سلطات ومذاهب لبنان

ثريا عاصي


لمّحت في مقال سابق إلى فشل السلطات المذهبية التي تعاقبت على إدارة شؤون لبنان، في تأسيس دولة وطنية. كانت السلطة في البدء بيد المارونية السياسية . هذا تعبير يدل بحسب فهمي على فريق من الوجهاء ظهروا في مجال السياسة، كوسطاء بين الناس العاديين، الأصليين، من جهة وبين القوى الأجنبية التي احتلت لبنان أو وقع هذا الأخير تحت نفوذها من جهة ثانية. لا يتميز الموارنة بهذه الظاهرة من غيرهم . لكل طائفة أو مذهب «بكوات» (جمع بيك) ومشايخ . لا أظن أني أتجنّى في القول أن الوسطاء المذكورين كانوا في الواقع وكلاءَ القوى الأجنبية، يغلبون مصالح هذه الأخيرة على ما عداها .
تأسيسا عليه وباقتضاب شديد، لم يكن مفهوم الوطنية اللبنانية لدى السلطة المارونية في دلالاته الحقيقية والدقيقة، يعني أن لبنان وطن واحد لشعب واحد . كان من السهل دائما أن يـُلاحظ المراقب وجود ميل نشاز لدى السلطة المذكورة إلى فرض وتقوية «زعامة مارونية»، تحت رعاية «فرنسية». كان واضحا وجليا في الجانب الآخر انه لم يكن لدى السلطة السنية التي راحت تمسك تدريجيا، بزمام الأمور بالتلازم مع دخول فصائل المقاومة الفلسطينية إلى الساحة اللبنانية، مشروعا وطنيا لبنانيا. من البديهي أيضا أن هذه السلطة السنية راوغت عندما تكلمت عن إنتمائها إلى حركة التحرر العربية. فإذا استذكرنا الماضي أمكننا القول دون حرج أن غاية هذه السلطة كانت تأدية وظيفة خدماتية في ظل الأوضاع التي نتجت عن هزيمة حزيران 1967، حيث إنتقل مركز النفوذ في المنطقة من القاهرة الناصرية الجماهيرية إلى الرياض السعودية الثرية .
لست هنا في معرض تناول الأحداث التي حفلت بها فترة السبعينيات. فما أود الإشارة إليه هو أن الساح لم يبق خاليا مدة طويلة قبل أن تظهر معارضة للسياسات التي جرت محاولات تطبيقها بعد أفول شمس الناصرية. تجسد ذلك بالحرب العراقية الإيرانية ثم بانطلاقة المقاومة في لبنان ضد قوات الإحتلال الإستعماري الإسرائيلي. كانت المحصلة أن العراق تحطم. أما في لبنان، فلقد كان سقوط السلطة السنية مدويا. فرغت قصور السلطة. وصرنا نسمع فجأة، عن انتهاك السيادة الوطنية وعن السلاح اللاشرعي. إذ لم يكن أحد يتصور أن تنهض مقاومة في بلاد الأرز تفرض على المحتل الإنسحاب دون قيد أو شرط أو إتفاقية.
لا جدال في أن وجود المقاومة هو بحد ذاته شكل من أشكال السلطة المتمردة الثائرة التي تشكك في شرعية الذين يدعون الشرعية. اللافت للنظر في هذه المسألة هو التحالف الذي التأم في وقت قياسي، تحت تأثير عوامل خارجية طبعا، بدافع النخوة والحماسة على سيادة الدولة! بين السلطتين الفاشلتين السابقتين، المارونية والسنية، ضد سلطة المقاومة، المنشقة، الشيعية. ان وجود هذه الأخيرة يرتجع أمام اللبناني العاقل الأسباب والبيئة التي ولدت فيها هذه السلطة الشيعية. المفارقة أن الذين يطالبون «بحل سلطةالمقاومة»، لا يتناسون ظروف ولادتها وحسب ولكن يغفلون أيضا، لغاية في نفس يعقوب ربما، أن إحتمالية قيام المستعمرين الإسرائيليين بغزو لبنان واردة، وان الجيش اللبناني لا يمتلك الوسائل اللازمة للدفاع عن البلاد. مهما يكن فان التسليم، بضبابية المواقف في لبنان، لا يعفينا من البحث في طبيعة «السلطة الشيعية»، وحقيقة مشروعها .

( يتبع)

:::::

“الديار”