الأنجزة تواجه النقد بالنميمة والشيطنة لأن الدفاع عن التمويل …فاضح

عادل سمارة

كان ذلك في 17 تشرين ثاني

في المصرف العربي برام الله على مقعد يبعد عني مقعدين فارغين تجلس سيدة جلسة هادئة حولت وجهها باتجاهي. بالطبع افترضت أنها تنظر باتجاه مدخل المصرف، وليس إليْ. بقي وجهها بنفس الاتجاه مما دفعني للشعور بأنها تريد قول شيء ما. لم أحاول مساعدتها بالمبادرة بالحديث خشية ان لا يكون تقديري دقيقا، إذ قلت لنفسي ربما شدها غلاف الكتاب الذي أحمله عادة للقراءة للتغلب على وقت الانتظار المقيت. فنادرا ما ترى شخصا يحمل كتابا في هذا المكان المضاد للثقافة وحتى للعقل. البعض يحمل الجريدة اليومية لأنها بقيت عالقة في جيبه حينما كان يقضي أمورا أخرى. في هذا المكان لا تطغى سوى الرائحة الثقيلة للعملة.

لحظة همَّت بالحدبث إلي، شاغلتها لثوان سيدة مسنة نوعا ما، شعثاء الشعر، تنم ملابسها عن سوء الحال، كانت تدور ما بين الحارس والجلوس، تسأل هذا وذاك، وتدور حول صندوق بطاقات الزبائن (في مصارفنا يسمونهم العملاء!). لاحظت السيدة انني جاهز لسماع ما تريد، فالتمست هدنة من مشاغلة العجوز ورسمت سمة صغيرة ، هي ما تبدأ المرأة الرجل بها كمدخل للشعور بالأمن لا سيما في مجتمع ذكوري شرقي تابع يرضع الريع وصفات اخرى.

قالت:

هل انت عادل سمارة؟

قلت في نفسي، انت شديد الحذر والتحفظ. إلتفت نحوها وقلت لها نعم أنا.

ومع نفس الابتسامة التي يتحكم بها البخل الأنثوي والخفر الشرقي  وقالت بين الهزار والجد: ولكنك لا تحبنا.

ما توقعت هذه المبادئة قط. فلم يكن قبلها لا حديث ولا تعارف ولا حضور محاضرة ولا حتى دقائق في انتظار سيارة أجرة مثلا.

لم يفاجئني الهجوم وإنما عدم وجود مسافة زمنية ستبقة عليه، فكثيراً ما تعرضت لمثل هذا ربما بعدد أنواع الناس، ولكن دائما بمقدمات ضمن مناخ ما.

كثيراً ما ووجهت ب: تعليقك السياسي في كذا كان جيدا، والله بتفش القلب، كتابك كذا جيد لكن لغته صعبة، في السجون فهمنا نك الاقتصاد السياسي المبسط، ما بتخاف على حالك، لا انت مع سوريا كثير، بتزيدها على السلطة، كيف انت ماركسي وبتدافع عن الأسد…الخ لكن مبادئة كهذه ولو مشوبة بابتسامة، هي حقا غريبة ربما لأنها كانت أول الكلام.

أعادتني هذه المبادئة إلى موقف مشابه قبل أحد عشرة سنة، كنت ذاهب إلى مؤسسة ما لطلب أوراق من جامعة لندن تثبت أنني تعلمت هناك. طبعا هناك تعلمت الكثير على هامش  الأكاديميا.

وقفت أمام الكتب، وقلت أنا اسمي فلان.

رفعت السيدة عيناها إلى وقالت:

أنت الذي يهاجم كل الناس؟

قلت: غريب، حتى انتم هنا؟ هل تقرئين العربية؟

قالت نعم أقرأ انا فلسطينية. وقد قرأت كتابك “الراسمالية الفلسطينية من النسوء التابع إلى /ازق الاستقلال”. أخذت اوراقي وانصرفت.

لا باس انا الآن استمع للسيدة في المصرف، حيث قلت لها بلهجة الاستغراب: نعم أنا هو،

وقبل أن أكمل بادرتْ مجدداً لتكمل ، لكن السيدة العجوز نازعتها الكلام في أمر يبدو أنه مشتركا بينهما. إلا أنها خطفت لحظة عن العجوز  وأسرعت لتقول… انا إسمي … وأعمل في مؤسسة…. وأنت ما بتحبنا، بتهاجمنا.

فهمت أن سرعتها في إكمال حديثها لأنها خشيت أن أسيىء فهمها.

لكنني لا أذكر قط أنني نقدت هذه المؤسسة تحديداً. صحيح أنني انقد منظمات الأنجزة بشكل متواصل. لكنه نقدا موثقا وبتحليل، ولم أرَ، رغم أنني اتمنى حتى اليوم وغداً، أن أرى ردا نقديا. لكنني اسمع أطنانا من النميمة، وهي لا شك مجر كِسَرٍ صغيرة مما لا أسمعه ولا يُنقل إليْ.

طبعاً، فهمت سريعا، رغم ضعف الفطنة في راسي المثقلة بكل ما يُعيق، قلت وأنا بين مبتسمٍ ومستغربٍ:  لكن أنا أفصل دائماً بين المؤسسة والأفراد. وطبعاً أنت لا تعرفينني وأنا لا أعرفك فكيف تشملينني بتهمة واسعة هكذا؟

كادت تضحك، وأردفَتْ محاولة توضيح موقفها:  أنا أقرأ كل ليلة قبل النوم قسما في كتاب : “تأنيث المرأة”، كما انني أتابع دائما الأسئلة الحامضة.

أدهشني في الحقيقة تتابع الموقفين: لا تحبنا، وأقرأ أجزاء من الكتاب وأتابع الأسئلة الحامضة.

 لكن السيدة الأخرى، بقيت تظنُّ وتشاغل السيدة الصغيرة مستهلكة اللحظات القصيرة التي تفصلنا عن نقر الموظفة رقم بطاقتي.

ناولتها الكتاب الذي بيدي وقلت لها على أية حال، اكتبي عليه إيميلك، وسأعود إليك بعد الانتهاء.

وصلها الدور بعدي على الصندوق المجاور، تناولت الكتاب وإيميلها، وذهبت.