الطاهر المعز
تقديم:
يمكن اعتبار هذا المقال بمثابة تكملة أو تتمة لمقالات عديدة سابقة، منها عن “ميبي” و “أفريكوم” و “تطورات الوضع الدولي 2015″وعن “الاستراتيجيا العسكرية الأمريكية في منطقة آسيا والمحيط الهادي”، وغيرها من المقالات التي أثار بعضها ردودا عنيفة وشتائم واتهامات “بمعاداة الديمقراطية والحقد الدفين على الولايات المتحدة وما تمثله من مفاهيم ورموز للتحرر البشري” الخ وصدر أحد الردود عن “مكتب أو خلية الإتصال بوزارة الخارجية”، وكنت قد نشرت تعقيبا عليه تحت عنوان “قوة المنطق في مواجهة منطق القوة”، وتتسم هذه “الردود” الأمريكية بتجنب مناقشة صحة (أو عدم صحة) الوقائع والبيانات والأرقام أو المقتطفات التي نقتبسها من الصحف الأمريكية أو من التقارير الرسمية أو من خطابات ممثلي النظام الرسمي الأمريكي (الإدارة وأعضاء الكونغرس والوزراء والإحتياطي الفدرالي ، وهو بمثابة البنك المركزي…)، وكان الرفيق “مسعد عربيد” (من فريق “كنعان”) قد حلل في كتابه “أميركا الأخرى” وعدد من دراساته القيمة، المنشورة في مجلة “كنعان”، ميكانيزمات وأدوات هيمنة البرجوازية الإحتكارية على المجتمع الأمريكي من الداخل، وأسباب هيمنة الفكر الرجعي الظلامي على المجتمع، والإجماع (أو شبه الإجماع الظاهر) على عسكرة السياسة الخارجية وتأبيد سياسات الغزو والعدوان ضد شعوب العالم…
لن يأتي هذا المقال بالجديد، ولكنه يهدف إلى التذكير ببعض البديهيات، كي لا ننسى العدو الرئيسي (لنا كعرب ولشعوب العالم) المتمثل في الولايات المتحدة وفرعها الكيان الصهيوني (وليس إيران أو روسيا أو الصين، في الوقت الحاضر على الأقل)، مع الإبتعاد قدر الإمكان عن الجمل الفضفاضة والعبارات الجوفاء، مع محاولة الإعتماد قدر الإمكان على وقائع معترف بصحتها وجديتها (بما أنها من “عندهم”)، إضافة إلى التذكير بالمسار التاريخي الذي أفضى إلى هيمنة الإمبريالية الأمريكية على العالم…
يهدف هذا النص أساسا إلى إظهار الأرقام والدلائل التي لا تخول للولايات المتحدة ادعاء الديمقراطية والشفافية والحوكمة والموضوعية، لا على صعيد سياستها الداخلية إزاء مواطنيها، حيث أظهرت الإحتجاجات الأخيرة مدى استهتار الشرطة بحياة المواطنين السود واغتيالهم، دون أي محاسبة أو عقاب، ولا على الصعيد الخارجي حيث تميزت سياساتها (منذ أواخر القرن الثامن عشر) بتعدد الإعتداءات العسكرية والتدخل في شؤون جميع البلدان الصديقة وغير الصديقة، والتجسس على حكوماتها وشركاتها ومواطنيها، وشراء الذمم وإسقاط الحكومات، واحتلال البلدان وتقسيم الدول إلى كيانات طائفية وأثنية (أي ما قبل الدولة)، ويهمنا بشكل خاص، ما أعلنه حكام الولايات المتحدة من مخططات لتقسيم الوطن العربي، إلى ما أتعس من، وما دون حدود اتفاقية “سايكس – بيكو” الإستعمارية، وتأبيد سيطرة الكيان الصهيوني وتحويل الصراع الرئيسي مع العدو الصهيوني المحتل إلى صراع داخلي، بين العرب أو بين الأديان أو بين الطوائف، أو بينها جميعا، أو إلى صراع مع إيران أو الصين أو روسيا، ومهما تكن النتيجة فهي ليست في صالحنا، وإنما في صالح الكيان الصهيوني والولايات المتحدة وربما تركيا (على الصعيد الإقليمي)، عضو حلف شمال الأطلسي الخ.
من أدوات الهيمنة الخارجية:
اعتادت مؤسسات الدولة والإعلام الأمريكي اتهام كل ناقد لسياسة الولايات المتحدة وممارساتها ب”معاداة قيم الحرية والديمقراطية” و”ترويج نظرية المؤامرة”، وهي طريقة خبيثة لتجنب الرد على النقد جملة وتفصيلا، ولتشويه سمعة صاحب الرأي المخالف أو المعارض، ولإرهاقه بمحاولة الدفاع عن نفسه من زاوية لم يخترها، بل وضعه داخلها خبراء محترفون، محنكون ومتمرسون في مجال الدعاية والإشهار، ويتقنون فنون التشويه، ولأجل ذلك دأبت الحكومات الأمريكية، مهما كان الحزب الحاكم، على استخدام آلة إعلامية دعائية ضخمة، بموازاة الجيوش والتمويل المشبوه لمنظمات موجودة بالفعل أو أنشأها ممولوها “لغاية في نفس يعقوب”، وبذلك يصبح الجيش والسلاح والإعلام والتمويل عناصر متلازمة من مقومات إرساء الهيمنة الإمبريالية الأمريكية على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي أنهكت الإمبرياليتين الرئيسيتين آنذاك (بريطانيا وفرنسا)، بالإضافة إلى ألمانيا، وفقد الإتحاد السوفياتي نحو عشرين مليون مواطن، ما أتاح للولايات المتحدة أن تهيمن، وهي التي لم تخربها الحربان العالميتان، ولم تعان من ويلات الحرب، منها الخراب ونزوح السكان وتعطيل الإنتاج وقتل وإعاقة جيل كامل من الشبان والعمال والفلاحين الخ
في هذه الظروف انعقد مؤتمر “بريتن وودز” سنة 1944، قبل انتهاء الحرب، ونصب اللقاء الولايات المتحدة قوة مهيمنة على العالم، لزعامة “النظام العالمي الجديد”، وبناء نظام اقتصادي عالمي مبني على استقرار مالي وأسس لتجارة عالمية “حرة”، مبنية على استقرار قيمة العملات مقابل الدولار وتحويل كل 35 دولار إلى أونصة (أوقية) من الذهب (إلى غاية 1971)، وتثبيت قيمة التبادل التجاري العالمي في إطار الدولار، ما أدى إلى مضاعفة احتياطيها من الذهب بين سنتي 1947 و 1968، وتسهر الولايات المتحدة على إدارة ودعم المعاملات التجارية العالمية، التي أقصي منها الإتحاد السوفياتي (المنتصر الثاني في الحرب رغم الدمار والخسائر الكبيرة)، الذي يتبنى الإقتصاد المخطط (أو الإشتراكي)، نقيضا ل”التبادل التجاري الحر”، واكتملت الهيمنة الإقتصادية الأمريكية على العالم إثر تأسيس “صندوق النقد الدولي” و “البنك العالمي” (كان يسمى بنك الإنشاء والتعمير) نظام الاقتصاد، وجرت مفاوضات “لتحرير التجارة العالمية” أفضت إلى “الإتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة” (غات “GATT”) سنة 1947 وهي نفس السنة التي اعتمدت فيها أمريكا مشروع “مارشال” لإعادة بناء أوربا المدمرة، مقابل قواعد عسكرية ضخمة وهيمنة سياسية، جعلت من أوروبا حليفا وفيا للولايات المتحدة ضد الإتحاد السوفياتي وعدوا للإشتراكية كفكر وكمشروع، وبذلك اكتملت مقومات الهيمنة الإقتصادية الأمريكية على العالم، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية
إلى جانب الهيمنة الإقتصادية أسست الولايات المتحدة جهازا إعلاميا ضخما قويا وفعالا، لبث الدعاية المناهضة للإتحاد السوفياتي وللإشتراكية (كفكرة) ولحركات التحرر، وشمل الجهاز الدعائي الضخم السينما التي كانت تشكل أداة “بروباغندا” حديثة بعد الحرب العالمية الثانية، ومحطات البث التلفزيوني “العالمية” مثل “سي أن أن” الناطقة بلغات مختلفة، ومحطات إذاعية بمختلف اللغات، منها إذاعة “صوت أمريكا” في برلين الغربية، التي كانت توجه برامجها نحو أوروبا الشرقية، مركزة على “الحرية” التي انتشرت حيث وجدت القواعد العسكرية الأمريكية (حسب الإذاعة)، وكانت هذه الدعاية مدروسة بعناية بواسطة أجهزة المخابرات وباحثين مختصين يشرفون على هذه المادة “الإعلامية” (الدعائية)، قبل أن تطور الشبكات التلفزيونية الأمريكية نشر “نمط العيش الأمريكي”، من خلال مختلف البرامج والمسلسلات والأشرطة والوثائق، كما طورت فن المضايقة ونشر الدعاية الكاذبة والوثائق المزيفة والصور المركبة والملفقة، على نطاق واسع، عابر للقارات، مثل قضية “أسلحة الدمار الشامل” الكاذبة في العراق، قبل الإحتلال، وبعد الإحتلال أسست المخابرات الأمريكية قناة “الحرة” و”سوا”، لتكون دعايتها (الذكية) مكملة للإحتلال العسكري والنهب الإقتصادي، وأظهر الجهاز الدعائي (الإعلامي) الأمريكي براعة فائقة فی خداع الراي العام الداخلي (الامیركي) عبر مزاعم اقامة الدیمقراطیة في الدول “المتخلفة” أو التي تحكمها دكتاتوريات، في حين نظمت الولايات المتحدة عشرات الإنقلابات والمجازر في امريكا الجنوبية، ضد حكومات منتخبة ديمقراطيا، وأشرفت المخابرات الأمريكية انقلابا ضد حكومة محمد مصدق في إيران الذي أراد تأميم النفط (1953) وأشرفت في آسيا على مجازر أندونيسيا وماليزيا (قتل نصف مليون “شيوعي” في كل منهما) ناهيك عن تنصيب ضباط انقلابيين في كمبوديا وفيتنام الجنوبي وكوريا وغيرها، وأثمرت “ديمقراطية” (سي أي إي) المستوحاة من غزو “الأسلاف”، ملايين الضحايا، أما في العقود الأخيرة فقد أسست الحكومة الأمريكية عدد هاما من “منظمات حقوق الإنسان” التي تمولها مباشرة مثل “هيومن رايتس واتنش”، لتستخدمها عصا “ديمقراطية” ضد الحكومات التي تعارض (أو لا تتفق مع) سياساتها العدوانية، إضافة إلى تأسيس وتمويل المنظمات “غير الحكومية” التي تخرب المجتمعات من الداخل، ناهيك عن سيطرتها على الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، واستخدامها لصالحها كلما اقتضى الأمر ذلك، بمساندة مطلقة من بريطانيا وكندا وأستراليا واليابان وغيرها، وعندما لا تكون نتيجة قرار الأمم المتحدة مضمونة، تتحدى الولايات المتحدة كل العالم وتشن الحروب التي قررت القيام بها
إدارة الصراعات الداخلية:
بني تاريخ الإستيطان الأوروبي في أمريكا الشمالية على الكذب والأساطير المختلقة، التي وقع ترويجها على نطاق واسع، حتى أصبحت تلقن إلى الأطفال الصغار الأبرياء في المدارس، منها أسطورة “التأسيس” ووصول الباخرة “ماي فلور” سنة 1620، والواقع أن أسلاف الأمريكيين (أؤلئك الأوروبيين البيض) فتكوا بالسكان الأصلانيين للبلاد، حيث قتلوا منهم ما بين 70 مليون و112 مليون (باختلاف الروايات)، وافتكوا منهم أراضيهم وبلادهم وحظروا عليهم الحديث بلغتهم ونفوا حضارتهم، وحلل رجال الدين قتلهم لأنهم حسب زعمهم كالحيوانات “ليست لهم أرواح”، وكان ذلك الدرس الأول في نشر الدعاية الكاذبة على نطاق واسع، وتغليفها بأسطورة شبيهة بأساطير الصهاينة (“شعب الله المختار” و”أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”…)، وتلك هي بداية التقارب بين بعض فرق المسيحية والصهيونية، ولا ننسى أن أوائل الدعاة البروتستنت الأوروبيين (أجداد الأمريكيين البيض) كانوا أول من دعا إلى تجميع اليهود في فلسطين، لكي يسرعوا عودة المسيح…
مثلت الحملة التي عرفت باسم “المكارثية”، نسبة إلى السناتور “جوزيف مكارثي” إرهابا ثقافيا داخليا لا مثيل له، وكان السناتور رئيسا لإحدى اللجان الفرعية بمجلس الشيوخ، واتهم عددا من موظفي الحكومة و بخاصة في وزارة الخارجية والأدباء والفنانين والنقابيين وكل من لا يتفق مع السياسة العدوانية للولايات المتحدة في آسيا وأمريكا الجنوبية باعتناق الشيوعية (في بلد “الحرية المطلقة!”)، وكان سببا في سجن بعضهم وطرد آخرين من العمل ومقاطعة شركات الإنتاج لبعض الممثلين والمخرجين والموسيقيين المتهمين بالشيوعية والعمل لمصلحة الإتحاد السوفياتي، وبعد تصفية الفكر التقدمي أو حتى غير المتفق تماما مع سياسات الحكومة، أصدر مجلس الشيوخ سنة 1954 قرارا “بتوجيه اللوم” للسناتور، بعدما تبين زيف اتهاماته وخلوها من أي أساس مادي
منذ عقد الخمسينات من القرن العشرين، انطلق نضال المواطنين السود، أحفاد العبيد الأفارقة الذين كان لهم الفضل في ازدهار الزراعة وتحقيق وتعزيز “التراكم البدائي لرأس المال”، الذي أدى بدوره إلى ازدهار الصناعة (صناعة السيارات ثم السلاح والإلكترونيك والتقنيات الحديثة)، وكان نضالهم منطلقا لحراك جماهيري في أواخر الخمسينات والستينات، يهدف إلى إنهاء الفصل العنصري في الجنوب، وإلى التخفيف من حدة السياسات “المحافظة” التي خلفتها “المكارثية” التي بقيت مهيمنة على المناخ السياسي والثقافي، وأدت حركة الحقوق المدنية التي جندت عشرات وربما مئات الآلاف من المناضلين السود والبيض، إلى وضع حد لقوانين “جِم كرو” التي أسست للفصل العنصري وحرمت المواطنين السود من حقوقهم الأساسية، وارتبطت هذه الحركة بمرحلة ازدهار حركات التغيير الاجتماعي، ما أعاد الفكر الإشتراكي إلى التداول في الولايات المتحدة (بعد المكارثية)، كما تزامنت هذه النضالات ذات الصبغة الإجتماعية مع النضالات التي اتسعت شيئا فشيئا ضد حرب فيتنام، وهي من الفترات النادرة في تاريخ الولايات المتحدة التي امتزج فيها النضال الديمقراطي مع النضال ضد هيمنة “امبرياليتهم” من خلال الحروب والتوسع والعدوان… لكن النظام استطاع احتواء هذه النضالات وهؤلاء المناضلين، ثم كسر شوكة من لم يستطع احتواءهم فحرمهم من العمل ورمى بهم في السجون، وشوه سمعتهم بتلفيق أكاذيب عن حياتهم الخاصة واتهمهم بالتجسس الخ، والتحق جزء كبير من مناضلي اليسار المتجذر في الستينات والسبعينات، بالحزب الديموقراطي، الحزب الذي خاض في الستينات حرب فييتنام و أيّد قوانين “جيم كرو” في الجنوب، وبذلك حدثت قطيعة اليسار الأمريكي مع تراث النضال الشعبي والجماهيري… وكان السود والفقراء أكبر الخاسرين من غيبوبة اليسار، واتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء (التي تعد الأوسع في العالم) وبين السود والبيض، وتعمقت الهوة بين المواطنين البيض والمواطنين السود بخصوص الدخل والعمل ومستوى المعيشة والتعليم، والرعاية الصحية، وكل المؤشرٍات الأخرى لقياس مستوى العيش، بحسب الرابطة المدنية الوطنية وساء الوضع الإقتصادي للسود بين سنتي 2005 و 2014 بحوالي 20% وتفوق بطالة السود 2,6 مرة بطالة البيض، وفي سنة 2006 أي قبل الأزمة المالية، بلغت نسبة تملّك المنازل لدى السود أقل من 50% مقابل أكثر من 70% لدى البيض، رغم تحسن نسبة الرهن العقاري و قروض تحسين المساكن للأفارقة الأمريكيين، ويعاني المواطنون السود من عدم المساواة في نظام القضاء الجنائي، فاحتمال سجنِ السود بعد اعتقالهم، أكثر بثلاث مرات من البيض ومعدّل مدة حكم السجن أكثر بـ6 أشهر من البيض المدانين بنفس الجرائم (معدل 39 شهرا للسود مقابل 33 للبيض)، ونذكر أن القطاع الخاص يدير السجون الأمريكية، ويسدد قسطا من الأرباح إلى الإدارة المحلية، وكلاهما يحاول ملء السجون، لأن عمل المساجين شبه إجباري، ويدر أموالا كثيرة على مؤسسات النسيج وصناعة الآلات المنزلية وعدد هام من التجهيزات الكهربائية، والجيش (صناعة الملابس العسكرية والخوذات والملابس الواقية)، ما يجعل ملء السجون بالفقراء (وعدد هام منهم أبرياء) عملا مربحا اقتصاديا، وتعد الولايات المتحدة من أكثر المساجين عددا، مقارنة بعدد السكان… وأثر غياب اليسار سلبا في الحركة العمالية وحركات حقوق النساء ونضالات الأقليات والفقراء، خلال العقود الثلاثة الماضية (منذ وصول “رونالد ريغن” إلى البيت الأبيض)، وكدليل على انحداره إلى الدرك الأسفل، دعا “اليسار” مثلا إلى مساندة الديمقراطي “جون كيري” (وزير الخارجية الحالي سنة 2015) ضد جورج بوش الإبن في الإنتخابات الرئاسية سنة 2004 رغم مواقف “كيري” بشأن حرب العراق و قانون “الباتريوت أكت” والعديد من المسائل الأخرى، التي تطابقت فيها مواقفه مع مواقف بوش، أو كادت
على الصعيد الخارجي:
سياسيا: تستثمر الولايات المتحدة بعض ملايين الدولارات في المنظمات “غير الحكومية”، الحقوقية والإنسانية ومراكز البحث والدراسات الخ بهدف التغطية على ما يقوم به الجيش الأمريكي والمخابرات الأمريكية من اختطافات وتعذيب واحتجاز أشخاص ونفيهم، من ديارهم ومدنهم وقراهم إلى سجون سرية لا تخضع لأي قانون أو رقابة أو محاسبة، والولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة (إلى جانب كيان الإحتلال الصهيوني) التي تخصص ميزانية وفرقا مختصة وطائرات آلية، من أجل اغتيال أشخاص يشتبه في معاداتهم لسياسات الولايات المتحدة، وذلك على بعد أكثر من عشرة آلاف كيلومتر من حدودها، دون أي تتبع أو تدخل للجهاز القضائي أو محاكمة أو استدعاء شهود، ودون تمكين هؤلاء المسجلين في قائمة الإغتيال، من الدفاع عن أنفسهم، ويشرف الرئيس الأمريكي بنفسه على إعداد قوائم الإغتيال والتصفيات الجسدية، والعمليات الإجرامية، وهو صاحب جائزة “نوبل” للسلام (ياسلام!)، وتملك وزارة الحرب ووكالة المخابرات المركزية نحو ألف طائرة آلية حربية (درونز)، بعضها قادر على إطلاق 14 صاروخ فتاك من طراز “نار جهنم”، ما مكنها من اغتيال حوالي خمسة آلاف “مدني”، كانوا متواجدين بالصدفة في مكان الإغتيال، في الصومال واليمن وأفغانستان وباكستان والعراق، وسلجوا في عداد “الخسائر الجانبية”، أي لم يكونوا هدفا معلنا لعملية الإغتيال (وهو إعدام خارج إطار القانون)… كيف يسمح العالم، رغم كل هذه الجرائم، لأجهزة الدعاية في الولايات المتحدة بالحديث عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؟
اقتصاديا: انخفضت قدرات الإقتصاد الأمريكي على المنافسة، منذ مدة طويلة، إذ تظهر الإحصاءات والارقام أن اميركا منذ عام 1970 وحتى الآن تواجه انخفاضاً مستمراً في النمو الاقتصادي وعجزا غير مسبوق في الميزانية بقيمة 1,8 تريليون دولارا سنة 2014، وتفوق قيمة الديون الأمريكية (سنة 2011) أربعة اضعاف المیزانیة السنویة لهذا البلد، وبلغت قيمة الدين الخارجي 15,404 تريليون دولارا سنة 2011، وهي أكبر دولة مستدينة في تاريخ البشرية، ولكنها أيضا الدولة الوحيدة التي لا تسدد ديونها، لأن ديونها مقومة بالدولار، الذي يعتبر سلعة تباع وتشترى في جميع أرجاء العالم، وجميع المنتوجات العالمية مقومة أيضا بالدولار، ولكن الإحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأمريكي) يتحكم في طباعته وترويجه في العالم، ويمكن للولايات المتحدة تخفيض قيمة ديونها بمجرد خفض قيمة الدولار…
تؤكد بيانات كثيرة (وهي جزء يسير من الواقع) انهیار اقتصاد الولايات المتحدة، وأظهرت التجارب لجوء قادة البیت الابیض الى الحروب لكي ینقذوا الإقتصاد الأمريكي من الافلاس عبر تصدیر الأزمة الى البلدان الاخري، كلما اقترب الإقتصاد الأمريكي من مرحلة الانهیار، وانخفضت حصة أمريكا من انتاج الثروة العالمية من قرابة %40 أثناء الحرب العالمية الثانية إلى 25% حاليا وانخفضت حصتها من التبادل التجاري العالمي منذ 1970 وأصبحت بعض البلدان أو المجموعات قادرة على منافسة الولايات المتحدة، مثل اليابان والإتحاد الأوروبي ثم الصين حاليا، وربما مجموعة “بريكس” في وقت قريب، بما في ذلك على مستوى التكنولوجيا المتقدمة، وأصبحت أمريكا غير قادرة على “اقرار النظام وتثبيت الاستقرار في النظام الاقتصادي العالمي” وهي المهمات التي فرضتها على العالم غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحولت، منذ 2008 إلى منتج ومروج لأزمة الرأسمالية في كافة مناطق العالم، ما قوض سلطتها التي فرضتها طيلة نحو سبعة عقود، ورغم انهيار المنافس الرئيسي لها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (الإتحاد السوفياتي) فإن مجموعات أخرى ظهرت لتتمرد على سلطة صاحب العصا الغليظة، سواء في امريكا الجنوبية، التي كانت تعتبرها فناءها الخلفي، او في الصين أو روسيا أو إيران أو مجموعات “بريكس” و”مجموعة شنغهاي” الخ
أظهرت الأزمة التي عرفت باسم “الرهن العقاري” في الولايات المتحدة بداية من 2008، وما تلاها من أزمات في منطقة “اليورو”، تغييرا في الموازين العالمية وفي حركة رأس المال، الذي تحول نحو مراكز جديدة للاستثمار، واقتنصت الصين هذه الفرصة لتعزيز موقعها، بداية من آسيا، حيث تريد الولايات المتحدة محاصرتها عسكريا، من خلال نقل 60% من أسطولها العسكري البحري إلى المناطق المحيطة بالصين، التي أعلنت عدة مبادرات منها تأسيس “البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية”، بهدف منافسة “بنك التنمية الآسيوي” الذي تستخدمه الولايات المتحدة واليابان للسيطرة على أسواق آسيا، ويبدو أن الصين درست هذا المشروع بعناية، إذ سيركز على الإقتصاد الحقيقي (البنية التحتية)، مضمونة العوائد، للأموال الموظفة فيه، خلافا لتوظيف الأموال في شراء سندات دين قد تبتلعها الفقاعات المالية، ومن شأن هذا المصرف، مثل مصرف “بريكس” أن يفسح المجال لبعض الدول الآسيوية من الإفلات من قبضة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ومن تحمل شروطهما المجحفة، باعتبارهما أداتان تخضعان للولايات المتحدة ولبعض الدول الإمبريالية الأخرى التي نهبت ثروات بلدان “الجنوب” لفترة طويلة، ولم تستطع الولايات المتحدة منع أقرب حلفائها من الإنضمام لهذه المبادرة الصينية (في منطقة جنوب شرق آسيا التي تشهد تحولات سياسية واقتصادية هامة)، ما قد يشير إلى تغيير في موازين القوى على الصعيد الإقتصادي، وقد يعني ذلك تحول مركز التراكم الرأسمالي من الشمال إلى الجنوب، وبالتالي تحول حجم النفوذ السياسي العالمي، وربما العسكري أيضا بعد سنوات أو عقود (ولا يعني ذلك بالضرورة تحولا لصالحنا كعرب وكشعوب مهيمن عليها)
عسكرة الإقتصاد والسياسة الخارجية الأمريكية:
من الملفت للإنتباه أن يتناول وزير الحرب الأمريكي “أشتون كارتر” موضوع المشاريع الاقتصادية الأميركية في آسيا “التي باتت مهدّدة بالتوسّع الصيني الذي سيبتلع الأسواق” حسب رأيه، ما يهدد “اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ”، التي أسستها الولايات المتحدة مع حلفائها المقربين مثل اليابان، ويهدد الولايات المتحدة “بالخروج من اللعبة وفقدان نفوذها الذي بدأت في نسجه في المنطقة منذ أكثر من قرن، وبالخصوص منذ الحرب العالمية الثانية، بعد القضاء على النفوذ العسكري لليابان بواسطة السلاح النووي، ودأبت الولايات المتحدة على تقديم الهيمنة الإقتصادية الأمريكية في منطقة ما، بمثابة الحفاظ على “الأمن القومي الأمريكي”، ضاربة عرض الحائط بمبادئ الرأسمالية الليبرالية التي تدعي الدفاع عن حرية التجارة والمنافسة الحرة ومنع الإحتكار، وهو ما تدافع عنه أمريكا، طالما كان في صالحها، وبدأت الولايات المتحدة في تشجيع حلفائها التقليديين (اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وتايوان) والجدد (فيتنام) على التصادم مع الصين، بسبب الخلافات حول السيادة على بعض الجزر في بحر الصين الشرقي والجنوبي، ولو أدى ذلك إلى الصدام العسكري، بهدف دفع الصين نحو سباق التسلح، مثلما فعلت مع الإتحاد السوفياتي لإرهاق اقتصاده وتحويل الأموال التي كانت مخصصة للتصنيع والتنمية والبحث العلمي، إلى شراء أو تصنيع الأسلحة وتكديس المزيد منها، لخلق “توازن الرعب”، دون أن يفضي ذلك بالضرورة إلى تصادم فعلي، ولئن كانت الصين حاليا قادرة على منافسة الولايات المتحدة اقتصاديا وتجاريا، وأظهرت أن الحزب “الشيوعي” الصيني مدرسة ذات باع هام في إدارة الإقتصاد الرأسمالي، فإنها غير قادرة على تشتيت جهودها وإدارة الصرعات في جبهات متعددة، منها غزو مزيد من الأسواق وإدارة الصراع مع الجيران (خصوصا اليابان) وزيادة الإنفاق على التسلح الخ، ولكن الأساليب العدوانية الأمريكية دفعت الصين وروسيا إلى التقارب في مجالات عدة، وإلى تعزيز التعاون بينهما، ما قد يؤشر إلى خلق توازنات عالمية جديدة، خصوصا لو تمكنت البلدان الكبرى في مجموعة “بريكس (البرازيل وجنوب افريقيا) من تخطي أزماتها، ما قد يؤشر إلى نهاية استخدام القوة العسكرية الذي فرضته أمريكا، لتحقيق التراكم الرأسمالي، ويؤذن بإصلاحات داخل النظام الرأسمالي نفسه (وليس لتجاوزه)، بهدف العودة إلى “حرية المنافسة” ولو إلى حين، ولذلك فإن ما يحدث حاليا هو مجرد عملية إنهاك (ربما بطيء) لطرف كان مهيمنا لعدة عقود (الولايات المتحدة) لصالح أطراف رأسمالية أخرى صاعدة، قد تكون أقل شراسة في البداية (الصين وروسيا) ولكنها حتما ستتحول إلى موقع الهيمنة والإحتكار، إذا لم تجد معارضة من ذوي المصلحة في القضاء على الإستغلال والإضطهاد، ويبقى حكمنا دائما وأبدا مبنيا على مدى تحقيق مصالح العمال والفلاحين والكادحين والفقراء والشعوب المضطهدة (بفتح الهاء)، ومدى وقوف هذه القوى الصاعدة مع حق الشعب الفلسطيني في وطنه كاملا، وكذلك حقوق بقية الشعوب
من أدوات الهيمنة “الناعمة”:
نظمت الولايات المتحدة أكثر من 40 انقلاباً و30 عدواناً خلال 50 سنة في القرن العشرين، إضافة إلى غزو المكسيك ونيكاراغوا والبيرو وبنما وكولومبيا وهاييتي وتشيلي وهندوراس في القرن التاسع عشر، ثم حاولت أمريكا تجميل عمليات التدخل في شؤون البلدان الأخرى من خلال تأسيس ما سمي “فيالق السلام” خلال حكم الرئيس “جون كنيدي” سنة 1961، في ست بلدان في بادئ الأمر، ثم ارتفع العدد وبلغ إجمالي عدد “المتطوعين” 200 ألف أمريكي عملوا في نحو 140 بلد، وفي الدول العربية نشط هؤلاء الجواسيس في موريتانيا والمغرب وتونس وليبيا والسودان والصومال واليمن وسلطنة ُعمان والأردن، ويبلغ عدد “المتطوعين” حاليا 8655 متطوعا ومتطوعة، منهم 60 %إناث و40% ذكور و7% منهم فقط متزوجون و7% منهم تجاوزت أعمارهم الخمسين عاماً، وتبلغ قيمة ميزانية فيالق السلام السنوية 400 مليون دولار، ويتوزع نشاطها في افريقيا بنسبة 37% وفي أمريكا الجنوبية بنسبة 24% وفي أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى بنسبة 21%، وفي آسيا بنسبة 7%، وفي جزر بحر الكاريبي بنسبة 7% والدول العربية بنسبة 4% (وتسميها أمريكا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) ، ومنذ 1981 أصدر الكونغرس تشريعا يجعل من “فيالق السلام” وكالة حكومية مستقلة (رغم تبعيتها لوزارة الخارجية)، وأسست سنة 1989 مدارس “وورلد وايز” أو “حكماء العالم” وهو برنامج يشجع الطلاب في أمريكا على التراسل مع متطوعين(من فيالق السلام) يعملون وراء البحار، بهدف تدريب الطلاب الأمريكيين على الدعاية لصالح سياسة الولايات المتحدة، وشاركت أكثر من 550 مدرسة في هذا البرنامج، خلال سنته الأولى، ووفقاً لمدير فيالق السلام السابق (غادي فاسكويز) “يحاول المتطوعون الأمريكيون الذين يعيشون ويعملون مدة سنتين، الإنغراس والتجذر على مستوى القواعد والجذور الشعبية بين المجتمعات الأجنبية لتبديد حذر بعض الحكومات، ويحاولون تقديم بعض الخدمات مثل الرعاية الصحية والتنمية الريفية، للفوز بترحيب وتكريم السكان المحليين ولكي يتمتعوا بحصانة ضد شعور العداء تجاه السياسة الأمريكية، كما هو الأمر في الوطن العربي، حيث يعمل حوالي ألف متطوع في 12 بلد عربي من إجمالي 6680 متطوعاً يخدمون في 70 بلدا سنة 2012 ” وهذه الفقرة تغنينا عن التعليق.
إضافة إلى هذا العش من الدبابير (أو الجواسيس الذين يتقنون لغة ولهجة المنطقة التي يعملون بها) تشرف وزارة الخارجية مباشرة على “مبادرة الشراكة الأمريكية مع الشرق الأوسط” (ميبي) وهي مؤسسة مخصصة للدعاية الإيديولوجية ولغسيل الدماغ في الوطن العربي، ومكتبها الرئيسي في تونس (إضافة إلى مكتب فرعي في “أبو ظبي”)، وتهتم بتدريب الشبان من طلبة وصحافيين ومحامين وأرباب عمل، على القيادة (لأنهم قادة المستقبل)، ودربت منذ 2005 أكثر من 11 ألف شاب وشابة عرب (منهم اليمنية الإخوانجية توكل كرمان صاحبة جائزة نوبل للسلام وبعض متزعمي الجبهة الإعلامية لانتفاضة مصر في 2011)، من أجل “تبادل الأفكار حول دفع عملية إصلاح المجتمعات المدنية”، وتغري “ميبي” الشباب العرب بالمنح والسفريات واللقاءات بين المجموعات المحلية أو بين المجموعات العربية، لدراسة وتنفيذ “مشاريع رائدة، تساعدهم على إحداث تغيير في مجتمعاتهم، وبناء الديمقراطية وتمكين المرأة وتعزيز فرص العمل للشباب”، وتنتقي وزارة الخارجية الأمريكية الشباب من الدول العربية للدراسة المكثفة لمدة ستة أسابيع في مؤسسات أكاديمية في امريكا، حيث “يتعلمون المهارات القيادية وأساليب تطبيق العملية الديمقراطية في مجتمعاتهم”، ويجتمعون مع نظرائهم الأمريكيين بهدف “التدرب على قيادة وإدارة أنشطة المجتمع المحلي، والمشاركة في تطبيق البرامج الحكومية على المستوى المحلي والوطني”، ودعت وزارة الخارجية (كوندزوليسا رايس) 40 امرأة عربية لمواكبة الحملة الأنتخابية سنة 2008 لمدة 15 يوما، في إطار التدريب على الديمقراطية… ونشأ برنامج “ميبي” بعد تقييم أمريكي لنشاط “فيالق السلام”، وتقييم أنشطة المخابرات الأمريكية وكذلك نشاط المنظمات “غير الحكومية” التي أنشأتها في أوروبا الشرقية (جورجيا وأوكرانيا وبولندا ورومانيا) وفي يوغسلافيا بهدف تفتيتها، وأعادت وزارة الخارجية وأجهزة المخابرات الأمريكية صياغة وسائل التدخل في شؤون الدول (بهدف تخريبها) باسم “الديمقراطية القاعدية” (أي نبذ الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية غير الممولة أجنبيا)، وتقصي هذه الديمقراطية “القاعدية” الفقراء والعمال والكادحين والعاطلين وتنبذهم، وتركز على “الفئات الوسطى” المتعلمة والمنبهرة بإنجازات “الديمقراطية الغربية والليبرالية الإقتصادية والعولمة الرأسمالية”، وهي نفس الفئات التي تتزعم ندوات “المنتدى الإجتماعي العالمي” الذي أريد له في البداية أن يكون نقيض “المنتدى الإقتصادي العالمي”، منتدى أثرياء العالم في “دافوس”، ولكنه تحول إلى نوع من “السياحة الإجتماعية” التي لا ترى من البلد الذي تزوره سوى بضع عشرات من أفراد الفئات الوسطى التي تربت في أحضان المنظمات “غير الحكومية”، وتدافع عن “المبادرة الحرة” (أي الخاصة) والحوار مع “الآخر” ولو كان مستوطنا، مستعمرا لأوطاننا، كما تدافع عن التطبيع، بحجة عدم الإقصاء والنضال بالطرق السلمية والمتحضرة الخ
خاتمة:
قتلت العدوانات العسكرية الامیركیة الملایین من الأبرياء في العالم بدعم من بلدان أوروبا وكندا وأستراليا واليابان، وتحت غطاء الامم المتحدة أحيانا، بذریعة ارساء السلام ومساعدة الشعوب وتقوم أمريكا بالتدخل في الشؤون الداخلیة لبلدان العالم وتضع العقبات في طریق تقدمها، وإلى جانب الإعتداءات العسكرية والحروب، تعتمد الولايات المتحدة على ترسانة من أدوات التدخل “الناعم” أو الخفي، منها تمويل أجهزة إعلام، تعمل بشكل حرفي وبتقنيات عالية، وتمارس الدعاية الخفية لصالح العولمة والديمقراطية بحسب الرؤية الأمريكية، وتروج للتطبيع بحذق (كما فعلت “الجزيرة” و”العربية” مثلا) ولا تثير ريبة أغلبية المواطنين المستهدفين، في البداية، وكذا فعلت في بولندا سنة 1980 وفي العراق سنة 2003 وفي جورجيا وفي أوكرانيا منذ 2001 إلى جانب تمويل منظمات فاشية مثل “سفوبودا” و “رايت سكتور” (أي النهج القويم، أو السراط المستقيم) اللذين يحكمان أوكرانيا حاليا، ويترأسهما أثرى أثرياء البلاد، وكذلك فيلق “أزوف” الذي يديره ضباط صهاينة، أثناء احتلال ساحة “الميدان” في العاصمة “كييف”، بحسب صحيفة “ذي غارديان” البريطانية (10/09/2014) ومجلة “فورين بوليسي” الأمريكية (12/03/2015) و”بي بي سي” (16/07/2014) وتشارك الشركة الأمنية الأمريكية “أكادمي” (“بلاك ووتر” سابقا التي حاربت في العراق وفي أفغانستان) في المعارك الدائرة شرق أوكرانيا بنحو 400 مرتزق، تمول الولايات المتحدة رواتبهم بمنح تسلمها إلى أطراف ثالثة منها حكومة أوكرانيا، بحسب صحيفة “بيلت” الألمانية (26/01/2015) و”باري ماتش” الفرنسية (15/03/2014)، ومنذ 2007 ساهمت حكومة الولايات المتحدة مباشرة في دعم وسائل الإعلام الإلكترونية الأوكرانية المناهضة لروسيا بقيمة 25,5 مليون دولارا، وتعاونت منظمات أمريكية تدعي أنها “غير حكومية” مع وكالة المخابرات المركزية في جمع المعلومات وإرشاد المخابرات وكتابة التقارير ودراسة المتجتمعات في بقاع عديدة من العالم، وهي منظمات يمولها “الكونغرس” الأمريكي، للمساهمة في الحرب الإيديولوجية، ومن أشهر هذه المنظمات “فريدوم هاوس” و (National Democratic Institute – NDI) و (National Endowment for Democraty – NED) وبلغت “منح” حكومة الولايات المتحدة لوسائل الإعلام الأجنبية 142 مليون دولارا سنة 2006 وارتفعت بنسبة 37% سنويا إلى غاية سنة 2010 إضافة إلى “المنح” التي تقدمها وكالة التعاون الدولي (يو إس آيد” ) التي قدمت وحدها 4,55 مليون دولارا لمساعدة وسائل الإعلام الروسية المعارضة للحكومة سنة 2012 ومنذ 2010 أنفقت حكومة الولايات المتحدة نحو نصف مليار دولارا “لتطوير الإعلام” في مختلف أرجاء العالم، إضافة إلى “المنح” الأخرى التي تقدمها مختلف المؤسسات والمنظمات الأمريكية التي تدعي الحياد والإستقلالية…
في الوطن العربي، يتصرف سفراء الولايات المتحدة في لبنان ومصر وتونس وكأنهم الحكام الفعليون للبلاد، ولما احتجت وزارة الخارجية الجزائرية على تدخل السفير الأمريكي في شؤونها، لما اختلق مكان وزمان قنبلة ستنفجر بعد أيام، أجاب أنه يمثل الشعب الأمريكي لدى الشعب الجزائري ولا احد يستطيع أن يمنعه من التنقل والحديث مع من يشاء، ويذكر بعضنا كيف تصرف السفير الأمريكي (والفرنسي) في سوريا خلال شهر آذار 2011، عندما أراد الإلتحاق بالمتظاهرين، رغم تحذير السلطات السورية، ولما منعته الشرطة السورية من عبور الحواجز، احتجت حكومته رسميا لدى الحكومة السورية، ولن ننسى خطاب وزيرة الخارجية “هيلاري كلينتون” في ساحة التحرير الخ… واعتادت الولايات المتحدة مساندة الحكام العرب مثل حسني مبارك وزين العابدين بن علي (إلا من عارضها وهم قلة) ولكنها تتصل بالمعارضة “المعتدلة” مثل الإخوان المسلمين واللبراليين وحتى بعض “التقدمين”، لتستمع إلى ما يقولون وتزودهم ببعض “المعلومات والنصائح”، ولما اندلعت الإنتفاضة في تونس ثم في مصر، كان لأمريكا من يمثلها في الإجتماعات والمظاهرات، وهم من الشباب الذين دربتهم ضمن برنامج “ميبي” أو ضمن “برامج التعاون والشراكة” التي تمولها “يو إس أيد”، أو “نيد” وغيرها من المنظمات الأمريكية، وساهمت (IFES) الأمريكية والإتحاد الأوروبي (بواسطة جمعيات ومنظمات “مسار برشلونة”) في التنظيم والإشراف على الإنتخابات في تونس ومصر، وتدريب وتأهيل المشرفين على مكاتب الإقتراع، ولا زالت (IFES) “تقدم المشورة للحكومات العربية بهدف تأطير عمل المجالس التشريعية”… هذا ما هو معلن، وما خفي أعظم!
لم نشأ (عمدا) التطرق إلى النشاط الأمريكي الهدام، عسكريا وإعلاميا وشعبيا، في فلسطين والعراق، لأنه موضوع مستقل بحد ذاته، نظرا لتعمق التغلغل الأمريكي في المؤسسات وفي المنظمات وفي بعض أوساط “اليسار” أيضا، وبخصوص المنظمات “غير الحكومية” فإن خطرها كبير، ويتكثف حضورها كلما تعرض شعب إلى حرب عدوانية أو كارثة، بهدف امتصاص النقمة والغضب، “بأساليب متحضرة”، بعيدا عن خشونة وعجرفة شعوب “الجنوب” المقهورة، وتمكنت هذه المنظمات “غير الحكومية” (الممولة حكوميا في الواقع) من اجتذاب مناضلي المنظمات والأحزاب التقدمية، وهي كارثة إضافية…