إشكالياتنا مع الغرب: لماذا؟ وإلى أين؟

(الجزء الخامس والأخير)

مسعد عربيد

 

(5)

إشكالياتنا مع الغرب الرأسمالي

 

الإشكالية الأولى: فهمنا للغرب

 

ينم المشهد العربي عن استفحال التدخل الأجنبي في بلادنا واستهداف ثرواتنا ومجتمعاتنا بغية تفكيكها وتدميرها. هذا من ناحية. ولكنه ينم من الناحية الثانية، عن جهلنا فادح بالمشروع الرأسمالي الغربي في الوطن العربي وفي العالم باسره، وعن تواطؤ العديد من الأنظمة والقوى السياسية والاجتماعية والثقافية معه وعمالتها له ولخدمة مصالحه من جهة ثالثة.

ففي خطابنا السائد تطغى المقالات والتحليلات السياسية التي تتناول أحداث الساعة والتي رغم كون بعضها معادٍ للغرب الرأسمالي وللإمبريالية الأميركية، فان خطابنا (الإعلامي والفكري والسياسي) قلما يغوص في عمق التناقضات في المصالح والثقافة بيننا وبين الغرب الرأسمالي. فعلى سبيل المثال، تشح في المكتبة العربية الأعمال والأدبيات التي تتناولها الغرب الرأسمالي وأميركا شرحاً ونقداً وتشريحاً أو التي تقدم قراءة جذرية لمشروع هذا الغرب ومصالحه. في المقابل، نرى أن مثل هذه الأعمال متوفرة باللغات الأخرى.

وليس هذا سوى احدى تجليات أزمتنا مع الغرب الرأسمالي وأحد أبعاد جهلنا بطبيعته وآليات عمله ومنظومته الاقتصادية والاجتماعية النيوليبرالية المدمرة، وهو جهل نابع من أزمة معرفية على عدّة مستويات سياسية واجتماعية وثقافية. وتظهر أهم تبعات هذه الأزمة المعرفية في غياب الرؤية لدينا لمقاومة الغرب الرأسمالي ومخططاته وهي رؤية تتطلب تفكيك منظومته الفكرية والفلسفية والسياسية وطرح آليات ومشاريع بديلة.

الثانية: في طبيعة التناقض

 

ذكرتُ في معرض مناقشة تبعات التجزئة أنها مزّقت الوحدة الجغرافية والسياسية والاجتماعية لبلادنا لتقيم كيانات هزيلة مفككة، وأنها خلّفت أنظمة عربية مرتبطة وتابعة في دعمها وبقائها وقرارها للغرب الرأسمالي، اضافة الى أنها (التجزئة) أسست لأوهام الدولة القُطرية والهويات المُختلقة (الأردنية، اللبنانية، الفلسطينية…الخ) على حساب الهوية القومية الجامعة. وقد تظافرت هذه العوامل في تطور التناقضات في بلادنا عبر العقود الأخيرة، وتكرّس التناقض بين (1) الأنظمة (والطبقات الحاكمة في الدولة القطرية التابعة) والغرب الرأسمالي (الذي يحافظ على أمن هذه الأنظمة ويضمن بقاءها واستمرارها) من جهة، وبين (2) الشعوب والجماهير والطبقات الشعبية المظلومة والمستَغَلة والمقموعة، من جهة أخرى.

ارتسم هذا التناقض واضحاً في رؤية بعض الأنظمة العربية والقوى والأحزاب القومية واليسارية العربية وتبلور في شعار “معسكر الأعداء” حيث كان الاستعمار والإمبريالية احد مكوناته الأساسية بالاضافة الى الكيان الصهيوني والرجعية العربية. غير أن هذا الشعار ظلّ يحوم في فضاء الرطانة السياسية وخطابات القادة والزعماء وأدبيات الأحزاب والتنظيمات السياسية، دون أن يترسخ كتناقض رئيسي وهدف سياسي متبلور في برنامج نضالي متجذر في وعي الجماهير العربية وفعلها وفهمها لطبيعة الصراع القائم ومكوناته.

ورغم الحضور المستمر للغرب الرأسمالي وعدوانه المتواصل على الشعوب العربية ومصالح طبقاتها الشعبية:

1) فاننا نرى أنه لم يتم الربط بين الإمبريالية من جهة، والرأسمالية من جهة أخرى، أي أنه تم تغييب النظام الرأسمالي وطمس طبيعته الاقتصادية والطبقية الاستغلالية والمهيمنة التي تقف وراء الاستعمار سواء في حقبة الكولونياليات الكلاسيكية، أو لاحقاً في حقبة الإمبريالية والعولمة الرأسمالية الراهنة، ولم يرقَ شعار معسكر الأعداء ليضم الرأسمالية كأحد مكوناته وهو ما يفسر، اضافة الى غيره من الأسباب، أن الرأسمالية والغرب الرأسمالي (وتحديدهما بدقة كمفهوم وعدو) لم تدخل في معجم تناقضاتنا وتحديد أعدائنا.

2) كما نرى، وللسبب ذاته، أنه تم الربط بين الأنظمة العميلة والاستعمار، في حين تمّ تغييب الربط بين هذه الأنظمة والعدو الرأسمالي، أي الفصل بين الاستعمار والإمبريالية من جهة، والرأسمالية من جهة أخرى.

3) هنا نلحظ أن هذا التناقض والربط بين مكونا مكونات الأعداء (غرب رأسمالي وثورة مضادة من أنظمة عميلة وأدوات محلية وإقليمية) لم يتبلور في رؤية وبرامج الأحزاب والقوى القومية والتقدمية واليسارية.

4) ظلّ معسكر الأعداء هدفاً مشتركاً للنضال العربي وجامعاً لقواه وأحزابه وتياراته القومية واليسارية والاشتراكية على مختلف تلوناتها، على الأقل على المستوى النظري، على الرغم من بعض التفاوتات في الرؤية والموقف. غير أن قراءة الواقع العربي في العقود الأخيرة تشير الى غياب البرنامج النضالي وعدم وضوح الرؤية للتناقضات (رئيسية كانت أم ثانوية) وانعدام الجدية في التعامل مع هذا المعسكر، حتى إذا ما حلّت هزيمة حزيران عام 1967 وتبعاتها لنشهد تهاوياً في المشروع النضالي العربي وتساقطاً للقوى والأحزاب القومية والاشتراكية واليسارية تبعها صعود المدّ الإسلامي والحركات التكفيرية. وقد رافق هذه التحولات العديد من التغيرات العربية الإقليمية والدولية العميقة ليس هنا مكان التفصيل فيها رغم أهيمتها وتأثيراتها الكبيرة.

5) بعبارة أخرى بقي الصراع في بلادنا خلال العقود الأخيرة مفككاً الى جزئيات دون أن يكون التعامل معها في معسكر أعداء واحد، فلم يرقَ التناقض مع الأنظمة العميلة الى تناقض مع سيدها: الغرب الرأسمالي. مفارقة لافتة دون شك ولا تنذر إلاّ بثغرات في الوعي والفكر وبضياع البوصلة.

6) جاءت الحركات الاحتجاجية التي عمّت العديد من البلدان العربية في السنوات الأربع الأخيرة لتنطق بالكثير حول هذه الإشكالية. فما زلنا، باستثناء القلة، لا نرى مختلفين في فهم العلاقة الرابطة بين مكونات العدو: الإمبريالية والغرب الرأسمالي وقوى الثورة المضادة المحلية المتمثلة في الأنظمة الحاكمة والنخب والاجتماعية والثقافية. وبسبب هذا القصور لم نعِ، على سبيل المثال، أن القوى المحلية للثورة المضادة هي أيضاً مندرجة في معسكر الأعداء وبالتالي ستكون مواجهتها والصدام معها جزءً من برنامج نضالي ثوري وتغييري في المجتمعات العربية. ولعل خطورة هذه القوى تكمن في أنها تمثل الأدوات المحلية للغرب الرأسمالي، ما يعني أنها تقوم بالمهمة، في كثير من الأحوال، نيابة عن الأجنبي دون حاجته الى التدخل المباشر.

قد لا تفي هذه الفقرات بمعالجة كافة جوانب وأسباب هذا المأزق، ولكنها تبقى حريصة على تقديم إشارة ولو مقتضبة الى سقوط المفاهيم وثغرات الفهم والوعي السياسي في مستوياته الحزبية والشعبية.

الثالثة: الكيان الصهيوني

من نافلة القول أنه لم يكن للكيان الصهيوني أن يقوم أو يدوم على قيد الحياة لولا الدعم الرأسمالي – الإمبريالي الذي كان وراء تأسيسه ولم يتوقف عن دعمة وتوفير شريان الحياة له للابقاء على وظيفته كقاعدة إمبريالية للغرب الرأسمالي.

غير أن الحالة العربية تشي بأننا لا نرى هذا الترابط بين الكيان والغرب، ولا نرى أن صراعنا معه (الكيان الصهيوني) هو في الجوهر صراع مع الغرب الرأسمالي. أن أننا لم نرقَ بعد قرن من الصراع الى فهم أن التناقض مع الكيان هو حرب مفتوحة مع الغرب الرأسمالي، ومن هنا يتوجب علينا مناهضتة ومقاومته ومقاطعة منتوجاته.

وفي حين يصرخ سياسيونا وأحزابنا ليل نهار بالعداء للصهيونية وبان قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى والمركزية، فان الواقع يؤكد أن تناقضنا مع الغرب الرأسمالي ما زال معزولاً ومغيباً عن جبهات الصراع في بلادنا وكأنه لا علاقة له بالكيان الصهيوني ووظيفته الإمبريالية وتأسيسه ودعمه وابقائه على قيد الحياة، بل ما زلنا على العكس من هذا، نتعامل مع الغرب على أساس التبعية والدونية والتطبيع على كافة الأصعدة، ناهيك عن التطبيع مع الكيان الصهيوني في الخفاء والعلن لا فرق، ولم يقوَ الكثيرون من مثقفينا ومفكرينا على تحديد العلاقة التناحرية معه وتصنيفه في معسكر الأعداء.

الرابعة: اليسار العربي والغرب الرأسمالي

 

لا سبيل لتأسيس مقاومة للغرب الرأسمالي ومشروعه دون أفق معادي للرأسمالية يطرح البديل الاشتراكي كنمط في الإنتاج وكمشروع تنموي للمجتمع والإنسان. بعبارة أخرى، لا أمل لنا في مستقبل أفضل دون مشروع اشتراكي وبرنامج نضالي يقوم على رؤية مقاومة للرأسمالية ويمتلك حزباً شيوعياً ثورياً مناضلاً بقيادة ثورية وقاعدة شعبية وتنظيمية تمثل الحامل الاجتماعي لهذا المشروع وتحقيقه.

فأين نحن من هذا كله؟

لقد دأبت الأحزاب الشيوعية واليسارية والتقدمية والقومية لسنوات طويلة على ترديد شعارات مناهضة الغرب ورأسماليته وإمبرياليته، ولكنها بدأت تتهاوى وتتراجع بعد هزيمة حزيران 1967 ولاحقاً بعد الانهيار السوفييتي، فارتدت قطاعات كبيرة من قياداتها وكوادرها وتنظيماتها الى قوى وأحزاب تتحالف مع هذا الغرب وتروج لايديولوجيته وتبشر بنهاية الاشتراكية والانتصار الأزلي للرأسمالية، بل تتمول من فتاته وتعمل تحت إمرته ووفق أجندته على حساب مصالحنا وقضايانا، على حساب الوطن والمستقبل (الأمثلة على هذا كثيرة ولا حصر لها في العديد من بلداننا خصوصاً في فلسطين المحتلة والعراق ومصر وغيرها.

الخامسة: ماذا تريد قوى الدين السياسي؟

 

يزيد الدين السياسي في بلادنا، حركات وقوى الإسلام السياسي، من تعقيد العلاقة وصعوبة التعامل مع الغرب الراسمالي، بل ويعيق خلق وعي شعبي بطبيعة هذا الغرب وسياساته ومخططاته حيال مجتمعاتنا، وبطبيعة علاقتنا التناحرية وصراعنا معه. وعلى مدى العقود السابقة، عملت حركات الدين السياسي على حرف النضال الجماهيري عن همومنا وقضايانا المعيشية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية واستنزافها قوانا وجهودنا في المشروع العربي النهضوي.

يمكننا بايجاز تكثيف إشكالية الدين السياسي والحركات الإسلامية مع الغرب الرأسمالي بالملاحظتين التاليتين:

أ) فمن ناحية، تحالفت هذه الأحزاب تاريخياً مع الغرب ووضعت نفسها في خدمة مصالحه وأجندته (الاستعمار البريطاني ثم الإمبريالية الأميركية)، وشكّلت أداةً للثورة المضادة من أجل حرف وتدمير محاولات التغيير الجذري والثوري في بلادنا، وتحالفت مع الغرب الرأسمالي ضد القوى القومية العربية ووحدة الأمة العربية، وخلال سنوات الحرب الباردة كانت أداة في ضرب الحركات الشيوعية واليسارية والعلمانية والتقدمية في الوطن العربي وأجزاء أخرى من العالم.

ب) ومن الناحية الثانية، يدّعي الإسلاميون بان الغرب كافر وملحد ومنحل أخلاقياً… الخ، ويدعون الى الجهاد ضده وضد ربيبته “إسرائيل”، في حين نرى سيوفهم وبنادقهم قد شُرعت في كل اجزاء المعمورة دون أن تقترب من فلسطين المحتلة.

السادسة: الإشكالية الثقافية

 

في تناقض فاضح مع تراثنا وقيمنا وموروثنا الثقافي والحضاري، نشهد منذ عقود استدخال العولمة والقيم الراسمالية والثقافة الاستهلاكية الى مجتمعاتنا وعقول أبنائنا من الأجيال الصاعدة، بما فيها المأكولات الرديئة والأفلام التافهة وغيرها الكثير من سخافات الغرب وتقليعاته الهادفة الى الربح والربح فقط، حتى أضحت هذه “الثقافة” الدخيلة الأمر العادي والمألوف والسائد في مجتمعاتنا.

(6)

ملاحظات ختامية

 

نهاية “الزمن” الأميركي… والبدائل

 

1) لقد بسط الغرب الرأسمالي، منذ نشأة مشروعه في الهيمنة، خريطة الكرة الأرضية وأخذ يعبث فيها فساداً ونهباً ودماراً، فهو بطبيعة نظامه وبنيته لا يقبل التسوية أو المساومة أو المناصفة على أرباحه، فالربح كله له وله فقط. هذا في الاقتصاد. أما في السياسة فهو إما غالب أو مغلوب، قاتل أو مقتول، ولا مكان بينهما. وبالرغم من دموع ودماء الفقراء والمظلومين من الشعوب المحتلة والمُبادة، فإنَّ هذا كله لم يهز ضمير الغرب قيد أنملة ولم يخدش حياءه لا من قريب أو بعيد، وما فتأت القوى المهيمنة فيه تقتحم كافة أرجاء المعمورة في سبيل السيطرة على ثرولتها ومقدراتها. فالتاريخ البشري لم يشهد حروباً ودماراً وسفكاً لأرواح الملايين من البشر، مثل التي شهدها القرن العشرون في الحربين الكونيتين والتي تسبب فيها النظام العالمي وقوى المركز الرأسمالي في الغرب.[1]أما ما تلى هاتين الحربين من سنوات هيمنة القطبية المنفردة والمنفلتة للولايات المتحدة، زعيمة الغرب الرأسمالي، فلم تقل بشاعة ووحشية وهمجية.

2) غير أنه لم يعد من باب الرومانسية القول ان السيادة العالمية لقوى طرفي الأطلسي (الأورو- أميركية) التي دامت خمسة قرون آخذة في الزوال رويداً رويداً، مقابل النهوض والتفوق الاقتصادي للصين وروسيا والهند والبرازيل وغيرها من بلدان البريكس، وأن عالماً أحادي القطبية لم يعد ممكناً:

أ) فاستمرار هذه القطبية أصبح موضوعياً ضرباً من المحال، كما أصبح مشروع الهيمنة على مقدرات الكرة الأرضية مرفوضاً ومستحيلاً، فقد لفظه التاريخ كما رفضته الإنسانية بأسرها بقيمها وأخلاقها.

ب) بالاضافة فان الحسم العسكري للصراعات لم يعد قراراً سهلاً (انظر التردد الأوروبي والأميركي في استخدام الحسم العسكري في سورية).

ج) لم تعد أميركا وغيرها من القوى الدولية قادرة على توفير كلفة الهيمنة العسكرية الهائلة، بل هي بسبب هذه الكلفة ولغيرها من الأسباب، آخذة بالترنح اقتصادياً واجتماعياً.

د) وبالرغم من القوة العسكرية التي لا تضاهى للولايات المتحدة، والتي حالت بسبب تفوقها وعدم القدرة على مواجهتها، دون تفجير الخلافات والصراعات بين الولايات المتحدة والقوى الإمبريالية الأخرى (دول أوروبا الغربية على سبيل المثال)، غير أنه من الواضح أن العلاقات بين قوى الغرب الرأسمالي ذاتها تعتريها خلافات وتشققات وتصدعات متعددة.

هذا ما يؤكده استقراء الوقائع. ومن الناحية الثانية ليس هناك ما يدعو الى الشك بأن الصعود الاقتصادي لمراكز نمو الاقتصاد العالمي كما أسلفت في الصين وروسيا والهند وغيرها، وما يكمن في قدراتها الصناعية والتكنولوجية، سوف يتحول الى قوة سياسية مؤثرة ودافعة باتجاه التعددية القطبية. ففي مقابل الركود الاقتصادي والسياسي الذي شهدته بلدان المركز الراسمالي، استفاقت بعض الدول (المستعمَرة سابقاً مثل البرازيل والهند) من تخلفها وأخذت بالصعود الاقتصادي والسياسي على نحو جادٍ ومؤثر. بالاضافة الى تنامي القوة الاقتصادية والسياسية لروسيا والصين حيث أصبحت هذه الأخيرة القوة الاقتصادية الثانية في العالم.

بعبارة أخرى لم يعد زمننا زمناً أميركياً كما يتبجح منظرو الإمبريالية – الرأسمالية، والأهم أن أميركا ذاتها أخذت تدرك هذا وتصحو من “سكرة الهيمنة” أو على الأقل قطاعات كبيرة وهامة من النخبة السياسية والثقافية في ذلك البلد.[2]

3) على الرغم من القوى العالمية الكبرى أخذت موقعها ودورها في صنع القرار والوصول الى تسوية أو صفقة في الأوضاع والتوترات الدولية، فان هذا لا يعني أن الإمبريالية لن تقدم على مزيد من الصدامات العسكرية والسياسية البلهاء، فهذا الاحتمال لا يزال قائماً كما هو حال رأس المال دائماً في تصدير الأزمات والهروب الى الخارج.

4) وفي حين تشير المؤشرات، من تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية، إلى أزمة رأس المال ومحدودية دور الغرب وتأثيراته، وإلى أنَّ الإمبريالية تسير عكس حركة التاريخ، فإنه يجب الحذر من الوقوع في وهم أن الغرب الرأسمالي على وشك الانهيار وأن نهايته أضحت تلوح بين ليلةٍ وضحاها، فأزمته قد تطول عقوداً، كما أنه لا يجوز الاستخفاف بالامكانيات المادية للإمبريالية والرأسمالية الغربية ووحشية مشروعها وأساليبها. أما الأخطر فهو الارتكان إلى الحتمية التاريخية لهزيمة الإمبراطوريات، فمقاومة الشعوب واعتمادها على قواها الذاتية هي الدرب الوحيد المفضي إلى انتصارها وإلى محو الظلم والقهر وانعتاق الإنسان من كافة أشكال الاستغلال.

5) لا نغالي إذا قلنا ان منطقتنا العربية كانت، وما زالت، على رأس أولويات الغرب الرأسمالي واستهدافه لليهمنة عليها ونهب ثرواتها. ومن هنا يصح القول بان تاريخنا الحديث قد تمت صياغته، بدرجة أو بأخرى، بالصراع بين القوى الاستعمارية الغربية وأطماعها في الهيمنة على بلادنا من جهة، ومعاركنا في محاربتها ومقاومتها من أجل نيل الاستقلال والنهوض بمجتمعاتنا وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية لطبقاته الشعبية العريضة، من جهة أخرى. وهذا قول ينطبق على العديد من بلدان العالم الثالث في قاراته الثلاث: آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية.

في المشهد العربي: لا بديل عن المقاومة الدائمة

 

1) لا شك باننا نعيش سلسة من الأزمات الشديدة والمتوالية، وفي مثل هذه اللحظات، كثيراً ما تتجه أنظارنا نحو الحلول الآنية ومعالجة النتائج الكارثية لهذه الأزمات واحتواء تداعياتها، فتنصب جهودنا على إدارتها وتفادي مخاطرها. ولدى بحثنا عن العلة والسبب، فإننا غالباً ما نجد التفسير في تصرفات الأفراد والساسة والقادة، أو نتجه نحو ذلك الحزب أو التنظيم السياسي أو تلك الطائفة. ويبدو أن هذا يمنحنا قدراً كبيراً من الارتياح، ولا شك أن فيه الكثير من الحقيقة، ولكننا قلما نغوص في الجذور (الأسباب الجذرية) الكامنة في الوعي والفكر السياسيين والاجتماعيين.

وعليه، يكون السؤال أمام هذا الواقع: ألم تحن لحظة الحقيقة؟

2) لذلك عمدتُ في هذه الدراسة الى تناول المعضلة التي نراها الأساس في إشكالياتنا مع الغرب الرأسمالي: غياب الوعي والفهم لطبيعته، ومصالحه في بلادنا وعلاقته بالأنظمة الحاكمة والنخب (السياسية والثقافية والإعلامية)، ورعايته لشرائح اجتماعية وثقافية ارتبطت به مادياً ومصلحياً وثقافياً وسياسياً على مدى عقود طويلة. وبدون هذا الوعي لن تقوم لنا قائمة ولن نستطيع أن نتصدى للمهمة الأكبر والأكثر الحاحاً وهي مواجهة الغرب الرأسمالي ومخططاته في بلادنا ومقاومة مشاريعة في الهيمنة عليها.

لعلها مفارقة محزنة أن الغرب – الذي أمعن في توغله بأوطاننا ومصيرها، والذي وصل مرحلة الوهن الشديد التي يدركها هو نفسه كما تدركها شعوب وقوى أخرى توثبت منذ سنوات لتشكيل جبهة أو محاور معادية ومقاومة لهيمنته – بينما ما زلنا نحن بعيدن كل البعد عن الوعي بطبيعته وحقيقت أهدافه.

3) نقطة الانطلاق: لا تتسنى للشعوب أسباب القوة والسطوة إلاّ إذا تسلحت بالمعرفة والوعي. وعليه، فإن امتلاك المعرفة وتراكمها هي بداية تكوين الوعي واستدخاله ليصبح جزءً من الفعل الإنساني، ما يعني تفعيل المعرفة والوعي في الأنشطة الإنسانية أي في سيطرة الإنسان على الواقع والطبيعة واستثمارهما في توفير احتياجاته وتأمين مستقبله. يتبع ذلك أيضاً أن تفعيل المعرفة والوعي شرط اساسي في تغيير الواقع والثورة عليه وتسخيره لخدمة الإنسان والمجتمع.

4) غير أن نقطة الانطلاق لا تقف عند تخزين المعرفة والمعلومات، فلا بد من أجل تفعيلها واستخدامها، من تجذير الوعي وترسيخه في ثقافة شعبية عمادها الصمود والتحدي والمقاومة وأن يتجسد هذا الوعي في برنامج نضالي جماهيري تتبناه القوى والاحزاب. فمن العبث توقع أي تغيير بمجرد امتلاك المعرفة النظرية أو حتى تقييم أخطاء الماضي و”تصحيحها”، بل إن التغيير يتحقق عندما تزول أسباب وظروف الواقع القائم ويحسم الصراع وفق عملية تتحقق فيها مصالح القوى الطبقية المستفيدة من هذا التغيير على حساب وبهزيمة مصالح القوى المضادة له التغيير والمتضررة منه. وهذا لا يتسنى دون مقاومة شعبية شاملة ومستمرة على كافة الجبهات.[3]

5) لا أدّعي أنني قدمت اجابات جاهزة لمعضلات وإشكاليات معقدة، فهذه الاجابات لا تتوفر إلاّ

(أ) بتظافر الجهد الجمعي المشترك في البحث عن الحلول والبدائل، جهود تشمل كافة القوى والأحزاب والمنظمات الاجتماعية والسياسية الفاعلة في المجتمع، فالجهود الفردية كما بلغت من التفاني لا تفي بهذه المهمة الجسمية.

(ب) والوصول الى مجتمع (وثقافة) الإنتاج والانخراط في بناء المجتمع والإنسان، وهو ما يتطلب طوراً صناعياً في النمو الاقتصادي والاجتماعي في مجتمعاتنا.

(ج) توفر أفق بعيد ومدى زمني طويل كي تتكامل عوامل النضوج وانجاز أهداف المشروع النهضوي والتنموي العربي.