ملاحظات في الاقتصاد الروسي وردا على الطابور السادس والثورة المضادة حلقة (2)، عادل سمارة

 

الأزمة المالية الروسية 1998

بين الفساد المحلي والمؤثرات الخارجية

عادل سمارة

لا تخفي الولايات المتحدة هدفها وممارساتها في الحيلولة دون وجود اية قوة اقتصادية تنافسها، وبالطبع أية قوة عسكرية بغض النظر إن كان نظام تلك القوة اشتراكيا أم رأسمالياً. هذا ما اتضح منذ الثورة البلشفية وما اعقبها عام 1918 من عدوان امبريالي بقيادة الولايات المتحدة والتي أُطلق عليها (الشيوعية الحربية)، ثم فرض القطيعة على الاتحاد السوفييتي .وهذه القطيعة هي التي دفعت السوفييت وكثير من الماركسيين لاحقاً إلى تطوير نظرية فك الارتباط بالنظام العالمي De-  linking ) ، وصولا إلى الحرب الباردة وضرب اسعار النفط تاليا لعام 1985 وحتى تفكك الاتحاد السوفييتي، وتواصل نفس السياسات لاحقا ضد روسيا الاتحادية.

ليست الولايات المتحدة وحدها، بل مختلف الإمبرياليات الغربية متوسطة القدرة تقوم عمليا بتجريد دوري للاقتصادات غير الغربية من مقومات تطورها أحيانا بالإغراق بالديون وأحياناً بالتصحيح الهيكلي كي لا تتمكن من اللحاق. مما يؤكد أن اللحاق او التكيف لن يتسنى له أن يكون بديلا للخيار الاشتراكي. وبالطبع تضيف هذه الإمبرياليات إلى دورها في الإغراق الاقتصادي وأحيانا الغزو العسكري، سيطرتها على المؤسسات المالية الدولية الكبرى الثلاثة: المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي ولاحقا منظمة التجارة العالمية. ويكون الويل لأية دولة تتم معالجة أزمتها الاقتصادية عبر صندوق النقد الدولي خاصة  حيث  يزيدها اضطرابا وإلحاقاً عن طريق حقنها بوصفاته التي تُخلِّد المرض وليس التعافي.

إثر تفكك الاتحاد السوفييتي دخلت روسيا في ازمة اقتصادية اجتماعية وحتى ديمغرافية (من حيث انتشار الأمراض وارتفاع نسبة وفيات المواليد، وصولا إلى هجرات بالملايين، نساء ورجالا). وقد ناقشت ذلك في البحث الثاني من الرابط المرفق. وهي ازمة مفادها تفكيك البنية القيمية الاشتراكية وإيلاج آليات السوق وبشكل سريع كان المقصود به عدم تمكين روسيا من الانتقال التدريجي إلى الرأسمالية مما قاد إلى إهلاك الاقتصاد والمجتمع، وذلك بعكس الانتقال التدريجي في الصين (هذا لا يعني ان كاتب المقالة مع أي من الانحرافين).

لذا، تعتبر الأزمة المالية في روسيا الاتحادية عام 1998  نتاجا وامتدادا طبيعيا لعملية تخريب اقتصادي بدأت منذ عام1991. ولأن هذه الأزمة مالية، علينا أن نتذكر مليارات الدولارات التي تم تهريبها إلى المصارف الأمريكية على يد الطغمة السياسية المالية التي لعبت دور المافيا في روسيا. فقد انتقل العديد من النومنكلاتورا التي كانت تسيطر على السلطة باسم الاشتراكية لتسيطر على السلطة راسماليا وتبيع العديد من المؤسسات الأنتاجية بأسعار زهيدة، و/أو تشتريها بأسعار شكلية.

 أزمة 1998 هي امتداد لثلاثة مؤثرات:

الأول: التأثير المتواصل لتفكك الدولة السوفييتية

والثاني: تأثير الأزمة الاقتصادية الممتدة، وإن بوتائر غير عالية، في المركز الراسمالي الغربي بعد انتهاء ازدهار ما بعد الحرب العالمية الثانية.

والثالث: الأزمة المالية الاقتصادية الاسيوية 1997.

مهمة الإشارة  أن الاتحاد السوفييتي كان قد أُختُرق بالعلاقة أي التبادل مع السوق العالمية بشكل تدريجي منذ فترة نيكيتا خروتشوف (راجع الرابط)  وزاد ذلك الاختراق إثر تفككه وخاصة بموجب تطبيق رسملة روسيا الاتحادية بالخطة القاتلة التي أسموها العلاج بالصدمة Shock-Therapy والتي أشرف عليها اقتصاديون غربيون وخاصة من الولايات المتحدة جيفري شاخس.

في إحدى تجليات تقويض روسيا الاتحادية كانت الأزمة المالية 17 آب عام 1998، والتي اسموها أزمة الروبل، وكانت أمتدادا مباشرا للأزمة الاقتصادية التي ضربت الأسواق المالية ألاسيوية في تموز من العام 1997، وكان بالطبع المؤثر والمحرك الرئيسي لها سلسلة مضاربات من المضاربين الغربيين وخاصة حينما تم سحب القروض الساخنة التي كانت أُعطيت لتلك البلدان.

 وضرب العملة المحلية هي آلية قاسية لضرب الاقتصاد باجمعه عبر عدم ثقة الجمهور بالعملة المحلية نفسها على اعتبار ان العامل النفسي كذلك هام في رفع قيمة العملة. فتدهور ثقة الجمهور بالعملة يدفع المواطنين للتخلص منها باستبدالها بالعملات الأجنبية القوية (قانون جريشام: العملة الرديئة تطرد الجيدة من السوق). وانعدام الثقة بالعملة مختلف عن قيام السلطة في بلد ما ذي قوة اقتصادية بتخفيض سعر صرف عملته كي يشجع الاستيراد الأجنبي من منتجاته.

كان ذلك على أثر أزمة تدهور أسعار السلع الأقل تصنيعا أو المواد الخام من بلدان المحيط ولا سيما متوسطة/أو الأقل تطوراً مما جعل الضربة أكثر تأثيرا على تلك البلدان أي التي تصدر وتعتمد على تصدير المواد الخام: النفط والغاز الطبيعي والمعادن  والأخشاب، وهذه كانت تصل نسبتها في روسيا إلى 80 بالمئة حينها من صادرات روسيا الاتحادية (حسب التقديرات الغربية طبعا)  مما قاد إلى شح العملات الأجنبية ووضع مدخرات البلد عرضة لتقلبات الأسعار في السوق الدولية والتي تتحكم بها الشركات الغربية الكبرى.

وإذا استثنينا الأهداف السياسية الإمبريالية لضرب اقتصاد روسيا، يمكن القول بأن تفكك كامل الكتلة الاشتراكية، ودور السعودية وكيانات الخليج (في إغراق سوق النفط ضغطا على سعر البرميل إلى الأدنى)  ووجود دول أخرى تبيع المواد الخام المذكورة أعلاه إضافة إلى تباطؤ اقتصادات جنوب شرق آسيا 1997 (النمور والتنينات…الخ)  الذي دفع المقرضين الغربيين إلى الضغط المفاجىء لاسترداد ما أقرضوه لها وطلبهم منها دفع القروض بالدولار مما وضع اقتصاداتهم في أزمة شح مالي…الخ كل هذه العوامل لعبت دورا في إحداث وتشديد الأزمة في روسيا الاتحادية عام 1998.

أما على مستوى الحكومة الروسية نفسها  برئاسة يلتسين والتي اتبعت سياسة الاقتصاد المفتوح والفساد وتمكين المافيا، فإن دخلها من ضرائب النفط الذي يشكل جزءا اساسيا من الدخل الحكومي  وطبعا الإنفاق مما قاد إثر تدهور سعر برميل النفط إلى شح في موارد الميزانية.

يرد الاقتصاديون البرجوازيون الغربيون أسباب الأزمة هذه وخاصة ضعف الروبل إلى قيام الحكومة الروسية بتثبيت سعر صرف الروبل أمام العملات الأجنبية بشكل اصطناعي لا يقوم على قوة مالية حقيقية. ويرون ان ذلك التثبيت كان بهدف الحيلولة دون حصول هيجان اجتماعي في البلد، أي كما اشرنا، تدهور ثقة الجمهور بالعملة، ومن ثم عجز نقودي حاد مما جعل هذا القرار خلفية لتدهور الروبل. ولكن، ربما الأدق أن ثقة الجمهور بالسلطة نفسها كان وراء عدم ثقته بالعملة، لأن العملة في النهاية أو راس المال هي علاقة اجتماعية.

كما كانت حرب الشيشان الأولى التي كلفت روسيا 5.5 مليار دولار (كما ذكرنا في مقالة سابقة) وكلفة إعادة إعمار الشيشان لامتصاص تاثير الإرهابيين وتجنيدهم للفئات الفقيرة عاملا إضافيا لحصول الأزمة. طبعا لنتذكر بأن الإرهاب في الشيشان هو جزء من الحرب الأمريكية لإعاقة نهوض روسيا بإشغالها في حرب وإرهاقها مالياً، وبالطبع يكون للسعودية وكيانات الخليج العربي دورها في تمويل الإرهاب ضد روسيا…دائماً

من اللافت، أن الاقتصاد الروسي كان قد حقق مع بداية عام 1997 تحسنا في الأداء، ولكن خلال اشهر كان نفس هذا الاقتصاد يغوص في أزمة إثر الأزمة المالية في الآسواق الاسيوية من جهة وتدهور الطلب على النفط الخام والمعادن  الأمر الذي تسبب في ضغط على احتياطي العملة الاجنبية في روسيا.

لم يضرب الرئيس الروسي حينها بوريس يلتسين  في المكان الصحيح لمواجهة الأزمة، حيث  قام  في آذار 1998 بإقالة رئيس الوزراء فيكتور شينوميردن وكامل وزارته. لكن هذا ومن خلفه لم يتخذا إجراءات ذات فعالية مما أدى إلى عجز الحكومة الروسية عن تطبيق سلة إصلاحات مناسبة الأمر الذي قاد إلى هروب المستثمرين الأجانب بناء على ضعف ثقتهم بالدولة، أو أن هذا الضعف كان مقصودا مضارباتيا إن لم يكن سياسيا. فقد  باع هؤلاء  الروبل والموجودات والسندات بسعر صرف رخيص (قانون غريشام) الأمر الذي اضاف ضغطا على الروبل وأضعف الثقة المحلية به كما ثقة المستثمرين الأجانب. وتمظهر هذا بضغط اكثر على البنك المركزي الذي انفق احتياطه من القطع الأجنبي ليحافظ على قوة الروبل. وحسب التقديرات فإن المصرف المركزي قد انفق 27 بليون دولار امريكي للحفاظ على ثبات الروبل.

لكن الوجع كان في مكان آخر. فقد تم الكشف لاحقاً بأن خمسة بليون دولار كانت قد قُدمت كقروض دولية من صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي إلى روسيا كحزمة “إنقاذ” قد تمت سرقتها فور وصولها إلى روسيا وعشية الانهيار القيمي للروبل. هل تم ذلك صدفة ومن دون عيون السلطة؟ وهل سُرقت لتبقى في روسيا أم لتهريبها إلى الخارج كغيرها من السيولات المالية؟ هذا الحدث وهذه الأسئلة  تفتح على الأزمة المالية الاقتصادية بل تفتح اكثر على دور السلطة السياسية.

لا تجري الأزمات الاقتصادية على الورق وفي الأرقام، بل خطورتها أن تأثيرها يترجم اجتماعيا. فالتغييرات الحكومية التي قام بها يلتسين لم تحسن الأوضاع بعد أكثر من عام على الأزمة. فقد اضطرت الدولة لدفع 4 بليون دولار لحل إضراب عمال المناجم كي لا ينهار الاقتصاد. كما أن اسعار الأغذية ارتفعت مئة بالمئة على ضوء تدهور الروبل، ومع ذلك غابت سلعا كثيرة عن الرفوف ولا سيما المواد الأساسية كزيت الفواكه والسكر ومسحوق الغسيل…الخ. لقد أدت الأزمة إلى تناقص الطلب على الأغذية وتراجع استهلاكها لأن تدهور سعر صرف الروبل رفع سعر المنتجات الغذائية المحلية. (لاحظ تشابك المشاكل واستدعاء بعضها لبعض تبادلياً). وهذا قاد إلى توتر اجتماعي عالي.

كانت الطبقة الوسطى هي  الأكثر تاثرا بعد ان كانت قد بدأت تستعيد بنيتها كرافعة للسوق لكن الأزمة ضربتها حيث  فقد الملايين مدخراتهم. وبغض النظر عن صناعة الأزمة أو كونهامتوقعة في شروط سلطوية تابعة كهذه، إلا أن كسر ظهر الوسطى هو التجلي الأخطر للأزمة.

لم تنجح محاولات المصرف المركزي تثبيت قوة الروبل، فاضطر في بداية ايلول للتخلي عن تثبيت سعر صرف الروبل ومن ثم تعويمه بشكل حر. وعليه، فحتى أواخر أيلول كان الروبل قد فقد ثلثي قيمته مقارنة بالدولار، ليصبح 21 روبلا لكل دولار، والمهم اين ذهبت الدولارات؟؟

في اكتوبر 1998 تصاعد الغضب الشعبي وتدفق المتظاهرون إلىى الشوارع، 100 ألف في شوارع موسكو، وأعداد اقل في فلاديفسنوك، وكرانسيوراسك، ويكترينابورغ، وقطع وزير الدفاع زيارته لليونان ، وجهز بدوره  وحدات عسكرية لحفظ النظام.

حينها قرر يلتسين وضع إجراء منع الاحتجاجات الجماهيرية في موسكو من العاشرة مساء حتى السابعة صباحا.

لقد خرجت روسيا من تلك الأزمة سريعا، أي خلال عام 1999. ويفسر الاقتصاديون البرجوازيون هذا الخروج برده إلى نفس  اسباب دخول الأزمة أي ارتفاع اسعار الصادرات من المواد  الخام وخاصة النفط.

فهم يرون بأن  أحد أهم أسباب التعافي هو الارتفاع في اسعار النفط، ما بين 1999-2000، حيث حازت روسيا على فائض عالي. كما أن الصناعة الروسية استفادت من تخفيض قيمة العملة الأمر الذي أفاد الصناعات المحلية وخاصة الغذائية من ذلك التخفيض مما رفع سعر الواردات وبالتالي مكَّن المنتجات المحلية من كسب السوق..

لعل المهم هنا الدور الذي لعبه تشغيل الاقتصاد المحلي  وخاصة الإنتاج للمتطلبات والحاجات المحلية، بمعنى أن الاعتماد على التوجه للتصدير يبقى أمرا محفوفا بالمخاطر وخاصة في حالات الاقتصادات الأقل تطوراً و/أو الاقتصادات المستهدفة، بينما قوة السوق المحلي تلعب دورا اساسيا في الاستقرار الاقتصادي. وهذا ما يقرأه الاقتصاديون البرجوازيون كأمر سلبي وخاصة حين يركزون بأن اعتماد الاقتصاد الروسي الى حد كبير على المقايضة، وأدوات تبادل غير نقودية، وهذا ما جعل الأزمة المالية أقل اثرا مقارنة مع اقتصادات تعتتمد النظام البنكي.

قاد ارتفاع اسعار الصادرات الروسية إلى توفير سيولة مالية ساهمت في دفع المتأخرات  من الأجور والضرائب…الخ وهذا وسع السوق المحلية حيث زاد الطلب على سلع وخدمات الصناعة الروسية. وبذا تراجع معدل البطالة وبالطبع تم انقاذ العملة.

يشير نشاط المنتجات المحلية إلى أمر هام يتجاهله الاقتصاديون البرجوازيون حين يبالغون في وصف الاقتصاد الروسي بأنه معتمد اساسا على تصدير المواد الخام، أي متجاهلين القدرة الصناعية الإنتاجية المحلية والتي تشكل عصب قوة الاقتصاد وهذا ما اتضح لاحقا حينما وصلت السلطة قيادات ذات توجه استقلالي وتنمويأ وحينما تغلبت البرجوازية قومية التوجه والإنتاج، على الكمبرادور والفساد والمافيا،  بعكس التوجه التوجه للتصدير الذي يشكل نقطة ضعف في حالات اقتصادات كثيرة.

لكن سياسات سلط ما بعد يلتسين ووجهت ولا تزال من الغرب الإمبريالي ي “تهمة-من وجهة نظرهم” العودة للشيوعية.

تهمة الشيوعية حيث يرردون: “أعاد الكرملين إلى نفسه السيطرة على شركات البنى التحتية والشركات الأساس في الإقتصاد الروسي وبين الحين والآخر ينقط كمية قليلة من الأسهم في البورصات كي يحظى بالتقدير الغبي للمحللين الأميركيين الذين يثنون على الخصخصة، عمليا لم يخصخص شيئاً ذا معنى في روسيا، وما خصخصه أُممه مرة أخرى، الحكم الروسي مثل الصيني يحافظ على سعر متدنٍّ نسبيا للعملة المحلية ويشتري ما يتبقى من العملة الأجنبية. الإحتياطي الدولاري لروسيا سيتجاوز قريبا خط500 مليار دولار.

بقول آخر، فإن الاقتصاديين البرجوازيين يرون قوة أي اقتصاد في حدود انخراطه في السوق العالمية ومن ثم قدرته التصديرية، وليس من مدخل كفاية الحاجات الأساسية للمجتع.

لعل الخطوة الوحيدة الإيجابية في تاريخ رئاسة يلتسين في أنه بعد قرابة عام من الأزمة قد اختار فلاديمير بوتين ليحل محل رئيس خدمات الأمن الفدرالي وهو ما وضع هذا الرجل في موقع قوي بدأ بعده بتطهير روسيا وأخذها إلى مكان وموقع استعادت فيه الكثير مما فقدته بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.

وقد يكون الاستنتاج بان هذه الأزمة شكلت الحلقة الوسيطة بين التخلص من سلطة المافيا التي سلمت البلد للشركات، وطبعا الأنظمة الإمبريالية، وبين تحول روسيا إلى نظام رأسمالي قومي إنتاجي. ولا شك أن البلد لم يبدأ من الصفر بمعنى أن القاعدة الإنتاجية المتقدمة موجودة في الأصل.