حروب “السوليدير”!

ثريا عاصي

يحار الناظر في تتابع الثورات وانتشارها في بلاد العرب. الكل يعرف حقيقة الأزمة. إنّها منازعة على السلطة، بدأت منذ أن صار للعرب دولة. إنها قضية مزمنة. الداء معروف. ولكن المشكلة هي في التداوي.
لا غلوّ في القول إنّ العلاجات التي تجرّعتها في زمن الثورات بعض المجتمعات العربية المريضة بمرض السلطة التي تحكمها، هي علاجات أميركية الصنع. لا أعتقد أنّ المسألة بحاجة إلى براهين، فلقد أشرفت الولايات المتحدة الأميركية على السيرورة، بدءاً من مرحلة التشخيص الذي كُشف النقاب عنه بواسطة برقيات ويكيليس الشهيرة، بالغلاظة الأنكلوساكسونية المعروفة، دون مراعاة لمشاعر الأعوان والأتباع، وانتهاءً بـ«الثورات» التي انطلقت في سنة 2010 من تونس.
ـ أسفرت الثورات الأميركية عن تنحّي الرئيسين التونسي والمصري. اقتصر التغيير في البلدين إلى حدٍّ كبير، على استبدال الأشخاص وعلى مُتغيّرات في الشكل، فكانت المحصّلة هي شراكة بين فريق الحكم القديم وبين الإخوان المسلمين. بالضّد من تونس، لم تنجحْ هذه الوصفة في مصر. مردُّ ذلك من وجهة نظري إلى أنّ لكلٍّ من الطرفين، الإخوان المسلمون والجيش، مصالح متناقضة مع مصالح الطرف الآخر، فوقعت المصادمة بينهما ولا تزال مستمرة.
ـ كانت النتائج كارثيّة في ليبيا، لأنّ اغتيال قوات التدخل الفرنسية للعقيد معمر القذافي، تسبّب في انهيار الكيان الذي كان هذا الأخير يُديره بمفرده. بمعنى أنّ العقيد كان قد اختصر الدولة في شخصه، فضلاً عن أنه كان معروفاً عنه أنه يكنّ البغضاء للمستعمرين، لذا اغتاله الأخيرون عندما سنحت الفرصة. أعتقد في سياقٍ مشابه، إنّ عدم ثقة الأميركيين، بالرئيس صدام حسين، جعلهم يفضّلون تدمير العراق وتفرقة العراقيين، وحلِّ جيشه. ما يدعو للأسف هو أنّ العراقيين تفرّقوا، وأنّ الجيش العراقي انحلّ.
بالرجوع إلى لبنان، لا يختلف اثنان على أنّ الدولة في بلاد الأرز تبدّلت بعد اتفاقية الطائف الموقعة في أيلول 1989، حيث تقاسمها آنذاك آل سعود والحكومة السورية. نجم عن ذلك بيئة ملائمة للفساد في لبنان إلى درجةٍ تفوق كلّ تصور. مجمل القول إنّ السلطة في لبنان صارت حكراً لأصحاب النفوذ الذين استولى كلّ منهم على حصة طائفته، من واردات الدولة ومن الوظائف الإدارية ومن الامتيازات التجارية والخدماتية، لشركاته الخاصة، فامتلك الميزانية الكافية لتغذية المحاسيب والأنصار.
هذه سمات تُميّز الأوضاع في لبنان منذ أن كان، ولكنها ازدادت بشاعة منذ أن أمسك الحكام الحاليون كل باسم طائفته، بزمام السلطة، أي بعد اتفاقية الطائف وتعاظم تأثير آل سعود على الساحة اللبنانية. لا أظن أنّ أحداً في لبنان يجهل هذه الأمور. المشكلة إذن ليست في افتضاح أمر الحكام، وإنما هي بحسب رأيي، في عدم استعداد اللبنانيين، ربما بحجة الواقعية، للثورة ضدّهم. ما أودُّ قوله هو أنّ الانطباع السائد لدى الناس العاديين، الذين قد لا يكون المتظاهرون في بيروت يمثّلونهم، تمثيلاً حقيقياً، هو أنّ الوزير والرئيس والنائب يـُنصّبون ويـُعفون من مهامّهم بإرادة جهات خارجية، أجنبية. ينبني عليه واستناداً على تجارب «الثورات»، يحقُّ لنا في الظروف الراهنة حيث يحتدم القتال في سوريا، ويطال القصف العشوائي مدينة دمشق نفسها، يحقُّ لنا، أن نعتبر «انتفاضة» بيروت السلمية الشبابية، حبّة في عنقود «الثورات» التي شجّعتها في السنوات الأخيرة، الإمبريالية الأميركية ـ الأوروبية في بعض بلدان العرب، حتى يثبت العكس.
من البديهي أنّ الأخذ بهذا الاحتمال له ما يبرّره، إذ لا يخفى أنّ للولايات المتحدة الأميركية، وللمستعمرين الإسرائيليين أهدافاً في لبنان يعملون على تحقيقها، وهي بالتأكيد لا تقل أهمية في نظر قادة الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وإسرائيل، عن تلك التي سعوا إلى بلوغها في العراق وليبيا ومصر وسوريا، هذا من ناحية، أمّا من ناحية ثانية، فإنّ المنطق يُجيز لنا القول بأنّ المؤسسات المخابراتية الأميركية أعدّت نُشطاء لبنانيين على استخدام أساليب ووسائل تحريك المجتمع المدني، كما أعدّت مثل هؤلاء النُّشطاء في مصر وتونس واليمن.
يبقى أن نقول في الختام، أنه في حال كانت الانتفاضة ضدَّ المافيا التي تحكم لبنان، لبنانية الأصل، لا خوف منها، لأنها ستنتهي بتسوية يرضى عنها العرّابون المحليون. أمّا إذا كانت أميركية ـ أوروبية كما أعتقد، فإنها ستضع لبنان أمام مفترق: إمّا أن يتفق أنصار آل سعود مع أنصار إيران. على ماذا؟ وإمّا ستشتعل الحرب بين الفقراء، أو بالأحرى تتمدّد الحرب في سوريا إلى لبنان.. حتى يتمّ تدمير أبنية شركة الأملاك العقارية، «السوليدير»، في وسط بيروت فترتجع هذه المدينة المشهد الذي كان قبل بزوغ شمس الحريرية!

:::::

“الديار”