راس المال: صدام الحضارات أم تحويل مجرى الثورات

محاورات في الاقتصاد السياسي 13

عادل سمارة

يفيد التاريخ وخاصة للمعتقدين باهمية التاريخ أن الثورات في العالم هي ثورات طبقية منذ التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية العبودية مرورا بمختلف التشكيلات الأخرى واللاحقة والمتنوعة ( الشرقية الخراجية، والإقطاعية الأوروبية، والإقطاعية العسكرية …الخ).

 وبالطبع، فإن مختلف التشكيلات الاجتماعية الإقتصادية قامت على وجود طبقات حاكمة مالكة تستغل بأساليب متنوعة طبقات شغيلة منتجة  تُحرم من معظم ما تنتجه.

لكن المرحلة الرأسمالية وهي مرحلة استغلال مكثف دخلت على التاريخ بشكل اقتحامي يفوق عنفه عنف مختلف المراحل السابقة.

فمن جملة ما فتكت به الراسمالية كان كل من الثورات والثقافات.

مع سيطرة نمط الإنتاج الرأسمالي على صعيد عالمي (طبعا بتفاوتات من حيث مستوى التطور الاقتصادي والتكنولوجي بين المركز والمحيط على تنوع درجات المحيط)، مع هذه السيطرة، تمكن المركز من خصي القوة الثورية للعمال في المركز.

كان ذلك عبر شراء قيادات الطبقة العاملة من النقابيين وتحويل الدولة باتجاه الرفاه وهي إلى حد كبير  تطبيق سياسات الفوردية  (أجور أعلى للعمال كي يستهلكوا) والكينزية (قيام الدولة بإنشاء قطاع عام وتوفير العمالة الكاملة) معا مما طوَّع وطبَّع الوعي العمالي لينحصر في نطاق تحسين الأجور او المطلبية الاقتصادية.

وكما يرى مفكرو الاقتصاد السياسي الماركسي، فإن أحد أهم اسباب تمكُّن الراسمالية في المركز من تحقيق ذلك هو عبورها مرحلة الازدهار وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وهي مرحلة قائمة على تحويل الاستعمار العسكري النهبوي المباشر للمحيط إلى الاستعمار الجديد بجوهره التبادل اللامتكافىء والذي يعني تحويلات هائلة من المحيط إلى المركز. هذه التحويلات سمحت للراسمالية في المركز بتقديم رشى للطبقة العاملة ساهمت في تخديرها.

وهنا بالطبع لا بد من الإشارة إلى أن الطبقات العاملة في المركز تعلم جيداً بأن الأنظمة الحاكمة/المالكة في بلدانها هي استعمارية وناهبة ودموية وعنفية وعنصرية تجاه المحيط. ومع ذلك تواطىء وعي هذه الطبقات وظلت تزعم بانها تعيش في مجتمعات مدنية.

من ناحية ثقافية تبلور في المركز الراسمالي تيار ثقافي يساري يقف بين الماركسية واللبرالية الراسمالية شكلا، بينما هو عملياً منحاز للراسمالية ممثلا في مدرسة فرانكفورت.

ما يهمنا في هذه المقالة أن هذه المدرسة أعطت أولوية للثقافة على العامل المادي في الماركسية. وكان من توليداتها أو توليفاتها “مساهمة” هربرت ماركوزة التي تجادل بان الطبقة العاملة لم تعد هي القوة الثورية في العالم وبأن المضيَّعين طبقيا وحثالة البروليتاريا…الخ هم القوة الثورية في النصف الثاني من القرن العشرين. وبالطبع، لم يكن الطلبة في الصين قد بدأوا الثورة الثقافية 1965، وبعدها تاثر بهم الطلبة في أوروبا وخاصة في فرنسا 1968.

لقد كان ماركوزة صحيحا في جانب أن الطبقة العاملة مخدرة أو مشتراة أو في حالة مساومة. لكنه كان على خطأ في مستويات اربع:

الأول: أن الطبقة العاملة لا يمكن أن تبقى اسيرة سيطرة ثقافة السوق وراس المال ولا وحدانية الثقافة على صعيد عالمي مما يلغي تراث ثقافة الأمم.

والثاني: أن الفقر يمكن أن يقود للإحباط وعدم الثورة،

والثالث: أن المضيعين والحثالة يمكن يكونوا قوة لصالح الثورة المضادة، لأن الوعي هو مركز العمل الثوري وهو ممكن للطبقة العاملة اكثر مما هو ممكن للمضيعين

والرابع: أن ثورة الطلبة بدون حزب ثوري ووعي طبقي أوسع من شريحة الطلبة لا يصمد.

وعليه، تم في المركز الراسمالي الإمبريالي قمع واحتواء ثورة الطلاب والعمال كذلك. أي تمكن راس المال من  تحويل مجرى الثورات في المركز بخصيها. ولعل اشد الإثباتات وضوحا ما جرى في الأزمة المالية الاقتصادية الجارية منذ عام 2008 وحتى اليوم. لم تشهد دول المركز تحركات طلابية عمالية وطبقةوسطى ذات بال، رغم اقتران ذلك بقيام الإمبريالية بإشعال حروب في كثير من مناطق العالم. وربما كان أحد اسباب الخمود هذا أن تلك الحروب شغلت مصانع الأسلحة وتكنولوجيا اللوجيست…الخ مما خلق فرص عمل وقلل من شدة الأزمة. وبالطع لن تتحرك قوى ثورة ماركوزة ومدرسة فرانكفورت. فلينتبه الطلبة في الجامعات لقيام المعلمين اللبراليين والمابعد حداثيين بتوزيع الوعي المتواطىء.

لكن  دوائر المخابرات الغربية والصهيونية استفادت كثيرا من أطروحة ماركوزة بشان الفقراء عامة والمضيعين طبقيا وحثالة البروليتاريا الموجودة في المحيط وخاصة في الوطن العربي.لا سيما وأن ماركوزة اشتغل في دوائر المخابرات الأميركية.

المثال الأوضح على تحويل مجرى الثورات، هو ما حصل من الثورة المضادة تجاه “الربيع العربي”، هذا الحراك الانتفاضي تم امتطائه وتحويله إلى صرخات تفريغ في مصر وإلى فريق للثورة المضادة في سوريا وليبيا واليمن.

أي ان الثورة المضادة تمكنت من تصنيع جيوش للثورة المضادة باسم الثورة تجندت من عشرات الدول التي تخلصت من المضيعين والحثالات فمولتهم ودربتهم وسلحتهم وزجت بهم في سوريا والعراق تحت مسميات ثورية. طبعا المجندين من المحيط والتمويل من ريع النفط العربي.

وبالطبع تركز الإمبريالية على التخلص من مختلف المهاجرين اليها من الأمم الأخرى وخاصة من العرب كي تقيم فيها ثقافة واحدة هي ثقافة راس المال والسوق والدين السياسي المحافظ الجديد.

وتعمل على اقتلاع المسيحيين العرب وغير العرب من الوطن العربي إلى أوروبا لاجتثاث التنوع الثقافي في الوطن العربي.

وفي حال كهذا تكون الإمبريالية قد جمعت ما بين دور المضيعين طبقيا والحثالة ليلعبوا دورا خاصا لصالح الثورة المضادة من جهة، وجعلت كل مجتمع بثقافة خاصة “نقية” ضد كل مجتمع آخر، اي خلقت مناخا لصراع الثقافات والأديان وهو ما غلفه هنتنجتون بصراع الحضارات والذي مثالة الأول في العنصرية والثقافة والدين الواحد هو الكيان الصهيوني الإشكنازي.

بل هو صراع الثقافات والأديان والألوان. لقد ثم إحداث الفقر في المحيط عبر الاستعمار ونهب الثروات بالتبادل اللامتكافىء وتثبيت أنظمة معادية لشعوبها وللحضارة والانتاج والتقدم والمرأة…الخ، ومن ثم تقوم باستثمار هذا الفقر والجريمة والضياع في مشروع حربي من الأمة ضد ذاتها استثمارا وحشياً يدمر الأمة العربية بايدي عربية ومسلمة وبكلفة مالية ذاتية.

وبهذا ينتصر في الوطن العربي كل من ماركوزة وهنتنجتون على ماركس والعروبة.