عبد اللطيف مهنا
قليل، وككثرة من الفلسطينيين، ما تستوقفني تصريحات تنسب للدكتور صائب عريقات، المعروف بكبير مفاوضي الأوسلويين الفلسطينيين، ومن يرجِّحه البعض وريثاً محتملاً لرئاسة “اوسلوستان” في حالة ما إذا قرر رئيسها فعلاً، وليس وفقما يشاع، تخليه عن دفة قاربها المتهالك المثقل بأوزاره التصفوية لمن سيرثها من بعده. ذلك مني للسببين يرجِّحهما عندي أنها بمجملهاً، وعلى اختلاف نبرتها، صعوداً أو هبوطاً، هى مما لايمكن ادراجه، استناداً إلى واقع الحال، إلا تحت يافطة شعاره الأثير الشهير “المفاوضات حياة”! أي، هى حكماً مرسلة، ولا وجهة لها أو مقصد إلا باتجاهين ولهدفين: الأول استدراري لأسباب تبرر مواصلة هكذا حياة، وليقرع باباً يوصده عدو عده “شريكاً”، لكن ثبت له بعد عقدين ونيِّف شراكةً، أنه جاحد “للسلام”، ويتعداه لراع للمجحود، أو بالأحرى لجاحده، أي الأميركي الذي لطالما راهن الأوسلويون وعربهم على “نزاهته”، التي ما كان له لانحيازه التليد لعدوهما الاتصاف بها. والآخر إيهامي للذات واستهلاكي بائر في الداخل، أي لم يعد يقبض أو يصرف، في الساحة الفلسطينية.
بيد أن من تصريحاته مؤخراً، أو تهديداته إياها التي صدرت قبل مدة، ما استوقفني، لا لأخذي بها على محمل الجد، وإنما لأنها ترتقي إلى ما هو الأشبه بوصلة من الكوميديا السوداء في لحظة فلسطينية مصيرية مدلهمة تشهد واقعين نقيضين: شعب حوَّل التهويد تجمُّعاته في وطنه المغتصب إلى “غيتوات” معزولة ومحاصرة ومستفردة بفضل من بركات الشعار المذكور، ويحوِّلونها راهناً إلى ازقة اعدامات ميدانية يومية تصطاد شبابها المنتفض، ضمن محاولة فاشلة لوئد مابات الآن في شهره الثاني الأكثر من هبَّة والأقل قليلاً من انتفاضة شاملة وفي سبيله اليها، وسلطة بلا سلطة وفي ظل احتلال تقعي في مقاطعتها بانتظار ما قد يهمس لها به بلير، الذي يقال أن الرباعية سوف تستله من جرابها وتعيد اكروباته السلمية قريباً إلى التداول، أي لادور لها إلا هذا الذي يريده منها الاحتلال ويشهد لها ويشيد به في هذه الأيام، وهو الحؤول، حتى الآن، دون هذه الأكثر من هبَّة لأن تغدو الانتفاضة الشاملة والمنتظرة، أو ما يقول أمنيوه أنها للحظة قد نجحت فيه!
يقول عريقات إن سلطته تدرس “امكانية سحب الاعتراف باسرائيل”، وبحماسة من يعيد اكتشاف المكتشف يخبرنا بأن “اسرائيل وظيفية تقوم بدور قبضاي اميركا في المنطقة”، وإن هذه الأميركا “لاتفهم إلا لغة المصالح”…جيد، نترك التعليق على هذا للاحقاً، ونشير إلى تصريحات زامنته وفي ذات السياق، إذ يصف رئيس السلطة الراهن الاحتلالي في الضفة بالوضع الذي “لايمكن القبول باستمراره”، وعليه فقد اعذر من انذر: “ما داموا لايلتزمون بالاتفاقات فنحن لن نلتزم بالمقابل بها”!
هذه التلويحات، التي تذكِّرنا بمثيلاتها السابقات، من مثل، حل السلطة وتسليم مفاتيحها لنتنياهو، والتوجه للأمم المتحدة، ومحكمة الجنايات الدولية، وهلمجرا، مرت عليها كسابقاتها الأيام، وهذه الأيام تحتدم فيها المواجهة الشعبية مع الاحتلال، وكل يوم جديد يثبت له أنها لن تتوقف، ويثبت هو للأوسلويين أنه لن يكف تهويداً ولن يتوقف تنكيلاً، وإن تلويحاتهم هذه عنده حرية بالتجاهل ليقينه أنهم لن يقدموا على مثلها، لعلمه أن “المفاوضات عندهم حياه” وتنسيقهم الأمني معه مستمر لأنه عندهم “مقدس”، لذا، ما الذي يمنعه من أن يصعِّد التهويد والتنكيل ويسرِّع من عمليات هدم منازل اسر الشهداء، والكون منشغل بما جرى في باريس والأمة المستباحة منشغلة بكوارثها القطرية المتزايدة عن فلسطينها وفلسطينييها…وأن يقدم على خطوتين اضافيتين:
تسويق فوري لبناء 436 وحدة تهويدية في مستعمرة “رامات شلومو”، و18 وحدة في “راموت” المجاورتين للقدس، منهياً تظاهراً سابقاً بتجميد التهويد، واعلانه قراراً مبيتاً أتخذ قبل شهر واقره مجلسه الوزاري قبل اسبوعين بحظر الحركة الإسلامية “الجناح الشمالي” في المحتل من فلسطين في العام ، 1948 لدور مرابطيها في حماية المسجد الأقصى، وفي سياق ازالة العوائق الحائلة دون تنفيذ ما تعرف بتفاهمات كيري لتغيير الوضع في الحرم القدسي، والقرار اجمالاً يذكِّر بما لاقته حركة ابناء الأرض، أي يأتي في اطار التضييق على فلسطينيي المحتل عام 1948، وذات السياسة التي تستهدف الوجود الفلسطيني بعامة مادياً ومعنوياً.
…هذا يحدث وهم لازالوا يتدارسون ما يقولون أنهم يتدارسونه ويقبلون بما يقولون أنه غير مقبول عندهم ويلتزمون بما لم ولن يلتزم نتنياهو به، ويتحفوننا بمفارقة قلنا إنها ترتقي إلى مصاف الكوميديا السوداء، لإدراك مُلوِّحهم بسحب اعترافه بما يترتب على ما سيقدم عليه لوفعل من استحقاقات نقيضة تماماً لنهج “المفاوضات حياة”، وأقله، مغادرة مدرسة بكاملها انتجت مثل هذه التغريبة الأوسلوية الكارثية، التي سبقها حداؤها في البرناج المرحلي، ليتعالى في “اعلان الاستقلال”، المصادف احتفائهم بذكراه السابعة والعشرين مع ما يقولون أنهم يتدارسونه، واجمالاً مقايضة الدولة الموهومة بالتنازل عن 78% من فلسطين بالاعتراف بمغتصبها، والعبث بالميثاق الوطني، وتحويل ما تبقى أراض متنازع عليها، والتسليم بالتخلي عن ما هوِّد منه بقبول مبدأ تبادل الأراضي، وأم الدواهي تنازلهم عن حق العودة، أو جوهر القضية الفلسطينية، في ما دعيت “مبادرة السلام العربية”، القائلة ب”حل عادل متفق عليه” مع العدو…أو كل ما لاعودة عنه إلا بالعودة لخط التحرير وادامة الاشتباك وتطوير اشكال المقاومة، والتي بدونها لادولة ولا أرض ولا عودة، بل استحقاقات الأسوء، كالاعتراف ب”يهودية الدولة”، أو ما ليس من بعده إلا مطالبة الفلسطينيين بأن يعتذروا لمن اغتصب وطنهم!