الدوري العربي

أحمد حسين

سباق الحمير

 

تصوروا أن لاعبا قام أثناء مباراة لكرة القدم بقذف الكرة متعمدا على الجمهور . فما هي الرسالة التي أراد إيصالها بما فعل ؟ لا تتعبوا ذكائكم ! إنه مجرد لاعب كرة قدم لا يمكن أن يقصد شيئا له معنى . ببساطة عقله في قدميه . وربما خيل له أن الجمهور يبذل مجهودا أكثر من الشباك والخشبات التي يصوب إليها باستمرار، ويستحق ولو ضربة واحدة من قدمه  اليمنى ليعبر عن احترامه لغبائه الذي يدر عليه ملايين الدولارات . ولكن لنفرض أن عقل الجمهور الموزع بين اقدام اللاعبين أصر على وجود رسالة أبعد من قدمي اللاعب حينما قذف الكرة ، فسوف تختلف الآراء ، وتتأجج المشاعر ، وينقسم الجمهور تلقائيا بين مؤيد لقدم اللاعب ومعارض لها ، وتستعر الإيديولوجيات الكروية التي ليس لها حل أبدا بسبب استدارتها التامة ، وتسفر عن قتلى وجرحى .

ولكن ما دام الآخرون يحق لهم الإجتهاد فلماذا لا أجتهد ؟

لعبة كرة القدم  لعبة رعاعية تقوم على المهارة الحركية البهلوانية  كألعاب السيرك . ويقال أن ألبريطانيين هم الذي اخترعوها . ويبدو ذلك الزعم منطقيا فهم الذين اخترعوا الديمقراطية الحديثة . والفرق بين اللعبتين فرق شكلي فقط . فممارسة لعبة الكرة تشترط مساحة مغلقة وجمهورا واسعا . وكذلك الديموقراطية تشترط مساحة دستورية مغلقة وجمهورا واسعا جدا ،لا يدري ما يُفعل به . هكذا كان يعتقد البريطانيون : إذا أردت أن تخدع الجمهور فاعتبره حمارا واحترمه . وحبهم للحمير مشهور .  فقد كانوا يعاقبون من يضرب حماره من فلاحي الأمم المستعمرة ضربا مبرحا. وهم الذين اخترعوا سباق الحمير في الهند . فكانوا إذا نظم غاندي مظاهرة دسوا من ينشر بين الجمهور أن هناك الآن مباراة كرة قدم تجري بين العسكر البريطاني والعسكر الأسترالي ، أو أن هناك سباقا للحمير خارج نيودلهي . فكان معظم الجمهور يترك المظاهرة ليرى لعبة الكرة أو سباق الحمير ويظل غاندي مع فئة لا تكفي لعرس عربي .

أما سباق الحمير ، فشأنه  مشابه ، فقد كانوا يتحزبون للحمير المتسابقة بأرقامها أو بأسماء إنجليزية مشهورة معلقة على مؤخراتها بحروف إنجليزية تسبقها كلمة السيد أو الكونت أو اللورد . وكان الهنود ينخرطون في الضحك حتى فقدان الحواس . خاصة حينما يقف المندوب السامي الواقف على المنصة مع حمار تشرشل رئيس حكومة بريطانيا المشارك في السباق ، ليفتتح بمعيته المناسبة . فكان المندوب السامي يرفع صوته مخاطبا الحمار : والآن هل يسمح سيدي ممثل اللورد تشرتشل بافتتاح السباق . وكان الجمهور يفقد صوابه طربا عندما يسمعون المندوب السامي يخاطب الحمار بسيدي وينحني له . وكان هتافهم المفضل : عاش حمار الإمبرطورية . فكان المندوب السامي يشاركهم الضحك ويرفع لهم يديه مرحبا ثم يصرخ : نحن نحترم الحمير . هذه هي الديموقراطية ! أما الجمهور فلم يكن يشبع من الضحك على تفاهة الإنكليز والتشفي بهم . وكثيرا ما هتفوا : عاش الحمار السامي . فيهمس المندوب : نعم ! ليعش الحمار السامي ما دام سيسقط غاندي .

على هذا الأساس ، فإني أجتهد وأقول أن لاعب كرة القدم أراد يقول : أيها السادة الحمير ، شكرا على غبائكم ، شكرا على هتافكم ، شكرا على تجاوبكم مع هذه اللعبة السخيفة المنفرة ، وبالأخص شكرا لكم على دمائكم التي تسيل تضامنا مع كرة القدم .

سبحان الله ! أليس هذا ما تفعله أمريكا والغرب والصهيونية بنا اليوم ؟

ألم يُسوّدوا علينا الحمير ؟

ألا نجلس كالنظارة في مباراة كرة القدم نهتف حول دمنا ؟

ألا يرمون بالكرة في وجوهنا كل لحظة لنتقاتل فقط ؟

ألم يجعلونا نتبنى لقب السيد حمار ذاتيا بدون أن نشعر ؟

ماذا سيجد السوري الهارب من وطنه إلى بلاد العدو غير لقب السيد حمار ؟

أليس صموده في وطنه ، أقل خطرا من ركوب البحر حيث تترصده الأيدي الخفية التي دفعت به ليموت موتا مجانيا في الماء المالح . فإذا لم يمت على سواحل الهرب ميتة المشردين  ، سيموت على سواحل وطنه بنيران شعبه عندما يعيده الغرب لغزوها ، ميتة الخائنين ؟

هل ظل في عوالم الشرق المنكوبة من لا يعرف أن الغرب بكل مفكريه وإكاديمييه ، يعمل الآن في صناعة الحمير، من داعش حتى الهاربين إلى مذاود الوهم ؟

أيها الهجريون جربوا العقل ، جربوا التفكير ، جربوا طعم الحرية . الله ، حاشا عظمته ، لا  يريد حميرا من البشر . الذي يريد ذلك هو الغرب الذي أرسل عليكم دينا إسمه الفقه ، وعجولا مكتظة  بالخسة اسمها الفقهاء . وأعداءً لكم من أنفسكم . خلطوا كرامتكم بالمهانة ، وإنسانيتكم بحموريتهم ، وعقولكم بالجهل ، وإلهكم بصنميتهم ، ودينكم بدسائسهم  ، وإيمانكم بكفرهم . لو إراد الله الكهانة لسمّاها ووضع ضوابطها . لكنه أراد المسلم حرا عاقل الإيمان مسؤولا ، ورعية مباشرة له لا للفقهاء . فساوى في التكليف بين النبي وبين المسلمين عامة . إقراوا القرآن ، لا أم لكم ! ستجدون بين ما أراد الله بكم وبين ما أراده الفقهاء واسيادهم الذين أضحكوا عليكم العالم واغنوا بكم القبور ، كما بين الإنسان وبين السيد حمار . لا تُسوّدوا أنفسكم على غيركم ولكن لا تُسوّدوا أحدا عليكم غير الله . هذه هي الحياة كما صنعها خالق كل شيء . لا تُسوّدوا الصهيومريكية  والغرب  والفقهاء عليكم ، ولا تفرّوا من الموت فتموتوا خاسئين ، من أجل ساندويتش هامبورغر ، كما حصل لماركسيي الصهيونية وأمريكا الذين أرادوا أن يتعشوا مرتين ، واحدة على حساب البروليتاريا وواحدة على حساب أمريكا والصهيونية ، فلم يتعشوا أبدا . وصار لهم مثل مصيفة الغور ، يعني كلبة ” تْعِنّك ” اللي دشّرتْ بلدها وراحتْ تصيف في أريحا . والتمّتْ عليها كلاب أريحا…  وشوف عاد ! لا صيّفت ولا عرضها نابها . وهيك الفقها يا إخوان . بتعشوا مرتين . مرة على حسابكم ومرة على حساب الدين . تنسوش سباق الحمير . الشيوعيين الصهاينة والفقها  نفس الدقة ! بكملوا بعض . بتسابقوا مين منهم بكره العرب أكثر .

عزمي بشارة

ديك حسن الصوت تزوج من عشر دجاجات ، كن يعتقدن أنه حصان برلماني . وكان هو وحده فقط  يعرف الحقيقة .

كل عضو كنيست عربي هو طبعا مفكر قومي ووطني . ولكن عزمي كان مفكرا قوميا من طراز متفوق . فهو كما قال الأعمى الشعوبي بشار كان حسن الصوت . و “عندما أحس بأن الجماعة سيعتقلونه ، هرب إلى الأردن “. أي إلى أرض إسرائيل الشرقية .

كنت أعرف عزمي جيدا  كمفكر قومي من الطراز البرلماني المتفوق ، لذلك لم يكن محتملا أن تكون بيننا علاقة شخصية تذكر من الجانبين . ولكنه وصف في إحدى مقالاته القومية تركيزي الشديد على إنكار أن الإسلام سابق للعروبة ، وإصراري أن كل حضارات المنطقة  السامية المؤسسة هي بالقطع التاريخي العرقي والبنيوي حضارات عربية ، وأن الفلسطينيين هم امتداد للأصل العربي الكنعاني صاحب الأولية التاريخية في فلسطين ، وأن اليهودية هي هامش أسطوري كنعاني ….. وصف ذلك بتعال متجاوز أنه ” هزة بدن ” . ورددت عليه بمقال مطول نشر في موقع ” أجراس العودة ” بينت فيه أن “وعيه” القومي يتطابق جيدا  مع مشروعه التعاقدي الصهيوني ، كعضو سابق في الحزب الشيوعي الإسرائيلي . ثم كففنا عن ذلك ، هو خوفا من الإنكشاف وأنا قرفا من النموذج .

كنت عضوا في جمعيتين أهليتين هما ” الصوت لنشر الوعي التقافي الفلسطيني ” و ” جمعية انصار السجين ” أبرز أعضائهما المرحومين منصور كردوش وصالح برانسي رجلا حركة الأرض المحظورة . وكان عزمي بشارة ، في ذلك الحين ، شيوعيا ” مطرودا ” ولم يصبح بعد عضوا للكنيست . وفي أحد الأيام جاء الأخ صالح برانسي ليقول بحماس شديد أن عزمي بشارة يريد أن يجتمع بأعضاء الجمعيتين لبحث إنضمامه إلى ” الحركة القومية الإشتراكية ” التي أنشأناها بمواصفات قانونية ، فقط تحايلا للحصول من خلالها على ترخيص بإصدار صحيفة  . لم ننجح في إقناع صالح برانسي أن عزمي بشارة يريد أن يصبح حصانا برلمانيا ، وأن اللعبة تافهة ورخيصة هدفها الركوب على الموجة القومية من خلال منصور كردوش وخلاله كأبرز القوميين على الساحة . وأنه سيعزز بهما أهليته القومية ، ثم يسقطهما في الطريق إلى مخدعه البرلماني .  وأصر صالح على موقفه من عقد الإجتماع  مع بشارة .  وأصررت مع بعض الأعضاء الآخرين على الرفض . بينما لزم منصور الصمت كعادته في الأزمات . وأخيرا قررنا احتراما لصالح وتلافيا للإنقسام أن نحضر الإجتماع بشرطين :

 1- ألاّ يعقد الإجتماع في مكتب الجمعيتين . (تبين لنا بعد ذلك  أن هناك اتفاقا بين صالح وعزمي لعقده في أحد فنادق الناصرة ) .

 2- أن أقوم شخصيا ، بكتابة ورقة عمل تحدد بنود البحث في الإجتماع  ، وتوزع على الجميع قبل بداية الجلسة . وقد اتفق الجميع على ما ورد فيها من بنود . وكان البند الأول يقول أن هذا الإجتماع لا يشمل بحث قضية العضوية في الكنيست لأنها غير ” ممكنة وغير واقعية  في هذه المرحلة ” .

 وحينما حضر عزمي بشارة ، وزعنا الورقة ، وانتهت الجلسة بدون كلمة واحدة . قال أنه سيدفع ثمن القهوة ومضى . وعرفت فيما بعد أنه طلب من صالح استثنائي من حضور الإجتماع ، ووافق معه المرحوم ، ولكن منصوررفض . على الأقل هذا ما وصلني ، وأميل إلى تصديقه . كما أن هناك قضية أخرى لابد من ذكرها حتى لا تكون إجحافا بحق أحد . من الذي بادر للإتصال بالآخر ، المرحوم صالح برانسي أم عزمي بشارة ؟ لا أعرف .

هاتان التجربتان لم أكن بحاجة إليهما لأعرف أن عزمي بشارة لا يختلف عن غيره  من الفواصل ، ولكني لم أعرف أنه يُعَدّ ليكون نقطة وقف ، وجزءا من الإعداد للربيع العربي ” الثوري “. وحتى بعد حادثة ” هربه إلى الأردن ” لم أتخيل أنه جزء من مشروع بهذه الضخامة . وأنه سيكون سفيرا فوق العادة للمشروع الصهيومريكي في العالم العربي .

ما لفت نظري بدون تردد ، في حركة عزمي بشارة المفاجئة، أمران لا تخطؤهما أية سليقة سياسية عفوية :

أولهما أن عزمي بشارة لو كان من ملوك الجان فلن يستطيع ” الهرب ” من البلاد بدون علم أجهزة الأمن الإسرائيلية .

أن  “هربه ” إلى الأردن كان  كالذي يهرب من طرشيحا إلى تل أبيب . وأنه حتى من الناحية الشكلية لم يكن ” يهرب ” .  فالأردن محمية أمنية إسرائيلية ، والنظام غير قادر على حمايته من ” البوليس ” الإسرائيلي حتى لو أراد . وكلنا نذكر مسرحية ترسيم خالد مشعل سفيرا متجولا بمشاركة من النظام الأردني الذي ” أجبر ”  إسرائيل على إرسال الترياق ضد  إبرة السائل التي دخلت خالد مشعل . ومع ذلك من يستطيع أن يتوقع أن عزمي بشارة وخالد مشعل ، هما راسبوتين عربي ، وراسبوتين إسلامي ؟

كنت أيامها أكتب في موقع التجديد العربي الذي تموله السعودية ويكتب فيه كل افندية القومية العربية البارزين والناشئين .  وكتبت رأيي في خطوة عزمي، من وجهة نظري ، بدون تحفظ . ولكن حينما كتبت مقالي ، كان القوميون العرب بقيادة معن بشور والمؤتمر القومي العربي ، قد دخلوا في حالة تفرغ احتفالية للترحيب بعزمي بشارة المفكر القومي العربي الفذ ،  الذي تحدى النظام الصهيوني وانتصر عليه . واستفزني هذا البؤس القومي والوعيوي الميداني ، فواصلت الكتابة بدون تحفظ رغم انعدام الجدوى . وتجاوزت كما يبدو حدود ما يجيز التطفل  لأمثالي ، فانتهى الموقف بوقفي عن النشر في التجديد العربي بطريقة مهذبة ، وبإعلان المؤتمر القومي العربي عن المفكر العربي الكارثي ، عزمي بشارة رئيسا فخريا للمؤتمر ، بعد أن اعتذر عن الرئاسة الفعلية بسبب انشغالاته الفكرية الإكاديمية .

وكان عزمي بشارة كما يبدو يعاني من ميول إسلامية ملحّة . فاختار قطر مقرا ، والقرضاوي أبا روحيا ، ولكنه لم يتنازل عن شغفه القومي ، فعاود زيارة دمشق التي كان قد زارها قبل ” هروبه “، متحديا . وحظي هناك باستقبال الأبطال ، وبمقابلات عالية المستوى كما قيل .

الإفلاس السياسي وحده هو الذي دفعني الآن للكتابة عن عزمي  بشارة . فليس هناك ما يُكتب عنه بعد أن  بلغ ما بلغ . والكتابة عن حجم الهرم الأكبر سخافة المفلسين سياسيا أمثالي . وعزمي بشارة على صغر حجمه أكبر من الهرم من حيث حجمه الوظيفي . وأتمنى لو يكف عزمي عن تعاليه الأكاديمي عليّ ، وينكر شيئا مما قلته ، وسأكون له على ذلك من الشاكرين . ولكن شوف عاد… !

العراق

سماء أرضية بدأ فيها حقل الوجود ثماره الأولى .  في أرضه اكتسبت المعرفة هويتها الإنسانية الأقدم وبدأ تكون المجتمعات وتكوين الحضارات .  فبين الماء والصحراء عشق قديم منجب . لأن الحاجة أم الإختراع ، ولا تظهر الحاجة  لاستفزاز الوعي في ظل التجربة ، كما ظهرت امام إشكالات الحياة البدائية الجدلية ، وقسوة المعاناة من انفصال عنصري الحياة الأوليين : الماء والرمل ، في وادي الرافدين . هناك فرضت فداحة الإشكال مهمة الحياة فرضا على عاتق العقل ، لمواجعة  اقتراح الموت الذي فرضته الجغرافيا الطبيعية . هذه المهمة تضمنت سلسلة من معضلات المعرفة الميدانية التجريبية ، للجمع بين عنصري الحياة الأكثر أهمية ، في علاقة اتصال حيوي واحدة ودائمة ومنجبة . في ظل  صعوبة تكوين هذه الوحدة الملزمة نشأت التجربة وتعمقت المعرفة في مدرسة واحدة ، وأنتجت ترابط التجربة بقانون الإنتظام المعرفي وترابط كليهما بجدل الوعي . لذلك لم تنشا الحضارة في الأدغال التي تقوم فيها علاقة تلقائية حميمة بين الماء والتراب ، تقل أو تنعدم فيها ضغوط الحاجة ومعاناة التجربة ، وتبعا لذلك يتباطأ فيها  نشوء النظام المعرفي والوعي ، أي تكوّن المجتمع والحضارة . كل شيء متوفر عفويا  في بيئة تملك كل عناصر جدلها الداخلي ،  فتفرض تلقائيا حياة من الكسل النسبي ، تكون الحركة فيها بطيئة والتجربة أبطأ والوعي محدودا بقلة الحاجة إلى المعاناة العقلية المتوسمة للتجربة .

وهناك إجماع تاريخي بالواقعة التي ترويها سجلات الحجارة ، أن كل حضارات المنطقة العربية القديمة كلها حضارات سامية أي عربية . فليس هناك ساميون غير عرب . فاليهودية هامش سامي وحثي مختلط من مرتزقة الحروب . والأحباش عنصر اثيوبي وعنصر يمني معروف تاريخيا في الحرب بين فارس وروما حينما هاجر كثير من اليمنيين إلى الحبشة المسيحية هربا من اليهود أتباع فارس في اليمن . والبابليون والآشوريون والسوريون عموما  هم العرب الأوائل ، لأنه لا يوجد سامي  له منشأ غير الجزيرة العربية برملها وسوادها . فالعراق إذن أرض عربية برابطة العرق والثقافة واللغة منذ فجر التاريخ البشري . أي أن انتماء البشر التاريخي والجغرافي فيها واحد بنيوي . والحجارة فيها والبشر سياق بيئي موحد .

والعراق  اليوم ، بالوضع الحالي ، بنية  لم تعد قائمة لا اجتماعيا ولا عرقيا ولا ثقافيا ولا جغرافيا . العراق اليوم بنية بشرية وجغرافية تمت فيها فكفكة الزمان والمكان والبشر والعلاقات البنيوية والجدلية  للسياق  الإجتماعي التطوري حتى التلاشي البنيوي الكامل .  لم يعد هناك من تفاصيل الحركة القديمة عنصر واحد لم تتناوله يد المؤامرة الممتدة بالحذف أو التغيير . ولم يكن هناك جانب دولى أو إقليمي أو عربي واحد بما فيهم الشعب العراقي نفسه ، لم يتبن وجوب فكفكة العراق . لأن العراق الحديث القوي العربي كان أمرا لا يمكن السماح به  صهيودوليا ولو سقطت الأرض على السماء ، من ناحية ، ولأن الحقد السياسي والشخصي الإقليمي والعربي على دور صدام حسين في صياغة العراق الجديد ، كان يحظى بإجماع كوكبي كامل ، من ناحية أخرى . وقد اقتضى ذلك أن تسقط السماء  فعلا على الأرض لمنع الكارثة الإنسانية والدولية والعربية والعراقية ، وهرع الهجريون العراقيون سنة وشيعة إلى الغرب الصهيومريكي ليخلصهم من صدام حسين . ولم يكن يهم السماء الأرضية الجديدة إسم الرئيس العراقي . كان يهمه التخلص من أي عائق يمنع من تدمير العراق وإخراجه من التاريخ  والجغرافيا ومنحه هوية وجودية بديلة تناسب الصهيومريكية.

لقد تحقق ذلك بسلاسة ونعومة فائقة ، لا يكاد يصدقها عقل التجربة أو عقل المعرفة . كأن على العراقيين أن يقتل بعضهم بعضا . ولم يكن ذلك ممكنا بصفتهم عرب . فلم يكن هناك أية دوافع داخل الحالة العراقية من هذه الناحية  يمكن استغلالها تناحريا ، لذلك تم اختلاقها .

في التاريخ العربي الذي لم يشارك العرب في وضعه ، بكلمة عربية واحدة ، قال الشعوبيون والمستشرقون الأكاديميون ، أن العرب كانوا خلال تاريخهم كله منقسمين إلى انتمائين اصطلاحيين حازا على إجماع فقهاء المعرفة والدين والتاريخ والثقافة والأدب والنوادر وعلم الإنساب وكتاب الأصفهاني ” وأمهات الكتب العربية ” التي وضع أهمها في عصر الإنحطاط العباسي المتأخر . اي عصر الإستشراق اللاهوتي المبكر . كان للعرب دائما ثنائية ميتافيزيقية مكررة تكونت منها هويتهم التي استخلصها المستشرقون والشعوبيون ، من هندسةعلوم الفقه والرواية الشفهيىة والوضع والإجتهاد الموجه والسّيَر الملفقة، وأصبحت مدارا مسلما به لكل نشاط عقلى وفكري وثقافي مصنعّ . فالعرب كانوا بائدة وباقية ، وعدنانين وقحطانيين ، وعاربة ومستعربة ، وقيسيين ويمنيين ،  وخُلّص ومهجّنين ، وبدو وحضر ، وعرب وأعراب ، وعراقيين وشامييين ، وبصريين وكوفيين ، وعرب وذميين….. هذه الثنائية الغريبة رسخت تحيزا وجدانيا سخيفا في الثقافة النفسية للعربي بحيث تحولت مع الوقت إلى عاهة  وجدانية مقيمة في اللاوعي ، وجعلت من السهل إقناع العراقيين بثنائية السنة والشيعة التي ربما كان مجرد إشهارها مبدأ للتناحر السياسي . ففقهاء الطرفين مهيئون لركوب هذه الثنائية وتحويلها إلى وظيفة مدرة للدخل كما اعتادوا في كل العصور . وكان الطابع الطائفي المتشدد لهذه الثنائية المذهبية الدينسياسية سببا في ضياع العراق بمساعدة حميمة واستشهادية من جانب شعبه .

لو كان العراقي مخلصا لعقله لما صدق الآن أن محاربة داعش ممكنة في عراق غير عربي . ولما صدق ان الوحدة الصهيومريكية القائمة بين الإخوان السنيين والإخوان الشيعيين يمكن أن تسمح بخلاص عربي أو حتى مستعرب للعراق . عراق فيه السيستاني والهاشمي والمالكي وعلاوي والهادي وأمثالهم عراق محتل أمريكيا ، وسيبقى كذلك يتحرك في اتجاه مصير محتوم . وعراق كهذا لا يمكن إلا أن يشكل  خطرا مبيتا  على سوريا ودول الممانعة . وعلى إيران وروسيا أن تعرفا أنه لا يوجد خلاص غير قومي في المنطقة العربية ، وأن تتخذا قرارهما النهائي على هذا الأساس . خلاص  إقليمي ومنطقي قومي عربي فارسي روسي مشترك . وعلى إيران وروسيا أن تكفا عن مغازلة ومحادثة ” الأنظمة العربية ” وعلى رأسها مصر،  وأن تتجها مع سوريا ولبنان والجزائر إلى دعم  التوجهات الشعبية القومية فقط ، في المنطقة العربية وفي بلادها لأن المرحلة مرحلة تغول اقتصادي غربي مستقو . أي فاشي ونازي وهمجي . والمتضرر الأكبر هو الشعوب الأطرافية الجائعة التي تملك القوة في المواجهة ، ولا تملك القرار السياسي المجير لصالح الغرب . أما النظام فلا يملك القوة ولاسلطة القرار السياسي . ومادامت اللعبة تدور في إطار هذا الواقع ، فستبقى في صالح الغرب . الشعوب وحدها قادرة على مواجهة الإستغوال الغربي القومي النازي ، بدينامياتها القومية الشعبية النابعة من وعي دناءة الآخر القومي المحكوم بنيويا باللصوصية والنهب واحتكار كل الإمتيازات العالمية ، وبحاجتها إلى تثوير وعيها العادل في أن حقوقها الإنسانية لن تستعاد إلا من خلال التناحر الثوري القومي والشعبي مع عدوان النازيات والفاشيات القومية للغرب ومصالحه الإلغائية لأي آخر . الوعي الإجتماعي القومي هو الوعي الأسهل والأصدق في حالة الشعوب اليوم ، بسبب مباشرة العدوان من ناحية على حقوقها المادية والمعنوية ، واندماجه تلقائيا ومعرفيا مع حقوقها الإقتصادية والإنسانية  من رغيف الخبز وحتى اختراق الوجودية  المتوحشة للغرب التي تحجز تطوره الأمامي بالقوة .  الصهيومريكية  والصهيوروبية عدو حتى لدمهم بمبرر وحيد هو القوة  وعبادة الأنا القومية . وهما تملكان مسبقا كل أدوات التفوق النظامي والقرار الإقتصادي ، وانتصار نظام دولي على آخر لا يحل المشكلة أبدا . لأن الحياة لا تعيش في غرف التداول العسكري ، والقصور النظامية . الحياة تتجول في الأسواق والأكواخ ومخادع النوم والعمل وموائد الطعام . الحياة ظاهرة شعبية . والمرحلة المفصلية الدائرة للصراع لا تقترح حركة تصحيحية عبثية . إنها تقترح الحسم المصيري وحده الذي لا تملكه إلا الشعوب . التوازن الدولي مستحيل خارج المشاركة الشعبية المباشرة . والشركات لا تستطيع  مقاطعة الشعوب ، ولكن العنفوان الشعبي يستطيع مقاطعة الشركات وتدميرها . حق الفيتو لا يوقف العدوان . الذي يوقف العدوان هو حقد الوعي الشعبي على هذه المؤسسة الصهيومريكية المنتنة . الدم يسيل بالعدوان ولكنه بالمفاوضات يتحول إلى بول . وفي علاقات البشر لا يوجد حلول سياسية ولا عسكرية . توجد فقط حلول معنوية . توجد حلقات دموية مكررة ، ستظل تيارات  الهيمنة للغرب المتوحش تفرضها على العالم ، إلى أن تفرض الشعوب نيابة عن الحياة قوانينها البناءة  الصارمة ، على النظام العالمي .  وهذا ليس ممكنا فقط بل هو قادم حتما . إرادة الحياة ستخرج أثقالها ، وتخرج معها الشعوب الجائعة والمنتهكة  وعيا أو رغما أمام انعدام الخيار بين الحياة والموت أمامها . الرئيس بوتين يعرف المعادلة ويعرف  الحل، وكذلك نخب الدول المقاومة ، ويراهنون على تفكك النظام الغربي من داخله . ولكن هذا ليس حسما ، فمن المؤكد أن القوى المريضة المتربعة في الوجدان الشعبي في أوروبا وأمريكا لن تشكل ضمانا لأي تغيير في الأنوية الغربية المريضة وعلاقتها الدنيئة بمفهوم الآخر سيعطي للصهيومريكية والصهيوروبية مزيدا من الفرص لخلق تعقيدات وارتكاب جرائم جديدة . كما أن  كل التأخير في استنفار الحسم الشعبي وتعبئة الوعي القومي ، سيعطي لخيار الفوضى البناءة مزيدا من الساقطين والمطبعين ، الذين يتكاثرون كالدود في الساحة الشعبية .

حينما أتصور فرسان الشيعة وفرسان السنة الذين استدعوا أمريكا لتخلصهم من صدام حسين يحكمون العراق ، ولا يطاوعني الضحك  المر ، أفضل فقدان الوعي على الوعي ، وأعترف أن ما يسري على السيستاني يسري على شيعة العراق جميعا، وما يسري على الهاشمي يسري على السنة جميعا . الشعب يمكن أن يخون وطنه إذا كان شعبا هجريا . ما الذي لا يفعله شعب يساوي بين الله وإله الفقهاء .