ألإنتفاضة و “الإنتفادا”
أحمد حسين
________________
1- إنتفاضة
الإنتفاضة حراك أوهبة شعبية أو قِطاعية على خلفية تحررية أو تحريرية . وعندما تكون انتفاضة شعبية تحررية أو تحريرية فعلية وموضوعية ،يمكن اعتبارها ثورة بكل المقاييس . لأن الإنتفاضة تكون في هذه الحالة انعكاسا لعفوية وعيوية واسعة سوف تطور ميدانيا على كل مستويات الحاجة لتتحول بالتدريج التطوري المرتبط بوعي الهدف ، إلى سياق حركي سلمي أو تصادمي ، يراكم ميدانيا وتدريجيا بنيته المعرفية السياقية وهيكليته وآلياته التي تضمن استمراره حتى الوصول إلى الهدف المرحلي كليا أو جزئيا . والأهداف المتحققة رهن بالظروف الموضوعية الميدانية ، الإيجابية والسلبية منها ، لدى كل من الطرفين المتناحرين على خلفية وعيين متناقضين . وفي حالة الإنفراط التنظيمي للحراك ، أمام واقع انعدام التوازن الهيكلي والميداني ، يجري تقييم نتيجة الحراك على أساس صمود الوعي الجماعي الذي أدى إليه ، أو انفراطه أيضا . في الحالة الأولى يكون الوعي قد أدى واجبه السياقي المرحلى واستفاد من التجربة ، لمرحلة قادمة . أما في الحالة الثانية فإن ما حصل يؤكد على شحوب الوعي الجماعي وعدم تجانسه ، مما يؤدى إلى فشل الحراك وإحباط الحركات المحتملة اللاحقة .
إن تعدد الوعي الفصائلي واختلافه جوهريا في الرؤية ، سينتج فشلا محققا ووخيم العواقب من حيث تعميق الإنفصال وتكريسه على المدى البعيد ، بسبب تأزم السجال الفئوي بين الفصائل حيث يحاول كل طرف شرح أسباب الفشل وتحميلها لغيره . وعندها يمكن القول أن الحراك كان من الأفضل وطنيا وشعبيا لو لم يحصل ، وأن المسافة بين الهدف وتحقيقه قد أصبحت أبعد ، وأن الوعي الفصائلي والفئوية هي التي انتصرت وازدادت تجذرا ، وانتصر معها النقيض ، الذي ربما يكون على الأغلب ، على صلة وثيقة ببعض هذه الفصائل سلفا ، وأن ما حصل منذ البداية لم يكن انتفاضة بل ” إنتيفادا ” . والفرق بين الإنتفاضة والإنتيفادا هو أن الأولى مبادرة جماعية فرضتها الحاجة الموضوعية الإجتماعية أو الوطنية ، أما الإنتيفادا فالمبادرة إليها تأتي من الخصم لأنه هو صاحب الحاجة إليها .
2- إنتيفادا
” الإنتيفادا ” هي عمل إجرائي مفصلي على مستوى مرحلي ، يخطط له كل نظام احتلالي يبني أمنه على الإحتفاظ بزمام المبادرة بيده على اتساع الساحة المحتلة في المكان والزمان . وتحقيق هذا الوضع من الهيمنة الميدانية ، واستمراره على نفس المنوال بين مرحلة احتلالية وأخرى ، يقتضي تحديثا للخطة الأمنية كل فترة زمنية محددة سلفا ، تتراكم خلالها معطيات طبيعية ومتغيرات ظرفية في السياق ، وتشكل وضعا مفصليا للتحول بين مرحلتين . هذا الإجراء من جانب الإحتلال يهدف إلى تحقيق هدفين أساسيين حولهما أهداف ثانوية طارئة . الهدف الأول هو استنزاف الرصيد البشري الشبابي الذى أنجبته المرحلة السالفة ، وتصفيته جسديا ومعنويا بحيث يتم تحييد تأثيره اللوجستي الإيجابي على الساحة المحتلة . والثاني هو تحديث هيكلية وأدوات الخطة الأمنية البديلة ، أيضا على ضوء المعطيات الطبيعية والظرفية الجديدة ، وأهمها تعويض العملاء الذين سقطوا جسديا أو مهنيا ، وإعادة تدريبهم أحيانا أو توزيعهم أحيانا أخرى . هذين الهدفين الرئيسيين وتفاصيلهما ، تحددهما دراسات الخبراء المعنيين ولكن التنفيذ رهن بعمل ميداني خالص يتم استدعاؤه بالعمل الإجرائي المسمى إنتيفادا . وهو حشد كل الأدوات الأمنية العاملة على الساحة من عملاء المفرق والفصائل السياسية المتعاقدة مع الإحتلال ، والجهات القمعية الرسمية الجهات الإعلامية الموجهة ، لتعمل على شحن الساحة المحتلة والجيل الجديد من الشباب خاصة ، بوعي التصدي والمواجهة . وتقوم الإنتيفادا على هذه الخلفية من استثارة الغضب بالإستفزاز القمعي المفتعل ، والدس التحريضي من جانب المتعاقدين ، وارتكاب بعض الجرائم البشعة والمجانية ، التي تؤدي إلى الإنتفاض العفوي والمواجهة الصدامية التي سيكون الشعب ، وخاصة جيل الشباب الجديد هو ضحيتها الرئيسية كما هو مخطط . وتتوقف الأنتفاضة ( الإنتيفادا ) بعد تحقيق أهداف الجريمة الأمنية بسياق من التهدئات السياسية المحلية والخارجية ، ويتحول جيل الساحة الشبابي إلى جيل من الشهداء والمعوقين والأسرى ، وينتشر الإحباط في القاعدة الشعبية ، وكل ذلك على حساب المراحل الوطنية القادمة . ولنجاح هذا الإجراء الدوري يحرص الإحتلال على إبقاء صنابير الإستعلام مفتوحة باستمرار غير متقطع لتحقيق، رصد الحركة اللحظية على الساحة ، بحيث تكون كل احتمالات الحركة على الساحة المحتلة في إطار الرصد والإحتواء الإستباقي والردع الجاهز بدون أي احتمال للمفاجأة . ولكن يبقى الجانب الأهم في هذا الإنتباه الأمني وهو توفير الفرصة أمام أجهزة الأمن للتدخل الإستباقي التخريبي ، على صعيد منع المراكمات اللوجستية المادية والوعيوية لأي حراك محتمل على الساحة ، والمحافظة على ساحة ممزقة ومشتتة ومتناحرة اجتماعيا ، وزاخرة بكل مصادر التوتر في العلاقات البينية من خلال الشحن العائلي والفئوية والطائفي وحتى الفردي . ومن الصعب تحقيق هذا الهدف الفسيفسائي للرصد بدون وجود تعاقدات سياسية وأمنية مع تيارات مؤثرة على الساحة المحتلة .
الساحة الفلسطينية : ” الإينتفادا ” الأولى
الساحة الفلسطينية ساحة تم احتلالها اجتماعيا وثقافيا وأمنيا بالكامل حتى قبل حدوث التّماس الإحتلالي الميداني والأمني للمشروع الصهيوني الإمبريالي . كانت امتدادا لحيوية ملحمية لمشروع اقتلاعي إحلالي في فلسطين والشرق العربي ، لا علاقة له بأي معطى تاريخاجتماعي واقعي أو منطقي ، سوى إسقاط الحلم الإستشراقي الأوروبي القديم حول السيطرة على شرق المتوسط ،على الأسطورة الدينية لليهود الأوروبيين المسماة ” الوعد الإلهي ” وتجسيدهما في مشروع إمبريالي واحد يرمي إلى تأبيد السيطرة على المنطقة العربية . وحينما بدأت حركة الإستيطان الصهيونى اليهودية في فلسطين ، كانت فلسطين قد احتلت ديموغرافيا ، بحيث أن الفلسطينيين كانوا ينظرون إلى ما يجري بدون مبالاة أو اعتراض ، سوى تدارس نصوص رواية ظهور الدجال ، وعودة المسيح الذي يقتل الدجال ويبسط العدل والسلام على الأرض . وكانت القاعدة الشعبية الأوسع للفلسطينيين لا تملك أية ثقافة عقلانية ، إلى جانب الثقافة الفقهية المحصنة من أية مبادرات عقلية ، أو واقعية وعيوية محتملة . وهكذا تحول الفلسسطينيون على المستوى الوجودي إلى محمية ديموغرافية استشراقية منعزلة ومعزولة عن أي واقع انثروبولوجي تطوري، أو عن أي واقع اجتماعي مقاوم للتفتت أو الجمود أو التخلف .
وفي سنة 7-84 كانت الإعدادات الصهيونية والدولية للإنتيفادا الفلسطينية الأولى قد اكتملت . وتم تجميع بضع مئات من الفلسطينيين نصفهم من العملاء ، ونصفهم لم يكن لديه فكرة عن حقيقة ما يجري . وحققت ” الإينتفادا ” أهدافها في التصفية والترحيل ومحو الوجود الفلسطيني في معظم المدن ، وتم تهويد معظم المناطق الزراعية والساحل بالكامل وهدم آلاف القرى الفلسطينية بعد قتل وترحيل كل سكانها . وفي الحقيقة لم يكن هناك حاجة لأية حرب حقيقية أو مجهود احتلالي سوي ملء الفراغات التى كان يفترض أن تملأها مقاومة فلسطينية من نوع ما . لكن الولاء التعاقدي الذي أظهره الشيوعيون العرب للمشروع الصهيوني ، وتحالفهم مع العمالة السلالية للمواقع البرجوإقطاعية العائلية ، حال دون ذلك .
ظل الإحتلال الديموغرافي الصهيوني قائما في المناطق التي توزع فيها الفلسطينيون داخل فلسطين وخارجها بعد ترحيلهم . لقدد انفصلت الخارطة الديموغرافية للشعب الفلسطيني عن جغرافيا الوطن، ولكن أجهزة العمالة الفردية المتوارثة ظلت امتدادا قائما في كل مواقع النزوح ، إلى جانب التعاقدات الأمنية الفصائلية والحزبية التي امتدت إلى كل مناطق اللجوء كنسخة طبق الأصل عن التعاقدات القديمة ، واستمر الجميع في تخريب العمل والوعي والثقافة الوطنية الفلسطينية ، ما عدا فصيلا وطنيا واحدا . وحققت اليد الصهيونية بهؤلاء ، استمرار الإحتلال الديموغرافي للوعي والثقافة والعمل الوطني الفلسطيني ، وأمسكت بكل خيوط حركته الداخليه . وكما كان الأمر قبل 48 استمر بعدها . بقي الإمتداد السيادي والأمني والثقافي لأدوات العمالة للصهيونية قائما في كل مواقع النزوح الفلسطيني ، وظل وراء كل وقائع التهاوي الوطني الفلسطيني التي بلغت حضيضها الخياني في اتفاق أوسلو الجنائزي .
بعد أوسلو ، صار على أجهزة الأمن الإسرائيلية ، أن تقوم برعاية ” التطرف الفلسطيني الوطني ” لتحافظ على كفاءتها في إنتاج الإنتيفادات ، ومواصلة مشروعها التصفوي الشامل للوجود الفلسطيني في فضاء مستباح بالإجماع الفصائلي وقطاعات البرجوإقطاعية المنتنة على الساحة . لقد استطاع الإحتلال إنتاج واقع نوعي جديد على صعيد الإلتزام والوعي الوطني يستطيع من خلاله تفعيل الجريمة “المبررة ” على خلفية التفاوض على “سلام الشجعان” الذي كان الفلسطينيون “يعرقلون ” مسيرته المباركة . لقد نقل عرفات الحسيني حربه مع العملاء الهاشميين ، اعدائه العائليين ، إلى ساحة التنافس معهم على ” العقل والقلب الإسرائيلي ” صاحب السيادة والقرار والكلمة الأخيرة على صورة ” الحل القادم “. هل سيكون على شكل دولة فلسطينية مستقلة برئاسة عرفات الحسيني ، أم سيكون حلا أردنيا يتحول فيه الهاشميون إلى إمبراطورية حرس حدود بالوكالة ؟ بمثل هذه الإستراتيجية الوطنية للعقل فوق العادي ، بدأ عرفات ، ربيب أمير المغارة الكويتي عصر الإنفتاح الفلسطيني على مبدا التفاوض ، كحل حسيني وطني سماه ” سلام الشجعان ” . وفي الحقيقة أن مستوى الخيانة في صفقة أوسلو يتجاوز حالة الشجاعة إلى حالة انتهاك المحارم ، ويبين ابعاد دور الإنتكاب الذاتي الفلسطيني في تشكيل النكبة التي حلت بالفلسطينيين . فقد كان ” سلام الشجعان ” ، كما توهم عرفات ، صفقة حسينية مع الإحتلال يتم من خلالها التفاوض على جزء من فلسطين يقيم فيه الفلسطينيون دولة حسينية قابلة للعيش إلى جانب إسرائيل ، وتقطع الطريق على الحل الأردني بين الإحتلال والهاشميين . وكما كان متوقعا ، فإن هذا الإبداع العرفاتي ، قطع الطريق على القضية الفلسطينية سياقها الوطني المأمول رسميا ، وحولها إلى مجرد إشكال تنافسي وظيفي بينه وبين الملك حسين على خدمة السيد الصهيوني . فإسرائيل لم تفكر يوما بإقامة دولة لغيرها على أية أرض فلسطينية أو حتى على أحد الكواكب المجهولة . ولم تفكر في الهاشميين إلا كوكلاء مؤقتين على الضفة الشرقية لفلسطين إلى حينٍ مرحلي يقومون خلاله بتصفية الجزئية الفلسطينية الحالية ، والتقدم نحو جزئية تصفوية جديدة . وقد كونت الخطوة الأوسلوية تحولا نوعيا على المصطلح الفلسطيني ، نقله إلى وضع جديد من المعالجة الإشكالية المطلبية ، بررت الإحتلال وأفقدته مصداقيته الوطنية ليصبح طرفا في علاقة بينية مؤهلة للتفاوض البيني مع الإحتلال ، وليس مقاومته بالعنف الذي لا يبرره سوى مطلب التحرير الوطني . وتدريجيا قادت المفاوضات المشروعة إلى توحيد العمالة والوطنية في مشروع فلسطيني واحد موثق فلسطينيا ودوليا . فبعد أن أصبحت الوطنية الفلسطينية بدون ميثاق وطني ، أي بدون عصمة شرعية ، أقامت مكتبا وطنيا لزواج المتعة في رام الله ، برئاسة عرفات ، وإدارة للعلاقات العامة بإشراف ياسر عبد ربه ، وبشبه إجماع فصائلي . واستمرت الإنتفاضات بوتيرة أعلى ، ولكنها كانت ما تلبث أن تتحول إلى انتيفادات تتم خلالها تصفية النخبة الشبابية الرافضة ، ثم تُستأنف المفاوضات بوساطة دولية وإقليمية ومحلية ، بين السوبر- وومان الإسرائيلية وكحيل العينين الفلسطيني ، كحلقة دموية جديدة أكثر تقدما في التسلسل التأسيسي لدولة اليهود الكبرى ، في حدودها الإقليمية الشرق أوسطية ، وامتداداتها الإمبريالية القارية ، على أنقاض الشعب الفلسطيني والشعوب العربية التي ستتحول بنعومة فائقة الى مجرد موائد اقتصادية ، ومناجم عبيد للإقتصاد الصهيومريكي العالمي .
لم يفكر الشعب الفلسطيني اثناء سني الشتات الطويلة حتى أن يبلور من التجارب المريرة الي أنهكته ، وعيا بديلا عن حالة اللاوعي الطبيعية التي ظل يعيشها . وظلت كل خيوط الشحن والتفريغ والتحريك في يد المشروع الإحتوائي الصهيوغربي بنسبة مئة في المئة . وظلت المذبحة الممتدة على حالها وبوتائر متصاعدة شكلا ومضمونا ، وظل الفلسطينيون يشاركون العالم في التفرج على دمهم المستباح ، دون أن يسمح لهم ” وعيهم المكتسب ” المتقدم ، بالتعجب مما يجري . لم يكونوا طرفا في المذبحة رغم أنهم هم الذين كانوا يُذبحون ، وكأنهم كانوا يقتلون بدون علمهم . الذين كانوا يفهمون اللعبة هم الشهداء والعملاء فقط . الشهداء يخرجون وهم يعون أنهم سيكونون أول من يقتل ولا يتراجعون . ويعرفون أن كل حجر وكل شجرة هي الوطن . ولكن عملاء المفرق والفصائل الوطنية المتعاقدة ، كانوا يلعبون دور أصحاب “العزومة ” وقادتها باسم الشهداء . وكانوا يتكلمون كلاما غامضا عن الوطن وكلاما واضح نسبيا عن الإستيطان ، و عن حل الدولتين ، وعن دولة واحدة للشعبين ،وعن تنفيذ قرارات الأمم المتحدة التي تخلص منها الفلسطينيون بأوسلو ، ثم عن دولة قابلة للعيش , ويكتبون في فتح على إضباراتهم الموجهة للإحتلال عاشت فلسطين . صحيح أن رئيس الغرفة المحاصرة في المقاطعة كان يتهم الإسرائيليين أنهم لم ينفذوا ما اتفقوا عليه معه في أوسلو ، ولكن لا أحد يعرف شيئا عما وافق عليه الإسرائيليون سوى إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني وفتح باب المفاوضات .
هذا هو الواقع الذي عاشه ويعيشه الفلسطينيون ، منذ أعيد إنتاجهم هجريا على يد تحالف إمبريالي الصهيونية وإمبريالي الإستشراق ومشروع الفقه الإسلاموي . وهجريا ، الفلسطينيون اليوم في ذروة وجودهم التهريجي . والمشروع الصهيوني الدولي في ذروة فعاليته الإلغائية يواجه زمن الإنفلات بهمجية كل الأزمنة .
ولكن يبدو أن الحفلات الدولية العلنية على دم الفلسطينيين ، واستهتار السلطة الوطنية الفلسطينية بكل مفاهيم الوطنية ، وإعلان بعض الفصائل الخلع النهائي لملابسها الوطنية ، قد استطاع أخيرا أن يثير انتباه الفلسطينين وتساؤلاتهم . ولم تعد الأجيال الفلسطينية الجديدة قادرة على استدخال هذا الزخم ” الوطني ” الشجاع من العلاقات البينية مع الإحتلال ، وتلك النتائج العكسية الخالصة وعلى طول الخط ، لمفاوضات سلام الشجعان العرفاتي . لقد احسوا ، ربما، أن عملية سحب البساط من تحتهم وهم نيام ، قد أصبحت من العلنية والعنف أشبه بالإغتصاب المتفق عليه .ولكن الأوان كان قد فات . لقد ترسخ غموض الجلبة الغامضة الصادرة عن المفاوضات في رؤوس الكثيرين ، على شكل عقار مهديء للقلق الوطني . كان هؤلاء الكثيرين يتناولون عقاراتهم المهدئة على شكل أقراص كلامية تقول : لا بد أن شيئا ما يحدث بدليل هذا الصخب المرتفع . لا طحن بدون جعجعة . ومع أن المفاوضات لا يمكن ، بالحكم على نتائجها ، أن تتحول إلى فضيلة وطنية ، إلا أن عدم التفاوض سيعني التسليم بالأمر الواقع . هذا هو ما توصل إليه عبد ربه وعيا عن إميل حبيبي ، وأبلغهم به .
ومع ذلك ، لقد تغير شيء ما في بعض العقول . فقد كان ما يجري على الخشبة يجبر بعض العقل المتواضع على بعض الإشتباه . ولكن هذه ليست قضية للعقل المدرك . إنها بحاجة إلى عقل العقل للتعامل معها . ما هي العلاقة الممكنة بين المفاوضات والدم الفلسطيني ، والمفاوضات وتوسيع احتلال الأرض ، والمفاوضات والتهويد ، والمفاوضات وتقديس إسطبلات سليمان بن عبد الملك ؟ في الحقيقة أن هذا السؤال يجب توجيهه إلى الفلسطينيين وليس للإحتلال . فالإسرائيليون ليسوا طرفا في المفاوضات . الذين يفاوضون هم الفلسطينيون وحدهم . إسرائيل لا تفاوض على شيء تريده . تأخذ وتترك الفلسطينيون وحدهم يفاوضون ويتحملون نتيجة فشل المفاوضات . وبالتدريج أصبحت المفاوضات زفة فلسطينية خالصة كانت تتحول دائما إلى جنازة .
وبناء على الخصوصية النوعية للمرحلة غير المسبوقة في عالم العلاقات الدولية ، وانشغال البشر في صراعات المصير ، فإنه ليس على الفلسطينيين أن يحرروا فلسطين . يكفي فقط أن لا يتنازلوا عنها بمفاوضات التجزئة . فلسطين وكل أرض عربية محتلة ستحرر قوميا أو لن تحرر أبدا . فالورطة الهجرية ليست ظرفا أو حالة تخلف . إنها عقيدة تخلف . حالة مَسخ إثنولوجي ومثيولوجي ومعرفي وثقافي وسيكيولوجي . إنها صنعة فقهية أخرجت الهجري من مأمنه القومي الإجتماعي وجعلته عالة معرفية على أعدائه لا يعرف من هو وماذا يريد ، ويؤمن أنه هامش وجودي لغيره ، بل لآخره ، لأنه لم يمارس ذاته أبدا . ويعرف أيضا أن آخره الهجري ونقيضه الوجودي ، هو العربي . وسوف يبقى كذلك يتواطأ حتى على دمه ، إلى أن يخرج على وعيه الهجري بوعيه العربي أو يموت ، لأنه ليس له أو لغيره من البشر وعي وجودي حقيقي آخر يحاوله.
المراحل لا تنتظر أحدا . ومن سبقته المراحل عليه أن يسبقها مرغما وإلا فليبق مكانه . لأن أسوأ ما يمكن أن يحدث لشعب من الشعوب هو أن يمشي خلف المراحل أو معها . لا يوجد شيء في الحياة إسمه الحاضر سوى التخلف . فالمراحل دروب نحو المستقبل . ومن لا يعرف ما يريد لن يتقدم ولن يصل . إذ لا يمكن تداول المراحل اللاحقة بوعي المراحل السابقة .
والمرحلة الحالية مرحلة تمحور ثنائي عالمي ، حول فالق مصيري بين النهائية الإمبريالية للنظام العالمي ، وبين حرية البشر المتأنسنين ، أي شعوب العالم التي تعمل الصهيومريكية على تحويلهم إلى عبيد نظاميين . وكل مشاكل الحرية والتحرر أصبحت جزءا من وعي عالمي منقسم مبدئيا تناحريا . والأمور غيرالمبدئية يمكن أن تحلها التوازنات توافقيا ، ولكن الأمور المبدئية لا يمكن حلها إلا بحراكات شعبية تترك السياسة خلفها أو على هوامشها .
من حق الشعب الفلسطيني أن يقاوم الإحتلال بالطريقة التي يفرضها عليه وعيه لحقه الوطني . وليس التي يفرضها الإرتجال وروتين اللعبة الخسيسة . الشهداء ، حينما يستشهدون ، يسلمون أمانة وعيهم للشعب ، ولكن العملاء والمتعاقدين ما يزالون هم الذي يؤبنون الشهداء في الميادين ، ويتقبلون بهم العزاء على الأرض الفلسطينية . والواقعة تقول أن الوضع الفلسطيني يزداد سواءا ساعة بعد ساعة . وأنه لم يحدث حتى الآن أن خطا الفلسطينيون خطوة واحدة إلى الأمام رغم ما قدموه من تضحيات يعجز عنها مألوف التضحية . حتى الآن فلسطين لم تصبح قضية شعب . لقد كانت كل الوقت نكبة شعب بيد مرتزقة السياسة من المتعاقدين والعملاء، وما تزال . ما العمل إذن للخروج من هذا الوضع العبثي ؟
كانت فلسطين بكل ملابساتها ملحمة العصر الكبرى . كانت ، وليس بالصدفة ، نموذجا افتتاحيا لعالم شهد تحولا نوعيا فصل بين البشر وبين وعيهم بالقوة . وضعت الإمبريالية العالمية ممثلة في الصهيومريكية ، فالقا نوعيا جديدا للعلاقات بين نوعين من البشر داخل نظام كوني واحد . البشر غير المرئيين الذين يملكون العالم ، والبشر الذين يعيشون فيه فقط ولكنهم لا يملكون حتى عبوديتهم . ولكن نقطة ضعف الإمبريالية هي بالذات قوتها المفرطة التي أصابتها بالعمى والهلوسة وتحدي التاريخ والإنسان . وتقف الآن على جانبي ذلك الفالق الوهمي بين البشر ، إيديوجيا الإستعباد والنخبة من ناحية ، وإيديولوجيا الإنسان ، أي الشعب من ناحية أخرى . والشعب مصطلح اجتماعي تاريخي يتحرك حول مصطلح الهوية والروابط القومية في جميع الأحوال . لا تحرر ولا تحرير غير قومي في صراعات الظلم . ولا بناء ولا تنمية إنسانية ولا حضارة إلا في ثقافة المكان والزمان القومي . هذا هو قانون التاريخ الإجتماعي الأزلي . إن القومية هي دينامية الحضارة والحرية والعدالة والتنافس البناء والإلتزام مبدئيا بالدفاع عن حقوق الآخر المشروعة ، والإلتزام مبدئيا برفض الإعتداء بكل صوره . أما الإنحرافات القومية التي اعتاد عليها الغرب مبدءا له فهي انحرافات همجية لأمم تمدنت قبل أن تتحضر ، وملكت القوة قبل أن تملك الوعي الإنساني ، فحسبت أن المعرفة والقوة هي مكتسب قومي يبيح لها دم الآخر ووطنه وثرواته ومستقبله . والشعب الفلسطيني مستهدف مثل الشعب العربي من كل أباطرة الجريمة في العالم الغربي ، الذي يريد أن يصنع لكل بلد وشعب عربي نكبته الوطنية والقومية بالنتيجة ، على الغرار الفلسطيني . فهل يظن الفلسطيني والعربي أينما كان أنه يمكنه ، خاصة في هذه المرحلة من الجنون القومي الإمبريالي الغربي والصهيوني ، أن يتجاوز قوانين الحقيقة والتجربة ، ويحرر ويتحرر ، بثقافته الهجريه التي تعادي قوميته وتذبح القوميين مجانا من أجل عيون أعدائهم ؟ هل يريد الفلسطيني والعربي الهجري حقا أن يتحرر من عبوديته للغرب الصهيوني ؟ من قال هذا ؟ هل حدث أن حارب الهجريون أحدا في الكون كله غير القوميين . ومن تحارب حماس وعباس في فلسطين ؟ إلا يحاربون سوريا ، المعقل العربي الأخير التي تمسك بالقضية الفلسطينية بأسنانها ودمها يسيل . هل سمعتم عباس وهو يناشد الغرب حماية الفلسطينيين كما حموا العراقيين من صدام ، وكما حموا الليبيين من القذافي ، وكما حموا المصريين من شبح عبد الناصر ؟ إن الفلسطينيين بحاجة إلى من يحميهم من أوباما ومنك ومن حماس ومن أنفسهم .
في سوريا تدور حرب الإنسان العربي الأخيرة على الوجود . وما لم يدرك الشعب الفلسطيني أن مصيره ومصير كل العرب النهائي سيتحدد هناك ، فسوف يحولون كل انتفاضاته وحراكاته إلى انتفادات ، كما يحاول أوباما أن يفعل الآن . وعلى الشعوب العربية أيضا أن تعي ذلك إذا استطاعت ، لتعرف أين تضع ثقلها . لا حلول وسط بين وجودها القومي وبين أي شكل آخر من أشكال وجودها الإنساني الشامل .