«البناء» تنشر فصولاً من كتاب د. عادل سمارة “تحت خط 48 ـ عزمي بشارة وتخريب دور النخبة الثقافية”

 

  • ·       انتخابات سياسية لـ«التكيف» و«استدخال الهزيمة» 

 

في عدد اليوم نعرض للآلية التي اعتبرها عزمي بشارة فعّالةً في عملية التكيّف المنشود من قبل فلسطينيي 1948 مع الدولة الصهيونية وهي آلية الانخراط في العملية الانتخابية السياسية في الأرض المحتلة خصوصاً أنها تجري في وضع دولي لمصلحة التطبيع والاستلحاق بالدولة الصهيونية.

الوضع القائم على 4 دعائم:

تعاظم شروط الرأسمالية العالمية.

ضعف الممانعة الفلسطينية والعربية.

طغيان الأحادية الأميركية.

النتائج السلبية الحاصلة بفعل الضغوط الاقتصادية على الشعب الفلسطيني.

هناك مجموعة من النقاط التي تشكّل أسس ورقة عزمي بشارة، سأحاول التطرّق إليها بايجاز:

بعد مسلسل المآزق التي قادت مجموعة المفاوضين شعبنا ووطننا إليها، يحاول الكثير، إن لم نقل كل هؤلاء، جرّ المعارضة إلى حوار مع سلطة الحكم الذاتي، تحت ذرائع عدة من طراز كلنا في قارب واحد، وعارضوا التسوية من داخلها، وأن الوطن في خطر… . كما يقوم بعض المفاوضين بلعن الاتفاق وإبداء الندم على «فعله» المشاركة فيه. والحقيقة، أن كل هذه التبريرات والتخريجات، لا تعدو كونها جهوداً من أجل توريط المعارضة، ليغطس الجميع أمام التاريخ، فلا ينجو أحد كمبشر للمستقبل. وقد يكون في هذا الصدد بيت من الشعر التالي جواباً مناسباً باسم المعارضة :

وكيف مقامي في المدينة بعدما

قضى وطراً منها جميل بن معمر

فقد قضى الأمر، ولم يعد يعني دخول أي طرف في تحالف أو تآلف مع جماعة التسوية، سوى أمر واحد هو الإقرار بالتسوية، والبكاء على أبواب الكنيست ليسمح لنا بالصلاة في الأقصى أو القيامة. لا بل إن أي تآلف هنا، أو تأييد للانتخابات، أو كما يقول البعض: «أن تدخل الانتخابات ببرنامج مضاد للتسوية، أي بنظرية «شطّار» أيام زمان.. إلخ، ليست سوى محاولة عاجزة عن إنقاذ الوطن بل حتى عن تلطيف، مجرد تلطيف، أوجه المفاوضين، فما بالك بالموقعين. من بين الذين يحاولون تلطيف الأمر، أو يدخلون التسوية، ولكن من الباب الموارب، عزمي بشارة الذي كانت كتاباته عن الاتفاق هي الأكثر سخونة وتشدداً. يبدو أن عزمي لم يستطع التقاط الخيط الأساسي الذي حكم مسار المنطقة منذ نشأتها، فهي لم ترتق إلى ثورة مكتملة، ولم تنحط إلى مستوى مجموعة من المطالبين بالاستقلال من دون مقاومة مسلحة.

ليست الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن عبد الفتاح إسماعيل وقحطان الشعبي… وليست الجبهة الوطنية جماعة مكاوي والأصنج. ليست بن بيللا وليست فرحات عباس في الجزائر… ولأنها ليست هذه ولا تلك كلياً، فإنها ظلت مفتوحة على الخيارين، وانتهت إلى الثاني. ولأنها كذلك واظبت أنا على تسميتها حركة مقاومة. يلاحظ من حديث عزمي، أنه معني بتفريغ الخيار الأول من مختلف إيجابياته في سبيل إعطاء مشروعية للخيار الثاني، وذلك لتبرير أطروحته الداعية «لمشروعية» الانتخابات السياسية في المناطق المحتلة. والحقيقة أنه بعد مدريد، وخاصة أوسلو، فإن مشروعية المنظمة أو القيادة الحالية لم تعد مشتقة من الماضي، ولا حتى من اختزالها في قائد فرد أو مجموعة أفراد. إن «مشروعية» هذه القيادة حالياً، قائمة على طبيعة الحقبة بشكل كلي وواضح. تقوم استمرارية هذه القيادة على أربعة عوامل على الأقل تؤدي رغم تناقضها إلى النتائج نفسها، وهي:

– تكليف القيادة الحالية، طبقاً لما تقتضيه شروط الرأسمالية العالمية والمحلية والعربية في فتح الوطن العربي، أمام حركة تجارة دولية حرة متجاوزة القوميات والشعوب، أي لمصالح الطبقات الوطنية الشعبية.

– ضعف أو غياب الرفض والمعارضة الفلسطينية والعربية.

– قوة بلدوزر النظام العالمي ممثلاً في وحدانية الهيمنة الأميركية.

– الدور الذي لعبته الضغوط الاقتصادية على الشعب الفلسطيني والقمع وتضحيات الانتفاضة، ما «حيّد» الأكثرية الشعبية تجاه التسوية، لكنه لم يجندها لصالح التسوية.

مرة ثانية يستفيد عزمي من عجز استراتيجية الكفاح المسلح ليبرر مخطط التسوية، مؤكداً على استحالة إسقاط اتفاق أوسلو، معللاً النفس بإمكان تغييره وتجاوزه، وأنه من أجل هدف التحرر من الاحتلال، يجب القبول بأشكال متعددة، مثل المساواة مع الآخر والتحرر الوطني والتكامل مع الوطن العربي. والحقيقة، أنه إذا كان الكفاح المسلح قد استغرق ثلاثة عقود، لينتهي إلى العجز عن التحرير، بغض النظر عن الأسباب، فإن طريق التفاوض التي يطرحها الكاتب، قد انتهت إلى فشل خلال أشهر أو غالباً ثلاث سنوات. إن ما يدعو إليه الكاتب هو أن يتبنى الشعب الفلسطيني كاملاً سياسة التفاوض المهزوم، بعد أن ظلت حكراً على مجموعة محدودة لم تعد للشعب فيه أية استشارة. وعليه، فإن الكاتب يفاخر بأنه وصل إلى الاستنتاج، بأن الكفاح المسلح قد هزم، ليطالب الشعب بالاستسلام الكلي عبر هذا النمط من التفاوض. والأكثر غرابة أن الكاتب يرفض الطريق الثالث، أي أن طبيعة التناقض لا تزال استقطابية، وأن الطرف الإسرائيلي لا يزال يرى المسألة في نطاق بلد لشعب واحد وحسب. وبالتالي فإن الشعب الفلسطيني ليس في عجلة من أمره لدخول هذا النمط من المفاوضات. وطالما أننا في وطننا، فلنقاوم ما استطعناـ وليس شرطاً أن تكون مقاومتنا لامعة في الإعلام العالمي كما كانت مفاوضاتنا. وحتى لو توقف النضال في لحظة كلياً، فهذا أمر خاضع لطاقة الناس.

محاورة انتقادية مع التجمع الوطني الديمقراطي في مناطق 1948 مجلة كنعان العدد 76 أيار 1996

أعلنت أخيراً إقامة حزب برلماني جديد من قبل بعض العرب الفلسطينيين في «إسرائيل» هو التجمع الوطني الديمقراطي، حيث أقيم وجرى تسجيله في فترة قصيرة جداً تم توقيتها لتكون عشية الانتخابات. وهو حزب في غالبيته من الفلسطينيين الذين كانوا يرفضون دخول الكنيست باعتباره برلمان الدولة اليهودية، وبالتالي للمواطنين اليهود فقط. وعليه، فإن مجرد كونه لليهود فقط، فهذا يعني أن لا مكان لبرلمان للعرب ولا مكان للعرب فيه إلا بمقدار إخضاع أنفسهم والتكيف مع الشكل الذي صيغ لهم من قبل القانون الإسرائيلي. وهو وضع استثنائي لا يعطيهم الحق المتساوي، وإن أعطاهم حق المواطنة الذي هو جوهرياً حق إقامة.

وعلى أية حال، فإن «التكيف» ليس أمراً جديداً على العرب الفلسطينيين في مناطق 1948. ولسنا هنا بصدد مراجعة هذا الأمر، إلا بإشارة محدودة تفيد بأن ممارسة عملية التكيف هذه كان من قبل فئات أو أفراد قاد تطور حياتهم ومصالحهم للابتعاد عن المجتمع العربي الفلسطيني هناك، والاقتراب من هوامش المجتمع اليهودي، وذلك سواء بالمصالح الاقتصادية، أو بالدخول في الأحزاب الصهيونية «على شكل يافطات عربية».

لا شك أن هؤلاء كانوا يحلمون بالمساواة مع اليهود، على أرضية التكيف بالطبع، أي التكيف من خلال المسرب الذي فتحته السلطات «الإسرائيلية» صهيونية الاتجاه بالطبع. كما قامت إلى جانب هؤلاء مدرسة أخرى في المطالبة بالمساواة ذات درجة أعلى من الأولى، ولكنها ظلت في نطاق التكيف وهي مدرسة الحزب الشيوعي «الإسرائيلي» «راكاح» وهو الحزب الذي حمل موروث التحريفية السوفياتية في الاعتراف بـ»إسرائيل» باعتبارها الدولة الاشتراكية الأولى المتوقعة «قريباً» في الوطن العربي. هذا ما أجاز للاشتراكية الديمقراطية بعامة الاعتراف بالحركة الصهيونية ولا سيما بوعيل صهيون انظر كنعان العددين 73 و75 لعام 1996 ، وذلك في فترة مبكرة أي عشرينات وثلاثينات هذا القرن، في حين أن لينين وكاوتسكي بقيا موقفيهما من رفض الاعتراف بهذه الحركة.

وعلى أية حال كان وما زال هذا التناقض هو مقتل «شعبية» راكاح، حيث يعتبر نفسه حزباً غير صهيوني، في حين أنه يقر بالدولة الصهيونية ما حال دون أن يكون حزباً جماهيرياً غربياً. ووضعه في تناقض مع الانتماء القومي للعرب الفلسطينيين في «إسرائيل».

أما الحزب الجديد هذا فهو مناداة بالمساواة من النوع نفسه، أي على أرضية «التكيف» ولكن مع اختلاف في الدرجة. وقد يرتد خروج هذا الحزب الجديد من تحت إبط «عقلية راكاح» إلى أسباب منها أن بعضاً من كوادر هذا الحزب كانوا قد ولدت في مدرسة راكاح نفسها، إضافة إلى أن المنظمة السياسية الوحيدة التي تشارك كمنظمة في هذا التجمع «أبناء البلد» هي نفسها قد عادت لتتقاطع في النهاية مع راكاح في ما يخص الانتماء الهزيل للنظرية الماركسية- اللينينية، وأقصد جانبين بالانتماء الهزيل الأول: إن هذه المنظمة لم تكن مرة ذات فهم عميق للنظرية، وهذا يقربها ويبعدها عن راكاح. يقربها بمعنى عدم توفر انتماء حقيقي لهذا الحزب للنظرية حيث كان تابعاً للمدرسة السوفياتية، ويبعدها راكاح لأنها كانت تطرح موقفاً سياسياً قومياً من الدولة الصهيونية وهو الموقف الذي يرفض هذه الدولة لا لعصبية قومية وإنما بناء على جوهرها الاستيطاني ومصادرة حق الشعب الفلسطيني في كل شيء.

والثاني أن منظمة ماركسية يجب أن تكون منظمة ذات جذور في الطبقات الشعبية، وهو الأمر الذي فشلت فيه ابناء البلد، فبقيت مجموعة من المثقفين «متوسطي الحال» فكرياً ما جعل انزلاق النظرية بين أصابعهم أمراً ممكناً وسهلاً.