها قواعد لحلف شمال الأطلسي، فتداول على الحكم في اليونان حزب اليمين المحافظ الذي أصبح فيما بعد يسمى “الديمقراطية الجديدة”، وحزب باسوك من يسار الوسط (“اشتراكي”)، وفي السنوات الأخيرة حكما معا في ائتلاف وانخرطا معا في عملية “إنقاذ” بقيمة 245 مليار يورو، وهي قروض بشروط مجحفة من البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والإتحاد الأوروبي، فيما انتشرت المحسوبية والرشوة والفساد بشكل غير مسبوق، ودشن الحزب “الإشتراكي” (باسوك) سياسة العجز والديون والتقشف، قبل أن يطبقها مع شريكه اليميني، ما أثار مزيدا من غضب اليونانيين، بسبب سياسات التقشف التي جاءت مع عملية الإنقاذ، ضد الحزبين الرئيسيين التقليديين، وهو ما أتاح فوز حزب “سيريزا” اليساري المناهض لسياسة التقشف، بأغلبية نسبية في انتخابات البرلمان (25/01/2015)، وتحول تحالف “سيريزا” إلى حزب قبل سنتين، وأعلن معارضة الحلف الأطلسي الذي يملك قاعدة عسكرية ضخمة في جزيرة “كريت” (اليونان عضو في الناتو منذ 1952 ) ومعارضة التعاون العسكري مع الكيان الصهيوني، وتراجع الحديث عن هاتين القضيتين أثناء الحملة الإنتخابية لتبرز إلى السطح قضايا البطالة والفقر والتقشف، وتراجعت حتى مسألة توحيد قبرص إلى صف الإهتمامات الثانوية، لذا وجب الحذر ونبذ الأوهام بخصوص مساندة قضية فلسطين أو تغيير السياسة تجاه المهاجرين، رغم التغيير الحاصل في الموقف وربما الممارسة.

الضغط يولد الإنفجار

فشل البرلمان في ثلاث جولات متتالية بانتخاب رئيس جديد للبلاد، ما حتم اجراء إنتخابات تشريعية مبكرة، فاز بها حزب “سيريزا” (جبهة اليسار الإجتماعي) بأغلبية نسبية وليست مطلقة، ما أثار مخاوف المؤسسات والحكومات الأوروبية، لأن “سيريزا” يعارض سياسة التقشف المفروضة على البلاد ويطالب بإعادة هيكلة الدين العمومي، وإعادة النظر في قرارات الخصخصة، التي لم تستفد منها سوى فئات من المستثمرين الإنتهازيين، وبلغت قيمة الديون السيادية المتراكمة بنهاية الربع الثالث من 2014 نحو 315,5 مليار يورو وتمثل 177,7% من إجمالي الناتج الداخلي (بدل 60% التي يسمح بها الإتحاد الأوروبي كحد أقصى) وكانت الديون تمثل 127% سنة 2009، وساءت حال المواطنين مع تنفيذ برامج “الإصلاح الاقتصادي” وسياسة التقشف الصارمة التي فرضتها الحكومة والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي، والدائنين الدوليين، الذين يرفضون شطب الديون أو إعادة هيكلتها أو تمديد فترة السداد (30 عاما حاليا)… وكانت حكومة ائتلافية (“اشتراكيين” + محافظين) قد حصلت سنة 2010 على قرض بقيمة 240 مليار يورو (أصبحت 367 مليار يورو لاحقا)، مقابل شروط منها تخفيضات كبيرة في الرواتب مع زيادة عدد ساعات العمل وزيادة الضرائب، وتأخير سن التقاعد إلى 67 سنة، وإلغاء الوظائف وخصخصة قطاعات النقل والصحة والتعليم والخدمات، فانخفضت الرواتب بنسبة 50% خلال خمس سنوات (12%سنة 2013) وأصبح 25% من العمال فقراء، وتراجع حجم الاقتصاد بنحو 25% خلال السنوات الخمس الماضية، ولم تتمكن الدولة من استخلاص 68 مليار يورو من الضرائب (حوالي 40% من إجمالي الناتج المحلي) بسبب إفلاس الشركات والأشخاص، وتقلص عدد المصارف من 18 مصرفا تجارياً إلى 4 مصارف فقط، وارتفع معدل البطالة من 12% سنة 2010 إلى 27% سنة 2014 (أكثر من نصف الشباب عاطل عن العمل) وارتفعت نسبة الفقر إلى 30% من السكان، ووعد ائتلاف “سيريزا” برفع الأجر الأدنى تدريجيا من 580 يورو إلى 751 يورو، أي حوالي نصف الأجر الأدنى في فرنسا، على سبيل المقارنة  (أ.ف.ب 25/01/15) وطالب رئيس الحكومة الجديد إلغاء نصف الديون المتبقية وقدرها 320 مليار يورو (بعد تسديد 100 مليار يورو منذ 2010) وتملك منها حكومات منطقة اليورو 60% وصندوق النقد الدولي والمصرف المركزي الأوروبي مجتمعين 16% من هذه الديون، ورفض الأخيران مبدئيا، شطب أي جزء من حصتهما، وتتصدر حكومة ألمانيا قائمة رافضي مراجعة شروط القروض (التي تملك جزءا مهما منها) واعتبرت ذلك خطا أحمر، خوفا من انتشار مطلب إلغاء الديون أو مراجعة شروطها، خصوصا وان وزير المالية الألماني هو العقل المدبر لخطط الإنقاذ وشروطها المجحفة (أ.ف.ب 27/01/15 ) وكانت حكومة ألمانيا اليمينية قد مثلت منذ 2009 رأس حربة  الدعامة السياسية لبرامج “الإنقاذ” و”الإصلاحات الهيكلية” التي قدمتها “ترويكا” الدائنين وتتخوف إذا قبلت نقاش ديون اليونان أن تتسرب العدوى إلى دول أخرى مثل البرتغال واسبانيا وقبرص، وربما إيرلندا وإيطاليا وبلجيكا لاحقا، وتطالب الحكومة اليونانية الجديدة بإعادة التفاوض حول الديون، بهدف التوصل إلى “اتفاق أوروبي جديد من شأنه تحقيق النمو في منطقة اليورو”، ومن أولى القرارات التي اتخذتها الحكومة الجديدة، إيقاف خصخصة شركة الكهرباء ومصفاة للنفط وميناء “بيريوس”، الاكبر في البلاد، الذي تأمل شركة “كوسكو” الصينية العملاقة للشحن البحري تحويله الى مركز شحن بحري أوروبي كبير، ويعد وصول “سيريزا” إلى السلطة إخفاقا للمؤسسات الأوروبية في التعامل مع الأزمات المالية، والاقتصادية منذ ست سنوات، وسيكون نجاح أثينا في مفاوضاتها المقبلة مع هياكل الإتحاد الأوروبي والدائنين مسمارا جديدا في ركائز السياسات النيوليبرالية، وأملا في توسع تجارب أمريكا الجنوبية (رغم محدوديتها) إلى جنوب أوروبا، وأول من أدرك ذلك هو رئيس المفوضية الأوروبية الذي صرح لصحيفة “لوفيغارو” (اليمينية الفرنسية) “لن يكون هناك بحث في إلغاء الديون اليونانية لأن بقية دول اليورو لن تقبل بذلك، وسننطلق في المفاوضات مع اليونان من نفس القواعد التي جرى تثبيتها سابقا في الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي… ولكن يمكن التوصل إلى ترتيبات جديدة دون أن يؤثر ذلك جوهرياً على الإتفاق الحالي”  (أ.ف.ب 28/01/15 )…

 

المنعرج

لم يكن فوز “سيريزا” مفاجأة، إذ توقعت مؤسسات سبر الآراء فوزه منذ أشهر، أي منذ ألأزمة التي أدت إلى حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها، ويعود تشكيل النواتات الأولى لمقاومة سياسة التقشف إلى سنة 2010، حيث تعددت الإضرابات (خمس إضرابات شاملة سنة 2014) والإحتجاجات الشعبية والإعتصامات في الساحات الكبرى وأمام البرلمان… وهي البيئة الحاضنة لبروز تيار سياسي مختلف عن الإحزاب التقليدية (بما فيها الحزب الشيوعي)، واستغل قادة “سيريزا” إحساس اليونانيين بالمهانة أمام تصريحات المستشارة الألمانية المتعالية والمتسلطة، ضد الشعب اليوناني في مجموعه، فرفع شعار “استعادة الكرامة”، وهو أحد شعارات الإنتفاضات العربية (خصوصا في تونس ومصر)، لأن مسألة الهوية دائمة الحضور في اليونان، ذي الحضارة العريقة، والآثار الشاهدة على هذه العظمة، ولكن الشعب اليوناني أقرب الشعوب الأوروبية إلى الشرق، بالإضافة إلى ما حفظته الذاكرة الجماعية عن الإحتلال خلال الحرب العالمية الثانية

فرض فوز ائتلاف “سيريزا” إعادة النظر في المسلمات والسياسات المالية والإقتصادية التي اعتمدها الإتحاد الأوروبي (بزعامة ألمانيا) “لتثبيت الاستقرار” والنمو الاقتصادي، عبر خطة ترتكز على التقشف ــ الذي أدى إلى خفض الوظائف والمداخيل-  وفرض تقليص نسبة العجز إلى ما دون 3% من إجمالي الناتج المحلي، ونسبة المديونية إلى ما دون 60% من إجمالي الناتج المحلي، وأعلن زعيم حزب سيريزا (أليكسي تسيبراس) “إن على أوروبا إيجاد بدائل عن سياسات التقشف، لأن المستقبل الجمعي لأوروبا ليس هو مستقبل التقشف بل مستقبل الديمقراطية والتضامن والتعاون وسيستعيد الشعب اليوناني لحمته الاجتماعية وكرامته بعد فوز حزبنا”، وقد تعهد الحزب بأربع نقاط على الأقل منها إعادة التفاوض على البنود الصارمة لحزمة الإنقاذ المالي، والتي تسببت على مدى أربع سنوات ونصف، في تخفيض الرواتب، وتقليص معاشات التقاعد وزيادة العبء الضريبي على المواطنين وزيادة كبيرة في معدلات البطالة، وهو ما أثار موجات احتجاجات واسعة…

 

البرنامج الإقتصادي

أدرجت الحكومة سنة 2013 ضريبة العقار ضمن فواتير الكهرباء، فوصل متوسط الفاتورة الواحدة إلى نحو 250 يورو، فعجز الفقراء ومتوسطي الدخل عن السداد، ومع تصاعد أزمة البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة، بات عشرات الآلاف من المواطنين غير قادرين على تحمل أعباء فواتير الكهرباء التي تراكمت، خاصة بعدما أضيفت إليها ضرائب أخرى مثل ضرائب البلدية والعقار والتلفاز الوطني، وقطعت شركة الكهرباء التيار عن 400 ألف مسكن ومؤسسة، عجز أصحابها عن تسديد الفواتير، وإذا أضفنا إلى ذلك فقدان اعانة البطالة بعد 12 شهرا مع فقدان العاطلين لفترات طويلة الاستفادة من نظام الرعاية الصحية، أضف إلى ذلك زيادة بنسبة 30% في أسعار الأدوية، ما سهل تفكك المجتمع اليوناني، ولذلك ركز البرنامج الإقتصادي ل”سيريزا” على مواجهة الآثار المترتبة عن إجراءات التقشف الصارمة، وفرض سداد أقساط الديون في موعدها، وهو ما يتناقض مع ضرورة زيادة النمو لتحقيق فوائض أولية في الميزانية تعادل 4% على الأقل من الناتج إلى غاية عام 2022، لتتمكن الدولة من سداد الديون، ناهيك عن استيعاب العاطلين والوافدين الجدد على “سوق العمل”، وتضمن البرنامج الإقتصادي كذلك إطلاق برنامج إنفاق ضخم، يتضمن قسائم الكهرباء والغذاء المجانية للفقراء، وزيادة معاشات التقاعد الحكومية إلى مستويات ما قبل الأزمة ورفع الأجور، بتكلفة تتراوح بين 11 و 13 مليار يورو، أو نحو 6,5% من الناتج المحلي الإجمالي، وتمويل الإنفاق بواسطة زيادة الضرائب على أصحاب الدخل المرتفع والممتلكات الكبيرة، كشكل من أشكال إعادة توزيع الثروة، بالتوازي مع التفاوض من أجل تخفيف أعباء الديون، لدعم النمو في اليونان والبلدان المتعثرة، وأنشأت الحكومة “وزارة الشفافية” التي ستقوم بحملة واسعة النطاق ضد التهرب الضريبي والفساد، بالتنسيق مع مختلف أجهزة مكافحة الفساد ومنها الشرطة المالية ومكتب المدعي العام ووكيله للشؤون الاقتصادية… وكان تعليق الخصخصة من أولى قرارات الحكومة الجديدة، ما جعل الصين (التي أصبحت في صف الرأسمالية الجشعة) تبدي امتعاضها من تجميد خصخصة الموانئ وشركة الكهرباء ومصفاة النفط الخ وتسبب تنفيذ  سياسة التقشف القاسية في فقدان اليونانيين 40% بالمائة من دخلهم، ورفعت نسبة البطالة إلى 27% (50% لدى الشباب)

 

السياسة الخارجية

كانت الديانة الأرثدوكسية السائدة في اليونان (أو المذهب الأرثودوكسي داخل الديانة المسيحية)، خلافا لبقية دول الإتحاد الأوروبي التي تدين بالكاثوليكية أو البروتستانتية، عاملا من عوامل التقارب مع روسيا (التي سلط عليها الإتحاد الأوروبي عقوبات صارمة) وصربيا (التي استهدفتها أوروبا والحلف الأطلسي منذ انهيار الإتحاد السوفياتي) وتعد روسيا الشريك التجاري الأكبر لليونان بقيمة 7 مليارات دولار سنوياً، ويعد السياح الروس مصدراً للإيرادات، وتضررت المصارف اليونانية كثيرا من العقوبات على النظام المصرفي الروسي ومن أزمة قبرص

من جهة أخرى عانى اليونانيون من الإحتلال النازي أثناء الحرب العالمية الثانية، التي أسفرت عن تقسيم أوروبا إلى معسكرين، غربي وشرقي، وركزت أمريكا حضورها العسكري والإقتصادي والثقافي في أوروبا الغربية وجعلت من ألمانيا قاعدة لها، وفرضت أمريكا على الدائنين إلغاء ديون ألمانيا ( التي تريد حرمان اليونان اليوم من الإستفادة من نفس “الإمتياز”)، مقابل تركيز القواعد العسكرية الأمريكية الضخمة على أراضي ألمانيا الغربية التي تتكفل بمساعدة الكيان الصهيوني على ترسيخ أقدامه في فلسطين، والسيطرة على شعوب أوروبا، كي لا تخرج على طاعة أمريكا… دعا “سيريزا” خلال الحملة الإنتخابية إلى “فك الارتباط مع الناتو واغلاق القواعد الأجنبية على التراب اليوناني”، و”انهاء التعاون العسكري مع اسرائيل”، لكن هذه المطالب تراجعت شيئا فشيئا إلى الوراء،  بالإضافة إلى ان الحزب لا يطرح مسألة الخروج من حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بل  يؤكد زعيمه “لن نشارك في الناتو برأس منحن ولن ندعم التدخلات العسكرية، وسندافع عن الشرعية الدولية” (اسألنا نحن العرب عما فعلت بنا “الشرعية الدولية”)، ويؤكد العزم على “توثيق العلاقة مع اميركا الجنوبية”…  واتخذت حكومات اليونان المتعاقبة موقفا متحفظا تجاه فرض العقوبات على روسيا، وساندها اليمين اليوناني على مضض، ولكن أعضاء “سيريزا” في البرلمان الأوروبي صوتوا ضد اتفاق الشراكة مع اوكرانيا، وامتنعوا عن التصويت حول اتفاقات مماثلة مع جورجيا ومولدافيا، ناهيك عن معارضتهم الدائمة للعقوبات على روسيا ورفضهم لإدانة الحكومة الروسية وأفشل الفيتو اليوناني إجماع وزراء خارجية بقية أعضاء الإتحاد الأوروبي، وأجبرهم على تأجيل فرض عقوبات جديدة ضد روسيا، وطالب عدد من السياسيين اليونانيين بتعويض الخسائر التي لحقت باقتصاد البلاد جراء العقوبات على روسيا 

أقام حزب “سيريزا” علاقات متطورة مع “حزب الشعوب الديمقراطية” في تركيا وهو حزب وطني كردي يطالب بالإستقلال، وله كذلك علاقات مع “حزب الحرية والعدالة” اليساري، وسبق أن ذهب وفد من حزب “سيريزا”، مع بدء حصار “داعش” لعين العرب الى مدينة “سوروتش” التركية المحاذية، للتعبير عن التضامن مع المقاتلين الأكراد فيها، وعن معارضة حصار الحكومة التركية لعين العرب، وقد يشكل فوز اليسار اليوناني حافزاً لتكتل يساري بزعامة الحزب الكردي ليتمكن اليسار من تجاوز حاجز ال10% من أصوات الناخبين، التي أصبحت ضرورية للحصول على مقاعد في البرلمان التركي.

مواقف الحزب تجاه العرب

قبل عقود كان الرأي العام اليوناني مساندا للقضية الفلسطينية واشتهر عدد من الفنانين والأدباء والسياسيين بمناصرة قضايانا، منهم الشاعر “ستاماتيس بوليناكيس” الذي صرح إبّان العدوان على قطاع غزة، في 2008 “إن عمليات القتل والقصف التي ترتكبها إسرائيل تصرفٌ حيوانيٌّ، يستدعي جرائم النازية ضد ضحاياها”، وأعلن الكاتب والسينمائي “يورغوس كاريبيدس” أن الفلسطينيين أقرباء اليونانيين، وإنهم يتعرضون لإبادةٍ منهجية من إسرائيل، التي تشبه مستشفى كبير للأمراض العصبية، وجيشَها عبارة عن “أكاديمية سفاحين”، والملحن العظيم “ميكيس ثيودوراكيس” الذي غنّى لفلسطين وللثورات ولبيروت، وكثيراً ما أحيا حفلاته وهو يضع الكوفية الفلسطينية على كتفيه، وقد وصف إسرائيل بأنها أساس السوء في العالم، وعُرف بمناصرته قضايا التحرر ضد الاستبداد، وعارض الحرب على العراق، وكذلك الشاعر “يانيس ريتسوس”، الذي أعلن مرارا يقينه بانتصار فلسطين، وانحاز إليها، وإلى كل ثورةٍ ضد أي استبداد، وكل شعب يتطلع إلى الحرية، وناهض الديكتاتوريات العسكرية، والمغني الذي رحل مؤخرا “دميس روسوس” الذي ولد في مصر وقضى جزء من طفولته في الإسكندرية، وبقي يعتبر أن العروبة جزء من مكونات شخصيته فناصر قضايانا وخاصم أعداءنا… أما بالنسبة لحزب “سيريزا” فإنه يعارض العلاقات العسكرية التي تطورت مع الكيان الصهيوني، خلال العقد الماضي، وازدهرت بالخصوص منذ 2008 (سنة العدوان الكبير على فلسطينيي غزة) العلاقات السياسية والعسكرية وتعددت المناورات العسكرية المشتركة، وتصنّف الأوساط الصهيونية “ألكسيس تسيبراس” معادياً للسامية، لأنه سافر إلى غزة في إحدى سفن كسر الحصار في 2010 ولكن الحزب لا يتجاوز حدود “الشرعية الدولية”، ومع ذلك فقد امتعضت سلطات الكيان الصهيوني من فوز الحزب، وتوقعت وسائل إعلام الإحتلال تدهور العلاقات الإسرائيلية – اليونانية، رغم ترحيب تل أبيب رسميا بنتائج الإنتخابات، في حين رحبت مختلف الفصائل الفلسطينية بفوز “سيريزا” الذي قاد المظاهرات في أثينا ضد الحرب العدوانية الأخيرة على قطاع غزة (صائفة 2014)

 

توازن هش

على الصعيد الداخلي، لا يتمتع “سيريزا” بأغلبية مطلقة في البرلمان ولذلك شكل حكومة ائتلافية مع حزب اليونانيين المستقلين (ANEL)  وهو حزب قومي يميني، لكنه الوحيد الذي قبل تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب سيريزا، إضافة إلى تطابق مواقف الحزبين بخصوص الديون وسياسة التقشف، أما الحزب الشيوعي (15 مقعدا) فقد أصدر بيانا مطولا ينقد فيه برنامج “سيريزا” الذي يعتبره “حزيا برجوازيا” ولن يدعمه في البرلمان، أما الحزب الإشتراكي “باسوك” فقد انقسم على نفسه وتفتت واهترأ بسبب مشاكل الفساد داخله. من جهة أخرى تعزز موقف اليمين الفاشي  لحزب “الفجر الذهبي” الذي حل في المركز الثالث وارتفع عدد المقاعد التي حصل عليها (17 مقعدا) رغم اعتقال زعمائه ونصف عدد نوابه البرلمانيين، بتهمة تشكيل تنظيم إرهابي، وبشكل عام فإن الصراع السياسي بين الأحزاب يتمحور حول التقشف والأزمة الإقتصادية والموقف من الإتحاد الأوروبي والديون والإنتماء لمنطقة “اليورو”، وحصل خلط للأوراق بين اليمين واليسار، ما يفسر انحسار شعبية الحزبين الكبيرين اللذين حكما البلاد طيلة عقود (حزب الديمقراطية الجديدة وحزب باسوك)، وارتفاع شعبية الأحزاب المعارضة لهما ولاتفاقية التداين مع “الترويكا”، أي “سيريزا” اليساري و”اليونانيين المستقلين” اليميني و”الفجر الذهبي” الفاشي، وتحول عدد من أنصار “باسوك” إلى التصويت لفائدة “سيريزا”، ونظرا إلى عدم تجاوز نسبة أنصار “باسوك” 7,5% من الناخبين، فقد استفاد “سيريزا” منطقيا من عشرات الآلاف من الأصوات التي تتجه عادة إلى اليمين

 

سابقة أوروبية

مثلت انتخابات اليونان مقياسا أو اختبارا لفرص فوز أحزاب معارضة للسياسة الرسمية الليبرالية للإتحاد الأوروبي، ولهيمنة ألمانيا والبنك المركزي الأوروبي على التوجهات الإقتصادية لدول الإتحاد (29 دولة منذ أول كانون الثاني 2015) ومنطقة اليورو (19 دولة)، وحاولت بعض الأحزاب معارضة هذا الإتجاه الرأسمالي الليبرالي، لكنها لم تنجح في استقطاب الناخبين، رغم معارضة أغلبية المقترعين في فرنسا وهولندا لمشروع الدستور الأوروبي الذي أقرته الحكومات رغم ذلك، وركز حزب “سيريزا” حملته الانتخابية على رفض البرنامج الذي فرضته الترويكا على اليونان، وعلى زيادة الرواتب ومعاشات التقاعد، وإعادة توظيف من انتهت فترات تعيينهم، والكف عن إجراءات الخصخصة، وخفض الضرائب للأجراء وزيادتها للأثرياء، وتأميم بعض المؤسسات التي خصخصتها الحكومات السابقة، وتطبيق سياسة مناقضة ل“التحول الليبرالي” واقتصاد السوق المنافس الذي يريد فرضه الاتحاد الأوروبي، مع تعزيز دور الدولة على الصعيد الإجتماعي، ولكن لم يطرح الحزب الخروج من الاتحاد الأوروبي ولا من منطقة اليورو… ابتهجت بعض الأحزاب لفوز “سيريزا” منها “بودموس” في أسبانيا، حيث ستجري انتخابات تشريعية أواخر هذا العام، و”جبهة اليسار” في فرنسا وقوى وجبهات أخرى في إيطاليا والبرتغال وغيرها، ويخشى قادة الإتحاد الأوروبي أن تفوز مثل هذه القوى السياسية في دول أخرى وتفرض مطالب مماثلة تعارض ركائز السياسة الرسمية المتمثلة في فرض التقشف وخفض عجز الموازنة والتزام إعادة الديون وفوائدها في الموعد الخ…

لقد أثرت سياسة التقشف على نمو النشاط الإقتصادي الذي انخفض بنسبة 25% من الناتج المحلي في اليونان، مقابل ارتفاع العجز والديون وزيادة تدهور الميزانية العامة، وتجاوز معدل البطالة 50% لدى الشباب… من جهة أخرى لا توجد استثمارات أو تحويلات مالية كافية، بين دول منطقة العملة الأوروبية الموحدة، لإعادة توزيع الثروة، عبر الإستثمارات، داخل منطقة اليورو، وهي الحلقة الضعيفة للتكامل الإقتصادي الأوروبي، بالإضافة إلى غياب سياسة جبائية موحدة وضرائب أوروبية تمول مداخيلها ميزانية أوروبية يعاد توزيعها في شكل استثمارات

 

آفاق حزب “سيريزا”

أثار فوز “سيريزا” آمالا مشروعة لتغيير الوضع في عدد من الدول الأوروبية، ورأت بعض أحزاب اليسار في ذلك أشارة لإخفاق السياسة الرسمية للإتحاد الأوروبي (بزعامة ألمانيا) ولبرامج “النيوليبرالية المتوحشة”، التي أدت إلى مضاعفة الفقر والبطالة والقضاء على ما تبقى من القطاع العام والصحة العمومية والتعليم والمرافق والبرامج الإجتماعية، وأنعش هذا الفوز آمال حزب “بيديموس” الأسباني، وجبهة اليسار الفرنسية وغيرها من الأحزاب والجبهات، بالخصوص في جنوب أوروبا…

رغم إلصاق الصحف تهمة “التطرف” لحزب “سيريزا” فإنه لم يتجاوز في أطروحاته وبرامجه الإقتصادية ومقترحاته، محاولة تقويم بعض تجاوزات الإقتصاد الرأسمالي الليبرالي، ولم تتسم أطروحاته بتجاوز أطروحات “جون مينارد كينز” خلال الأزمة الكبرى في ثلاثينات القرن الماضي، التي تدعو إلى تدخل جهاز الدولة للحد من التجاوزات وخلق نوع من التوازن بين رأس المال وقوة العمل، بين الإستثمار والإستهلاك، لإنقاذ النظام الرأسمالي وتفادي ثورة تعصف بالنظام الرأسمالي في مجمله… تغير خطاب الحزب باتجاه “الإعتدال” أثناء الحملة الإنتخابية، وخصوصا منذ بداية العام الحالي، حيث لم يعد زعيمه “ألكسي تسيبراس” يستخدم المفردات التي جعلته يحتل هذه المكانة، ولم يتطرق ، في آخر خطاب له في أثينا، لوقف تسديد الديون، وتأميم المصارف أو حتى مراجعة برامج الخصخصة ككل، كما يتمسك الحزب بانتمائه للإتحاد الأوروبي الذي تم إنشاؤه على أساس توسيع نمط الإنتاج الرأسمالي وتوسيع نفوذ الشركات الكبرى الإحتكارية (على الطريقة الأمريكية)، وضخ المال العام في خزائن المصارف والشركات الكبرى، ولم يقم الإتحاد على أساس وحدة ومصالح الشعوب، ويلعب الإتحاد الأوروبي دور قمع وإفقار عمال وشعوب أوروبا، داخليا ورديفا للإمبريالية الأمريكية على الصعيد الخارجي، بقيادة ألمانيا، التي تمثل قاعدة عسكرية للولايات المتحدة والحلف الأطلسي، ورأس حربة السياسة العدوانية الأمريكية، بالإضافة إلى فرض التطبيع على البلدان العربية التي توقع اتفاقيات شراكة مع الإتحاد الأوروبي، وشارك الإتحاد الأوروبي ككيان أو شاركت الدول النافذة فيه (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا) في كافة العدوانات الأمريكية الأطلسية على شعوب العالم منذ انهيار الإتحاد السوفياتي (في يوغسلافيا وأفغانستان والعراق وافريقيا وسوريا)، بالإضافة إلى حصار سفنها لقطاع غزة والحلول محل الكيان الصهيوني، لتمويل جزء هام من إنفاق سلطة الحكم الذاتي الإداري في جزء من فلسطين…

 

بعض الأسئلة التي تنتظر إجابة

ما هي الحلول الكفيلة اليوم بضمان حقوق العمال والمنتجين لنيل نصيبهم من الثروة التي أنشئوها؟ كيف يمكن توزيع الثروات بشكل عادل في ظل حقبة العولمة وهيمنة الشركات متعددة الجنسية والمؤسسات المالية على دواليب الإقتصاد في كافة البلدان؟ ما هي حدود نظام الديمقراطية البرجوازية والبرلمانية، وما هي الوسائل الأخرى الكفيلة بإشراك فئات الشعب في الحياة السياسية وفي التخطيط والتنفيذ والتقويم؟ كيف يمكن جمع الأموال الكافية للإستثمار في قطاعات منتجة لتلبية حاجات الشعب؟ كيف يمكن تجاوز العادات الإستهلاكية التي رسخها النظام الرأسمالي لدى معظم الشرائح الإجتماعية؟

قد تفيدنا الإجابة عن هذه الأسئلة أثناء البحث عن بديل للأنظمة القائمة في البلدان العربية والبلدان الفقيرة.