الاتجاه شرقاً ..

استعادة البوصلة الاستراتيجية .. بدلا من دوارة الريح !

 

محمد الأسعد

الفرق بين البوصلة ودوارة الريح أن الأولى تحدد  الاتجاه الصحيح الذي يسعى إليه ربانُ السفينة، ويتحكم بحركتها القطبُ الشمالي الثابت، فمنه وقياساً عليه تتحدد المسافات، بينما تدور دوارةُ الريح وفق دورانِ وتقلبِ الرياح وهبوبها، فتشير إلى اتجاهاتٍ متقلبة لا يحكمها مركزٌ ثابت. لهذا يمكن أن نعتبر البوصلة أداةً استراتيجية يفقد الاتجاهَ من يفقدها، ويقع ضحية دوارة الريح التكتيكية، ويصبح منساقاً في أي اتجاه تشير إليه من دون دراية بالفرق بين المفهومين: الاستراتيجي والتكتيكي.

البوصلة التي أقصدها هنا هي التي  يعبر عنها الآن عدد من رجال السياسة والثقافة والاقتصاد العرب النادرين وهم ينصحون الفعاليات العربية بأن تتجه شرقاً، ليس قولا بل فعلا، وليس سياسة فقط، بل واقتصاداً، وثقافة. أما دوارة الريح فهي التي عبرت عنها سياساتٌ واتجاهاتٌ ظلتْ تتحكم زمناً، بل وقروناً، بالعقليات العربية، المستقل منها والتابع على حد سواء.

في الاتجاه شرقاً استجابة لما كانت تفرضه دائماً الجغرافية السياسية لبلداننا العربية؛ أن تستعيد هذه الجغرافية المستلبة منذ خمسة قرون شرايين الحياة التي قطعها الاجتياح الغربي لحوض المحيط الهندي، وقطع معها صلاتنا الحيوية، الاقتصادية/الثقافية/السياسية/ الاجتماعية، بالشرق، وما تبع ذلك من انحطاط التجارة وضياع وارداتها واضمحلال المدن والطرقات والمدارس والجامعات والأسواق، وما جاء بعده من غزوات وفرض تبعية قسرية لدول الاستعمار الغربي.

كنا قبل الاجتياح الغربي ذاك عقدة مواصلات العالم، وعن طريقنا كانت تمر ثرواتُ العالم بين حوض المحيط الهندي وحوض البحر المتوسط، وكان الميزان التجاري بيننا وبين أوروبا، حتى القرن الخامس عشر، يميل لصالحنا، كانت أوروبا تدفع ذهباً وفضة للحصول على التوابل والعطور، وكانت حياتنا حياة مجتمعات منتجة، ولم يكن البرتغالي والهولندي، والانكليزي بعدهما، يستطيعان التفاهم مع شعوب المحيط الهندي إلا عبر مترجمين يجيدون اللغة العربية؛ كانت العربية لغة هذا المحيط بدءا من شواطئ الجزيرة العربية وصولا إلى شواطئ الهند والملايو.

في الأزمنة الحديثة جرت محاولات عربية لفهم آلية الانقضاض الغربي الاستراتيجي ورسم سياساتِ ردٍ على هذا الأساس؛ فوضع الرئيس جمال عبد الناصر في فلسفة الثورة الدوائر الثلاث، أو مجال استراتيجيته العربية والإسلامية والدولية، وتوج ذلك بالظهور في مؤتمر “باندونج” في الخمسينات، أي أنه أدرك أن الاتجاه شرقا يعني فك الحصار الذي أطبق على جغرافيتنا السياسية من الشرق وجعلها معلقة بأطراف وحواف الغرب الاستعماري وخاضعة لمقتضيات مصالحه، ويعني التحرر والتنمية وعودة الحياة إلى الوطن العربي. وأعتقد أن صراع عبد الناصر، في أفقه الاستراتيجي، كان صراعا من أجل مد شرايين الحياة لأمة عربية استخلصها الغرب لنفسه من الامبراطورية العثمانية جثة هامدة، اقتصاديا وثقافيا وسياسيا، وجعلها تعيش بطالة دائمة، لا تعيش إلا بمقدار خضوعها لشركاته الرأسمالية، كأسواق وموارد طاقة بكل طريقة ممكنة. ويفسر هذا السبب الجوهري الذي جعل الغرب يتكالب على عبد الناصر، بمعونة أتباعه النفطيين وقاعدته العسكرية إسرائيل، بل ويغتاله بعد أن وجد أن ضربة حزيران 1967 لم تكن ضربة قاضية.

امتلك عبد الناصر البوصلة الاستراتيجية سياسة وتسليحاً، إلا أن مقتضياتها الثقافية والاقتصادية ظلت بيد دوارات الريح. مما جعله الاتجاه شرقا أشبه بربانٍ يقود سفينة، بينما يدير بحارتها الأشرعة سراً، وعلنا أحيانا، لتديرها الرياح غرباً. أي أن القطع مع التبعية الغربية لم يكن حاسماً، ظلّ المصريُّ بحاجة للقمح الأمريكي حتى اليوم. وكان هذا النقص قاتلا، وهو الذي سيولد بعد ذلك استمرارية وصعود طبقة عتيقة من مخلفات عصر التبعية تحت ظلال الربان الباحث عن الاستقلال، ولتجد فرصتها بعد غيابه.

بعد عبد الناصر، جاء قادة دول عربية أقل وعيا بالفرق بين البوصلة ودوارة الريح، السادات وصدام حسين  والقذافي.. إلخ، فكانت الرياح تلف بهم في هذا الاتجاه أو ذاك، فيتخبطون بين أمواج السياسات المحلية والإقليمية والدولية. لم يمتلكوا وعيا ملموسا بمقتضيات فك الحصار والتحرر والتنمية، أي بالثالوث الذهبي الذي يرد في العمق على الاجتياح الغربي الذي لم يتوقف منذ غزوات المحيط الهندي، والنزول على شواطئ المغرب العربي وسواحل الجزيرة العربية، واختراق الوطن السوري والعراق.  بعضهم لم يشعر حتى بأن هناك اجتياحاً، وأن هناك تلازما بين شرطي التحرر والتنمية وبين الاتجاه شرقاً والقطع مع الغرب، وأن هناك تلازما بين هذين الشرطين وتجميع عناصر القوة المحلية والإقليمية، بل ذهب بعضهم، مثل السادات، حتى إلى إعادة إنتاج شخصية مهراجا هندي تابع في  القاهرة، وبعضهم ذهب، مثل القذافي، إلى إعادة انتاج مملكة من ممالك حضرموت اليمنية العجيبة، قعيطية أوكثيرية أوعيدروسية وما إلى ذلك من أسماء لا وجود لها إلا في أذهان اصحابها.

*

  ذكرتني الدعوات الراهنة  إلى الاتجاه شرقاً بكل متضمناتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، بما دعوتُ إليه في تقديم ترجمتي لكتاب “واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق” ( فبراير 1999). قلت في التقديم، بعد أن انتقدتُ دوارات الريح الثقافية والسياسية التي شغلت أنظار دوائر الثقافة والسياسة العربية فوجهتها غرباً كأن الغرب هو الوجود المطلق: ” نأمل ونحن نقدم هذا الكتاب، أن يكون محفزاً على صعيد الشعر والنظرية الجمالية معاً، أن يكون مدخلا لنا إلى الشرق، شرقنا بالدرجة الأولى، شرق الفن والجمال قبل أي شيء آخر” .

قد تبدو هذه الدعوة مجرد تعبير عن إحساس شاعر، إلا أنها منذ ذلك التاريخ بدأت تتعمق وتكتسب أبعاداً أوسع. وخلال قراءاتي ومتابعاتي للأحداث السياسية والاقتصادية بدأت الصورة تتضح؛ إنها نداء جغرافيتنا السياسية الشاملة أولا. إنها نداء يتطلب كسر حلقات الحصار المحكمة منذ القرن الخامس عشر، وفك عزلة الوطن العربي عن جيرانه الشرقيين الأقربين قبل الأبعدين، عن الإيراني والتركي والهندي والصيني وسكان جزر الملايو، بعيدا عن التسميات الغربية لهذه الشعوب التي أعطاها الغرب أسماء كما يعطي صاحب الدمى أسماء لممتلكاته. ومن البديهي ان كسر الحصار لن يتم إلا بأفعال متساوقة معه؛ بالتحرر والتنمية المستقلة، أي بالخروج من التبعية لذئاب الرأسمالية الغربية، تلك التي تغرس فينا أنيابها ومخالبها منذ قرون، وهاهي أخيرا ترسل السيارات المتفجرة و إرهابييها وقاذفات حاملة طائراتها، إسرائيل، إلى مدننا.

وخلال هذه المتابعة، وجدتُ أن ما طرحته القيادة السورية منذ سنوات قليلة، وقبل ان يندفع الغرب ويشن حرب إرهابه على سوريا، يكاد يكون استجابة لهذا النداء بمقتضيات وظروف مختلفة عن تلك التي كانت في عصر جمال عبد الناصر. نحن الآن في عصر السباق على الموارد سباقا لا مثيل له، وبخاصة موارد الطاقة (النفط والغاز) الحيوية لأي بقاء للكائن الإنساني على سلم الوجود، ولكن أيضاً لبقاء قدرات الرأسمالية وعقبها الحديدية، هذه الرأسمالية التي يزيدها توحشاً السباق على الموارد والاستحواذ عليها على حساب كل البشرية إن أمكن.

في هذا العصر، ومنذ وقت قريب، جاءت الاستجابة السورية خلاقة، وأيضا بشكل لا سابقة له؛ إيجاد شبكة أمان اقتصادية/أمنية/ثقافية مشتركة بين دول البحار الخمس، بحر قزوين وبحر العرب والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود. وأساس هذه الشبكة كما تبين يقوم على أساس تمديد خطوط نقل موارد الطاقة في شبكة متحدة لتصل إلى العالم عبر هذه الشبكة، وما يتبع ذلك من إقامة مناطق تجارة حرة وانفتاح بين دول هذه البحار. هذه الاستجابة عنت في المقام الأول ترسيخ تعاون مشترك بين دول شرقية، مثل إيران والصين وروسيا الاتحادية ودول وسط آسيا، ودول عربية مثل سوريا ولبنان والأردن والعراق ودول الخليج التي تحتاج إلى هذه الشبكة من أجل تصدير نفطها وغازها، ومن أجل تجارتها أيضاً.

ما الذي يعنيه هذا؟

إنه يعني في المقام الأول، أن الوطن العربي سينفتح لأول مرة شرقاً، وستكون لهذا الانفتاح أبعادٌ استراتيجية طويلة الأمد، وسيعني خلقَ وحدة مصالح حيوية، ليس بين العرب فقط، بل بينهم وبين شرقهم الناهض والصاعد ليكون مع جيرانه أقطاباً في نظام دولي جديد يقوم على التعاون وليس على النهش والبطش اللذان رسختهما الرأسمالية دستورا لها مذ كانت وحتى اليوم. وسيعني تحقيق الثالوث الذهبي الذي حطمه الاجتياح الغربي؛ أي فك الحصار والتحرر والتنمية. وسيعني تغيير خريطة النظام الدولي حتماً. وأتذكر في هذا السياق أن وزير خارجية فرنسي وصل إلى دمشق كما كانت عادة وكلاء الشركات الغربية، قبل أن يشن الغرب حرب إرهابه بسنوات قليلة، فوجد أمامه دولة تضع بوصلتها الاستراتيجية أمامها وتعد أشرعة الرحيل شرقا بالطريقة العملية التي وصفناها، فما كان منه إلا أن قال ذاهلا ومستنكراً كمن لا يصدق ما يرى ويسمع :” أنتم تغيرون خريطة المنطقة .. أنا أحذركم” !

بالفعل، كان الأمر أمر تغيير خريطة، بكل ما يعنيه هذا التغيير من نقلة استراتيجية فعالة بعد قرن من دوران العيون العربية وراء دوارات الرياح الغربية. كان القرار الحاسم؛ آن لنا أن نمسك بالبوصلة المحرمة منذ أيام “لورنس” و”جرترود بيل” و “وسان جون فلبي”. وآن لنا أن نقول لهذا المذهول أو المسطول: “بادت  ممالك الفرنجة على الساحل السوري منذ قرون .. استيقظ من حلمك يا هذا” .

                                                *

لم يكن قرار إقامة شبكة البحار الخمسة الاستراتيجي آتيا من فراغ؛ كانت هناك إيران وروسيا الاتحادية وثرواتها من الغاز والنفط هي ودول آخرى من وسط آسيا، وكانت هناك حاجة الصين الناهضة باقتصاد يحتاج لموارد الطاقة الحيوية، أي كانت هناك مشروعات على الطاولة. مشروعات دول لا تستطيع البقاء في الساحة الدولية، بل على قيد الحياة، إذا هي خضعت لهلوسات شركات الولايات المتحدة الأمريكية المندفعة لجعل القرن الحادي والعشرين قرنا أمريكيا مخضبا بدماء شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ومعنى هذا أنه كانت هناك مشروعات أنابيب غاز ونفط ومياه بيد دول مثل روسيا الاتحادية وأذربيجان وتركمنستان وإيران بعيدة عن قبضة الشركات الغربية، وهو ما يعني حتما استقلالا سياسيا واقتصاديا وبروز لاعبين جدد على المسرح العالمي، وقيام سد أمام مطامع أن يكون هذا القرن أمريكيا، وغربيا بالتبعية.

دهشة الوزير الفرنسي وذعره لم يكونا بلا مبرر، فمنذ العام 2002 كانت الاستعدادات تجري على جبهة شركات الطاقة الغربية لإقامة خط أنابيب طويل يحمل غاز ونفط دول شرقية إلى أوروبا ومن ورائها أمريكا، دول مثل العراق وأذربيجان وتركمنستان ومصر، كدول موردة أساسية. وحسب ما هو مخطط له ستكون تركيا جسر عبوره. وبالفعل تم توقيع اتفاقيات بين تركيا ورومانيا وبلغاريا وهنغاريا والنمسا في 13/7/2009 لتجري الواردات عبر أراضيها، وتشكّلَ تكتلٌ احتكاري من 6 شركات غربية كبرى تمثل دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا للتمويل والاستثمار. ولم يكن الهدف سراً؛ إنه تزويد أوروبا بالغاز وتقليل اعتمادها على النفط والغاز الروسيين. أي ضرب طموحات قطب دولي آخذ بالبروز وتجريده من عناصر الضغط على الغرب.

اللافت للنظر أن تركيا، والدول الأربع التي وقعت اتفاقيات المرور، اختارت اسماً لهذا الخط هو “نبوكو”، أي مختصر اسم الملك البابلي “نبوخذ نصر” في اللغات الأوروبية، أوحى به اسم أوبرا تحمل الاسم نفسه، شاهدها ضيوف حفل التوقيع في فيينا. هذه الأوبرا وضع ألحانها الإيطالي “جوسيبي فيردي”، ووضع كلمات روايتها “تيمستوكل سوليرا”، وعرضت لأول مرة في 9 مارس 1842 على خشبة مسرح سكالا في ميلانو، وهي رواية مستمد بعضها من حكايات التوراة الخيالية مضافا إليها أخيولات كاتب سطورها الأوبرالية، تقص حكاية غزو “نبوخذ نصر” لما تسميها التوراة “أورشليم” التي لا يعرف إلا الشيطان وحده في أي جغرافية تقع، ثم اعتناقه لديانة الإله “يهوه”، رب سباياه، بعد معجزات خارقة لا أساس لها تاريخيا، ثم إعادتهم إلى “أورشليم” لبناء معبدهم. طبعا ليس غريبا ان يخترع بلغاري أو روماني أو نمساوي اسما لخط الغاز مستمدا من أقاصيص التوراة، فهي تملأ بأساطيرها خواء عقول الغربيين منذ الصغر، ولكن من المؤكد أن هذه التسمية لم تكن عفو الخاطر.

وهناك خط غاز ونفط آخر عملت على مده الشركات الغربية الكبرى نفسها مع شركات أمريكية وإسرائيلية يمتد من باكو في أذربيجان عبر تبليسي الأرمينية وصولا إلى ميناء سيحان التركي، وتم تدشينه في تموز/يوليو 2006، قبل الانقضاض على لبنان بيومين تقريباً. هذا الخط كان من المقرر أن يحمل كميات من الغاز والنفط من حقول أذربيجان، وفيها حقول تملكتها القاعدة الاستعمارية في فلسطين، إسرائيل، فيصب في الميناء التركي، ثم يتجه إلى شواطئ فلسطين المحتلة عبر أنبوب تحت البحر كما قيل، ومن ميناء عسقلان يمضي إلى ميناء أم الرشراش، ومنه للتوزيع في شرق آسيا.

هذان الخطان، الأول والثاني، كان هدفهما الرئيس إمداد أوروبا والكيان الصهيوني بموارد الطاقة، وضرب الاقتصاد الروسي، وتهديد استقلال الاقتصاد الصيني بحرمانه من نفط الدول الآسيوية، فكيف سيتحقق هذا الامداد في ظل أوضاع سياسية غير مواتية؟

 يفترض الخط الأول “نبوكو” أن نفط العراق، ونفط إيران ربما، ومصر، ونفط أذربيجان وتركمنستان سيمر عبر أراض مسيطر عليها، أي أراضي عراقية إيرانية وسورية بالدرجة الأولى، ويفترض الخط الثاني المرور بأمان من تركيا إلى الكيان الصهيوني. قيل في البداية إن نقل محتويات هذا الخط الأخير جنوبا سيتم تحت البحر، ثم قيل بل بالناقلات، ولكن الحرب على لبنان كشفت إن أحد أهدافها هو السيطرة على ساحل شرق المتوسط عسكريا، أي السيطرة على الساحل السوري ولبنان معا ليمتد الخط آمنا وسعيدا عبر الأرض السورية واللبنانية وصولا إلى فلسطين المحتلة.

ولا يحتاج المرء إلى كثير من الذكاء ليدرك أن الخط الأول الذي سيقبض على نفط وغاز العراق ومصر، والمفترض أن يقبض على النفط والغاز الإيرانيين،  يحتاج إلى المرور بالأرض السورية أيضاً. نفط وغاز الخليج مقبوض عليه سلفا، ولكن احتياط الغاز فيه، وخاصة في قطر، سيظل حائرا لا يعرف كيف يصل إلى الكيان الصهيوني وأوربا، رخيصا وبكميات تجارية، من دون أرض تسيطر عليها دول شركات النفط التي تمول وتدير هذا الخط. هذا الخط الذي سيبدأ العمل كما قيل في العام 2017، تشير بعض التحليلات الآن أنه لن يتم بناؤه بسبب تغيرات طرأت على الوضع السياسي وبسبب مشروعات الأنابيب المنافسة، أي الأنابيب الروسية. والواضح أن التغيرات المقصودة هي الانكفاء الأمريكي عن العراق والتحالف الصيني/ الروسي وصمود سوريا في وجه الهجمة العاتية  القائمة حالياً.

 إذاً، كان زوار دمشق من أتراك وفرنسيين وأمريكان.. إلخ قبل إعلان حربهم، يأتون لتحسس طرائق تفكير القيادة السورية ومساراتها ظنا منهم أن هذه القيادة مشغولة بمراقبة دوارة الريح، لا خطوط أنابيبهم واتفاقياتهم وأوبراتهم.

                                                *

كان لابد إذاً من تغيير الجغرافية السياسية. أي لابد من تغيير اللاعب إذا لم تستطع تغيير اللعبة كما اعتاد القول ساسة الغرب ومخبروهم. وليس هناك من خريطة توضح كيف تفكر الولايات المتحدة وتوابعها في الغرب أفضل من خريطة ” كيف سيبدو الشرق الأوسط الجديد؟” التي تظهره مفتتاً إلى شظايا عرقية وطائفية ومذهبية، وهي خريطة نشرها العقيد الأمريكي “رالف بيترز” في مجلة القوات المسلحة الأمريكية قبل شهر واحد من غزو لبنان في العام 2006، وتحديدا في شهر حزيران من ذلك العام. وليس هناك أوضح من عجرفة “كونداليسا رايس” وهي تقف في بيروت بينما كانت القذائف الأمريكية تنهال على لبنان، وفي مخيلتها هذه الخريطة نفسها، لتعلن: “هذا هو مخاض الشرق الأوسط الجديد المؤلم” !

بالطبع، تبين بفضل المقاومة اللبنانية والدعم السوري/الإيراني غير المحدود للمقاتلين، والصواريخ الروسية المضادة للدبابات، أن هذا المخاض الذي جاءت “رايس” تبشر بخرائطه لم يكن إلا أضغاث أحلام، وسيظل كذلك ما دامت البوصلة الاستراتيجية متجهة شرقا، وما دام تحالف البحار قائما. صحيح أن حكومة تركيا الحالية أصبحت خارج هذا التحالف، وتكفلت بمهمة تمهيد الأرض السورية او تدميرها بالأحرى ليمر خط “نبوكو” وخط “باكو-تبليسي-سيحان” بسلام لصالح دول حلف الناتو وتوابعه، إلا انها ستبدأ بالاختناق حين تشعر بأن لدى دول هذا التحالف الشرقي قبضة قادرة على ضغط عروق الرقبة أيضاً، وليس قص الذيول فقط، وأن صورة العالم تغيرت، ولن تستفيد من أخذ درس معاكس للدرس العثماني في الحرب العالمية الأولى، أي بالتعلق بأذيال الحلفاء بدل مواجهتهم كما حدث آنذاك. هذه سذاجة وغباء سياسي. الميزان مختلف الآن تماما؛ هناك غرب يتدحرج نحو غروب شبيه بغروب آلهة أوبرا “خاتم النيبلونج” للألماني فاجنر، تلك الآلهة التي حين فشلت مخططاتها لجأتْ إلى مقرها السماوي (الفالهالا) وأحرقت نفسها، وهناك شرق صاعد نحو شروق اعتادت عليه البشرية منذ طفولتها. ومثلما لم تشرق الشمس يوما من الغرب، فلن تتراجع الشمس الشرقية عن مواصلة مسارها.

 وأجدني هنا منجذبا إلى اقتراح اسم آخر لخط “نبوكو” يناسب المقام، هدية منى إلى الممثلين الخمسة الذي استوحوا اسمهم الأثير من أوبرا “فيردي”. ففي ظل الوضع الدولي الراهن، وتدهور عربات الغزاة الغربيين، أليس من مقتضيات الواقعية العزيزة على قلوبهم، وما داموا مغرمين بأسماء الأوبرات، إطلاق اسم “غروب الآلهة” ، أي الفصل الختامي في أوبرا فاجنر، على خط غازهم ونفطهم وكل خط  يفكرون بتمديده من الآن فصاعداً؟