ليبيا نموذج ضحية الاستشراق الإرهابي

عادل سمارة

تشترط العلاقات الدبلوماسية بين الدول، لَيْ أعناق الحقائق في مواقف معينة. لكن ما ينطبق على الدول لا ينطبق قط على المواطنين سواء عاديين او نشطاء أو أحزاباً. وهذا يحرر الناس من إخفاء ما تُحرج به الحكومات. وهو ما يحرر كاتب هذه السطور مما يقيد الأنظمة او المثقفين التابعين حتى لأنظمة وطنية.

بداية، المقصود هنا بالاستشراق الإرهابي هو أن الغرب الذي غزا الوطن العربي بعدة طبعات استشراقية ثقافية وسياسية واقتصادية…الخ يغزوه الان بطبعة جديدة هي الاستشراق الإرهابي، اي امتطاء الإسلام وتصنيع مسلمين في الغرب وإرسالهم إلى الوطن العربي ليدمروه على النحو الذي يرده الغرب، تماما كما كانت الاستشراقات الأخرى قد صممت تصورا للوطن العربي وتعاطت معه طبقا لذلك التصور. ولا يقلل من مصداقية تحليلنا هذا وجود الفساد في الأنظمة القطرية العربية والديكتاتورية وعدم المساواة الاجتماعية رغم مواقفها الوطنية والرافضة للتبعية. أما الأنظمة القطرية غير قومية الاتجاه، فهي جزء من الثورة المضادة كعدوة للأمة والأرض معاً ولذا حين لا نذكرها ذلك فقط لأنها شر مطلق بل عار وجودها على تاريخنا.

منذ العدوان الأطلسي على ليبيا وتصنيع “ثورة” هناك، كان واضحاً لكل ذي موقف وطني او قومي أو إنساني، أن ما يجري هناك هو عودة الاستعمار حاملاً معه سلاحا نوعياً جديدا، هو القوى البديلة لأنظمة الحكم العربية ذات التوجهات الوطنية او القومية او على الأقل المعاندة للإمبريالية.

هي عودة تحت تبريرات ديكتاتورية الأنظمة  ووجود الفساد والفقر…الخ. وهي تبريرات لها اساس من جهة ، ولكن الرد على هذه الإشكالات في البلدان العربية التي حصلت عليها هذه الحروب تحت مسميات ربيع وحراك…الخ، ليس الرد بتحريك قوى فاشية وقوى دين سياسي قروسطية التفكير والثقافة وجاهزة للتعبية بلا حدود. هذا ناهيك عن أمرين هامين آخرين:

الأول: أن الأنطمة العربية التي لم تشهد حراكاً هي الأجدر بتلقي هذه الضربات لأنها وراء التاريخ بعصور,

والثاني: أن رُعاة وحاضني هذه القوى الإرهابية هم انفسهم الأعداء التاريخيين للأمة العربية من جهة وهم رعاة الأنظمة العربية النفطية التي تمول وتثقف الإرهاب ذاته!

بكلام آخر، كان ما حصل ضد ليبيا عام 2011 هو غزوة من الثورة المضادة بلا مواربة. وإذا صح هذا التشخيص، فهو يعني وجوب الوقوف مع ليبيا حماية لها في المقام الأول وحماية من كل قطر عربي لنفسه كذلك.

لكن الزمن كان في صالح الثورة المضادة بالمطلق حينها. ليس ذلك لأن كل قطر عربي كان منشغلا في إشكالاته، بل لأن الدول القطرية ليست اساسا مرشحة للعب دور قومي، ولأن كل واحدة منها لا تكاد تجرؤ على حماية نفسها فكيف لها ان تقف مع نظام يستهدفه معسكر الثورة المضادة. أي ان الواقع العربي كان مؤات جدا للعدوان.

وبالطبع كان الوضع العالمي مجافيا للدولة الليبية حيث لم تكن روسيا من العناد بمكان، وربما لم تكن من المصلحة ولا القوة بمكان ، بحيث ترفض تدخل “الأسرة”الدولية ضد النظام الليبي. وقد يكون النظام الليبي حينها ضحية حتى مجرد الاختبار المزدوج:

·       اختبار الثورة المضادة إن كان بوسعها العودة لاحتلال بلد مستقل

·       واختبارمن قبل  روسيا والصين إن كان حقا يعود الاستعمار لطبعه القديم ويكرر عدوانه ضد العراق وأفغانستان رغم خسائره.

لكن الثورة المضادة، جاءت حتى بعدة اسلحة جديدة هذه المرة.

·       فمن ناحية تكتيكية لم تمشي على الأرض، بل اعتدت من الجو بحيث لم تفقد جنديا واحدا ولا طائرة واحدة.

·       ومن جهة ثانية كانت الثورة المضادة قد صنعت فريقا من قوى الدين السياسي حيث قذفت به إلى الأرض في ليبيا وعلى رأسه عبد الكريم الحاج، الذي كانت قد سلمته للقذافي وأعلن توبته فعفا عنه. فكان راس حربة الاستشراق الإرهابي المصنَّع في الغرب والمجهز لمهمة تدمير ليبيا.

·       ومن جهة ثالثة، شاركت في الغزو انظمة الدين السياسي وخاصة السعودية وقطر  سواء بالطيران أو التمويل أو إرسال المقاتلين.

·       واصطف إلى جانب هذا كله فريق مثقفي الطابور السادس الثقافي الذين شاركوا بالرقص حول النار المقدسة لاحتلال ليبيا.

·       وبالطبع انضم إلى هذا العدوان قطاع من الليبيين سواء بدافع الدين السياسي او القبلي او الجهوي…الخ.

قد أغامر بالقول، وبكل تواضع ووضوح معاً، أن كل ما ذكرته أعلاه، ليس هو ما خطر لي قبل مجزرة العمال المصريين وحين المجزرة وبعدها. فهم كملايين العرب الذين قُتلوا منذ إعادة احتلال الكويت 1991 إلى احتلال العراق 2003 إلى الحرب على سوريا إلى أطول عدوان في التاريخ على فلسطين، إلى اليمن والبحرين…الخ ولا توقف.

ما خطر ببالي أن مشروع الاستشراق الإرهابي صنًّع هؤلاء الإسلاميين منذ عقود وجرَّبهم في الوطن العربي بداية في ليبيا كفريق جديد للقاعدة.

وما خطر ببالي ان نفس الاستشراق الإرهابي هو الذي احتضن خليفة حفتر منذ استسلامه للجيش التشادي (1986 كما اذكر) وبقائه في كاليفورنيا إلى ما بعد إسقاط النظام القذافي بعامين وتثبيت اقدام الإرهابيين في ليبيا ثم إدخاله إلى هناك بصفة القائد الوطني المخلَّص.

وهكذا، لتدور حروب بين طرفين في ليبيا كليهما على ارتباط بالثورة المضادة مما يعني أن المطلوب هو:

أولاً: إبقاء ليبيا في دائرة التدمير الذاتي لجعل نهب ثرواتها النفطية والمائية سلساً

ثانياً: إذا تفوق الإرهاب فهو مرتبط بالغرب

ثالثاً:إذا تفوق حفتر باسم الوطنية فهو مرتبط كذلك، وبالتالي انتصاره يعني احتجاز تبلور نظام وطني عروبي حقيقي هناك.

رابعاً: تحريك الإرهاب من ليبيا ضد مصر لخصي اية محاولات نهوضية في مصر كي لا تستعيد دورها العربي، بل حتى كي لا تتمكن من ترميم وضعها الداخلي.

بعد العدوان الذي دمر الجيش الليبي واغتال القذافي، كانت مصر تحت حكم جنرالات امريكا، طنطاوي وعنان. لم يجهل هؤلاء قط بان ليبيا ستكون خاصرة خطرة كالكيان الصهيوني. وقد كتبت عن ذلك حينها. ولكن من أين لمن ابدلتهم امريكا بمبارك أن يكونوا حريصين على مصر؟

ثم جاء حكم الإخوان الذين على الأقل نالوا الرضى الأمريكي وهو ما حال طبعا دون أن يهتموا بخطر ليبيا، بل ربما كانوا على رضى بذلك طالما المنطقة تغدو سجادة لقوى الدين السياسي بغض النظر عن تفاوت الدرجة في عشق الإرهاب.

في الفترة نفسها، كان الإرهاب يتخندق في سيناء، سواء بدعم ليبيا  ودعم نظام الإخوان، ودعم حماس في غزة، والتي تزعم أنها لم تفعل. ولكن اي قياس منطقي يوصلنا إلى انها فعلت. فهي جزء من معسكر الدين السياسي بمختلف تمفصلاته من جهة، ناهيك عن أن الاعتقاد الذي ساد حينها بأن قوى الدين السياسي منتصرة في المنطقة لا محالة، فلا داع للتردد!. كما أن تجربة موقف حماس  ضد سوريا يدعم هذا الاستنتاج. ويبقى الأمر على اية حال للزمن، ذلك لأن المصلحة الفلسطينية تقتضي عدم دعم أي فلسطيني ضد مصر. ولكن الإيديولوجيا والنهم إلى الحكم واليقين بأن هذا التيار منتصر وضامن للرضى الأمريكي، كل هذه لا يحكمها المنطق: لا الوطني ولا القومي ولا الطبقي بالطبع.

في الفترة نفسها، أي أثناء قصف الناتو ضد الجيش الليبي، كانت مختلف القنوات الفضائية والإعلام العربي العميل والمقاوم مُجمعة ضد نظام العقيد القذافي كلٌ لهدفه سواء خدمة الإمبريالية او الثار الطائفي أو الشخصي…الخ. ولم يختلف موقف إيران عن مواقف أنظمة وإعلام  العرب هذا مع أن إيران اكتوت من الشيطان الأكبر! فهل اصبح ملاكاً في طرابلس الغرب؟

قوى المقاومة الفلسطينية كانت الأكثر بؤساً وتهافتا وسقوطاً. فهي التي أغدق عليها القذافي من أموال ليبيا، وكان ذلك خطيئة من خطاياه، قلبت له ظهر المجن، وراحت تطعنه. أما سلطة أوسلو-ستان فأرسلت سفيرا وفرق الأنجزة والطبابة لتطبيب الإرهابيين. وحدها الجبهة الشعبية القيادة العامة التي لم تنكر الجميل.

 بل إن موقف قوى المقاومة الفلسطينية إلى حد كبير هو نفسه من العدوان على سوريا، وهو موقف كان اساسه انتظار سقوط سوريا كما ليبيا ربما رغبة في التشفي لا أرقى، وحين لم يحصل ساد الارتباك وترقيع المواقف!.

ما يخطر بالبال كذلك، أن هذه الحرب الدائرة من المحيط إلى الخليج هي مشروع أعمال لراس المال الأمريكي خاصة والأوروبي كذلك. هو تشغيل مصانع السلاح والذخائر ومستلزمات الموت على تعددها.

لكنه ليس بهدف الحرب العبثية، بل هو جزء من المشروع الأكبر وهو استهداف الوطن العربي نسميه خطة أو مؤامرة، لا مشكلة. إنما هو مشروع تدمير لم يتوقف حتى يُقطع راسه.

ما حصل ضد ليبيا 2011 ولا يزال حتى الآن، يؤكد بان هناك الكثير من السهام في جعبة الثورة المضادة. فمع بداية العام الجاري، بدأت مصالحات الوهابية والإخوانية (السعودية وقطر) ، واستقبلت واشنطن قيادات الإخوان، واستقبلت قيادات الطائفة السنية العراقية في تحضير لخلق بانتوستان سني في العراق بحجة التحيز الطائفي الشيعي الذي هو حقيقة ولكنها كحقيقة سوداء لا يمكن الرد عليها بتبعية سنية لخلق كيان عميل وضد العراق نفسه!

وعليه، فإن فتح الحرب من ليبيا على مصر كما هي من سيناء، هي في حقيقة الأمر شل قدرة مصر على اي نهوض، وتقييد اية محاولة لنظام الخليط للتعافي سواء محليا اي اقتصاديا/اجتماعيا أو عروبيا او عالمياً. ومما يزيد مازق النظام المصري أن من يموله ويمول الإرهاب هو الطرف نفسه. ناهيك عن أنه لم يقطع مع الولايات المتحدة ولو تكتيكياً.

إذن الإرهاب والإمبريالية  تتجاوز حدود الدول القطرية. أما الدول القطرية فتنكمش على حالها لأنها ترتعب من البعد القومي أكثر حتى من خطر الإرهاب!

بيت القصيد ربما في أمرين:

الأول: أنه ما من قوة أو نظام في الوطن العربي على علاقة حقيقية بالشعب

والثاني: أن التصدي للإرهاب والاستعمار بل وجميع معسكر الثورة المضادة لا يمكن بالجيش وحده.

لا بدن من دور للشارع، بكل الاتساع . بل إن الشارع المنشغل في المذبحة والطائفية وقمع الأنظمة لن يفلت من هذه جميعا ما لم يتجه قوميا على الأقل.

وهذا يلقي على عاتقنا وجوب الشغل لبلورة تيار هو عروبي الانتماء مقاوم عملياً واشتراكي هدفاً.