د. نور الدين عواد
هافانا كوبا 19 نوفمبر 2015.
(المؤتمر الثامن عشر للعلوم السياسية الجنوبية 18 ـ 20 نوفمبر 2015)
كان الفضاء الجيوسياسي للوطن العربي الكبير، ولا زالن مسرحا للغزوات الاجنبية من الشرق والغرب، بدافع من التعطش للجبروت (السلطان/ تعظيم سلطة)، والاستحواذ على الجغرافيا والديموغرافيا (الارض والبشر)، وتدمير الحضارة المادية واللامادية للامة باسرها، وسلب ونهب الموارد الطبيعية والثروات في المنطقة. وقد استخدم الغزاة اساليب وحشية بالوسائل العسكرية الخاصة بالابادة الجماعية والتدمير الشامل، متذرعين بحجج وتبريرات نابعة من الاساطير والاديان الزائفة.
في رسالة الدكتوراة التي دافعت عنها يوم 21 يوليو 2010، توصلنا الى مجموعة من الاستخلاصات من بينها: “ان غياب حلّ عقلاني للصراع “الاسرائيلي الفلسطيني” سيلحق الضرر بالمخططات الجيوسياسية والجيوستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة. استمرار الصراع سيبقي على اللاعبين المتورطين فيه، منهمكين في هذه الصيرورة التي لا يمكن التنبؤ بعواقبها، في ظل اضطرابات سياسية وقلاقل، يمكن ان تتدحرج الى انعدام الحوكمة في مختلف البلدان، او في نهاية المطاف، الى صراع اقليمي ذي ابعاد كبيرة.
هذا المشهد (سيناريو) ليس مؤاتيا للمخططات الجيوسياسية والجيوستراتيجية للولايات المتحدة، آخذين بالحسبان المصالح القومية والجيوسياسية المتنامية لللاعبين آخرين اقليميين ودوليين سواء بسواء.
“تعتزم الامبريالصهيونية اقامة شرق اوسط كبير يتمحور حول اسرائيل او اسرائيل الكبرى، كقوة اقليمية مسيطرة؛ يضمن تدفق النفط بشكل دائم ورخيص، من خلال احتلال منابعه او السيطرة عليها عسكريا، والابقاء على هذا الفضاء خاليا من وجود او نفوذ قوى اخرى”.
لقد استغلت القوى الامبريالية مكامن الضعف البنيوية والوظيفية في الامة العربية ودولها القطرية، لكي تضعها في خدمة مصالحها القومية المهيمنة داخل وخارج حدودها الاقليمية، انسجاما مع دينامية الصراع مركز ـ محيط (تخوم)، في سياق العولمة النيولبرالية.
القطبية الوحيدة في نظام العلاقات الدولية اتاحت للسياسة الخارجية الامريكية، في ظل عهدين رئاسيين جمهوريين، واستمراريتهما عبرعهدين ديموقراطيين، فرصة لتذرير بلدان من التخوم وتدمير دولها القومية، ماديا او من خلال سلب سيادتها وتحويلها الى اقطاعيات.
يشكل مشروع الشرق الاوسط الكبير، ذروة مشاريع غربية اخرى تستهدف مباشرة الوطن العربي الكبير. احداث ليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن والصومال…الخ تشكل امثلة ملموسة على استراتيجية تدمير الدول القومية (القطرية عربيا) واعادة بنائها او تحويل مجتمعاتها الى اقطاعيات، على شكل دول قزمية فاشلة وغر قابلة للحياة.
في هذا الفضاء الجيوسياسي تتناغل مجموعات متعددة القوميات والاعراق، وهي ارهابية وفاشية بحتة، كمطايا للاستراتيجية الغربية، تسعى من اجل القضاء على الثورة والمقاومة، كمقدمة لتصفية القضية الفلسطينية والامة العربية واسلام النبي محمد الحقيقي.
تتوفر لدى المجموعات الفاشية المرتزقة، الاسلامية باطلاً، موارد مالية من انظمة ملكيات الخليج، وموارد حربية من المجمع الصناعي العسكري، وفكر وهابي، في تواطؤ لوطي مع الصهيونية والمحافظاتية الامريكية الجديدة، وحتى يتوفر لديها شكل غريب ومختلق من بغاء المراة. “بغاء/ نكاح الجهاد”!
خلال السنوات الخمسة الماضية، حصل تزاوج سافر بين الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية والصهيونية العربية الاسلامية ( التي تعبر عن نفسها من خلال ايديولوجية انظمة وقوى “الاسلام السياسي” وسلوكها السياسي والعسكري) تحت مظلة الامبريالية الامريكية، في محاولة منها لمنع تشكل وتوطد عالم متعدد الاقطاب.
في نهاية المطاف، الصهيونية ليست الا ايديولوجية راس المال. الوقائع التاريخية والراهنة تبرهن على هذا الراي، الذي يتعزز بوجود التكالب متعدد القوميات والاديان والاعراق، الذي اصبح راس حربة الثورة المضادة في عموم الشرق الاوسط.
في هذا السياق، تطورت “الصهيونية الاسلاموية” على شكل لاعبين غير دولتيين، بصفتهم بيادق حربية للامبريالصهيونية وحروبها القذرة وبالوكالة؛ ربما يكون اللاعب الاكثر دعاية في وسائل الاعلام الجماهيري والاجتماعي هو ما يسمى بـ “الدولة الاسلامية في سوريا والعراق” (إيسيس/ داعش).
في هذه الحالة تكتسب عبارة كارل ماركس الشهيرة “الدين افيون الشعوب” صلاحية كاملة على مستوى المجتمع السياسي والمجتمع المدني سواء بسواء.
توجد علاقة متأصِّلة ومتبادلة بين الثقافة السياسية والسلوك السياسي للافراد والجماعات والدول. فالثقافة السياسية السائدة تستجيب لمصالح النخب المسيطرة والتي تعتزم تأبيد هيمنتها الايديولوجية، بغية توطيد بقائها في سلطان الدولة واعادة انتاج نظامها السياسي.
في رايي، هذه هي الخلفية التي يمكن تلمُّسها خلف تنظيرات الاسلامويين الزائفين الذين يتنطحون لاعادة انتاج اربعة عشر قرن من تاريخ الاسلام والخلافة (الامبراطورية) العالمية و الاستحواذ عليها، تساوقا مع مفاهيم الامبريالصهيونية ومشروع هيمنتها وسيطرتها الشاملة.
في هذا السياق تندرج ثلاثة مخططات جيوسياسية: اسرائيل الكبرى؛ الشرق الاوسط الكبير؛ والخلافة الاسلامية، التي يقوم عليها الثلاثي الصهيوني الذي ينوي الاستيلاء على الثروات المادية في المنطقة (النفط) والقضاء على امكانية انبعاث الامة العربية، وذلك من خلال تصفية ثقافتها وهويتها القومية؛ وافناء الحضارة الاسلامية؛ واقامة كتلة اقتصادية ـ سياسية ـ عسكرية في مواجهة الصين وروسيا وبقية دول بريكس BRICS .
ان الغزوات والممارسات الاجرامية التي تقوم بها الامبريالصهيونية، لا سيما في العراق، كانت ولا زالت تشكل المحرك الرئيسي والحاسم لظهور داعش. في هذه المرة، من اجل القضاء على المُتَّجِه الاجتماعي للاسلام، تغيير الاسلام او القضاء على كليهما معا، من خلال صدام وحروب الحضارات. وهذا هو ما يفسِّر التدمير الجاري للميراث الثقافي والحضاري للامة العربية.
تنطلق الامبريالصهيونية من محاولة فرض ثقافة سياسية اسلامية زائفة، ترى في الوهابية كلمة الله وفي داعش مشروع الهي، لتستفيد منها كوسيط ولشرعنة المخططات التدخلية التي تقوم بها في الشرق الاوسط الكبير، بقصد تذرير النسيج الاجتماعي ـ السياسي ـ الثقافي للوطن العربي الكبيرن وتحويله الى فئات ومجموعات عرقية ومذهبية ودينية، تفتقر الى اية ثقافة سياسية وطنية او قومية، من اجل اعادة ترميمه في دويلات قزميةن متغاربة فيما بينها، ومنسجمة مع دولة اسرائيل الصهيونية.
لقد تــمّ التلاعــب بالـــــــدّيـــــن كـذريـــعة مـن اجـل التمويـــــه على جـــوهـــر الصــــــــراع.
اخذت الانظمة الملكية الخليجبة بشن هجوم بالتواطؤ مع تركيا والولايات المتحدة واسرائيل وحلفائها المحليين والغربيين، بهدف خلق عالم عربي وهابي و / او تحت الوصاية التركية، في اطار مشروع الشرق الاوسط الكبير.
تركيا عضو في حلف شمال الاطلسي،وتقيم علاقات تحالف استراتيجي مع اسرائيل؛ ولا زالت تشكل اللاعب الاقليمي الاهمّ في الحرب الامبريالصهيونية ضد العراق وسوريا، والركيزة الاساسية لجيش المرتزقة الغازي في كلا البلدين.
داعش بصفته اللاعب العسكري الرئيسي “للفوضى الخلاقة”فانه لا يعترف بمفاهيم المواطنة والوطنية والدولة القومية والديموقراطية والعقلانية…الخ. فالدواعش دكتاتوريون ومستبدون ولا يقبلوا من احد ان يكون مخالفا لهم، او يفكر بطريقة مغايرة لتفكيرهم. وفقا لللاهوت الاسلامي، داعش لا يمثل هذه الديانة؛ وإنما هو اداة للثورة المضادة المعولمة.
علميا، لا يمكن اعتبار داعش كدولة، نظراً لعدم توفر مستحقات لا بد منها : الارض الاقليمية المحددة والمعترف بها؛ شعب يتماثل معها؛ السيادة؛ والزمن التاريخي. على ارض الواقع توجد دولة اسمية دون دولة فعلية؛ فهي كيان مصطنع؛ على غرار “دولة اسرائيل”؛ وشركة ارهابية عابرة اوطان، مركزها الأم في واشنطن وفروعها في اي مكان من الكوكب.
اما اسرائيل فانها تقدم الدعم اللوجستي والعسكري والمادي والاستخباري لداعش، التي تنقل بالاكراه اطفال من سوريا والعراق الى المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية، من اجل زيادة عدد سكانها. كما تنسق اسرائيل وتسهل وتدعم الخدمات لاستخبارية والوسائط العسكرية واعمال واهداف المجموعات الارهابية والمرتزقة، الذين “يعملون” في خدمة امنها وتفوقها في الشرق الاوسط، وحتى شرعنتها المتوخاة كـ “دولة يهودية”.
اما بالنسبة للائتلاف الدولي ضد داعش بزعامة الولايات المتحدة، فان الامبريالصهيونية هي المسؤولة عن نشوء هذه الظاهرة الاجتماعية السياسية العسكرية، بصفتها راس رمح الحرب الارهابية في الشرق الاوسط الكبير وتخومه. لذلك، الحاق الهزيمة بداعش يعني هزيمة للولايات المتحدة، وهذا شيى غير منطقي ولا معنى له.
الولايات المتحدة الامريكية تعارض القضاء على داعش، لان مجرد وجوده يخدم مصالح شركاتها صانعة الاسلحة، وتهريب النفط، وانقسام المنطقة، وتدمير كيانها القومي وحضارتها وموروثها الانساني. لهذا فان التدخل الامريكي يسعى فقط الى “قصقصة اجنحة واظافر داعش وليس قطع راسه”. وهذا الامر يتيح لها تحقيق عدة اهداف متكاملة فيما بينها:
* ضمان افضل اداء لداعش زمانيا ومكانيا؛
* تسهيل الامداد التقني ـ المادي لمرتزقتها، والتمهيد لتوسعهم الاقليمي وتوطيد مواقعهم العسكرية، استباقا لاي عملية مفاوضات سياسية من اجل فضّ الصراع؛
* تدمير البنية التحتية البشرية والمادية لسوريا والعراق، مما نجم عنه ماساة هجرة جديدة، تخدم في التحليل الاخير البلدان الغربية وبالتحديد المانيا؛
* الظهور امام الراي العام العالمي والامريكي كبطلة الحرب ضد الارهاب “الاسلامي”؛
* هناك ايضا انجاز آخر في الداخل الامريكي يخدم النية الواضحة للمحافظين الجدد في الحفاظ على جو الخوف والرعب وتوطيده، بما يؤدي الى تعزيز الدولة العميقة البوليسية الفاشية، والقضاء على الحريات المدنية؛ بينما الاعتقالات والمحاكمات والادانات بحق “ارهابيين”، تفيدها في اسناد شرعية دولة الامن الداخلي، والعسكرة المتنامية لقوى الامن. “اي انسان يجرؤ على التشكيك بصلاحية “الحرب الكونية على الارهاب” يتم نعته بارهابي ويجد نفسه خاضعا لقوانين مكافحة الارهاب”.
على كل حال، القضاء على داعش او بقاؤه على قيد الحياة، لا يعتمد فقط على ارادة الولايات المتحدة، اذ يوجد لاعبون سياسيون ـ عسكريون آخرون في الميدان على نطاق محلي واقليمي ودولي، بدأوا بشن هجوم معاكس حقيقي ضد الارهاب بكافة اشكاله. ربما يكون الدور البطولي الاكثر ظهورا، هو وجود الطيران الحربي الروسي الداعم لسوريا والعراق وايران وحزب الله.
الصراع في سوريا وحولها، اتاح لروسيا فرصة توطيد ذاتها كقوة سياسية وعسكرية عظمى في العلاقات الدولية الراهنة، وتقدم نفسها على انها قوة ندّية للولايات المتحدة، انطلاقا من موقف سياسي واخلاقي وسلوكي نقيض لاداء الامبريالصهيونية.
الاداء الروسي في سوريا والعراق يعتزم “كسر العمود الفقري” لدور السعودية وفي نفس الوقت افشال استراتيجية الفوضى الخلاقة، الساعية الى تجزئة الدول من اجل تحويلها الى محميات عرقية ومذهبية وفئوية ضعيفة وفاشلة غير قابلة للحياة.
شخصيا، اعتقد بان الرد الوطني والقومي والثوري للجماهير الشعبية العربية وقواها، يجب ان يكون على مستوى الجريمة ـ الخطيئة الاصلية، التي لا زالت ترتكب منذ الاختلاق القسري للكيان الصهيوني الاسرائيلي، معززا الان بداعش.
الوجود العسكري الروسي في سوريا اعتبارا من 30 سبتمبر 2015؛ الانتفاضة الفلسطينية الثالثة اعتبارا من 1 اكتوبر 2015؛ الدعم والحضور العسكري الصيني في البحر المتوسط؛ دعم دول بريكس وامريكا اللاتينية ومنظومة الدول المستقلة…الخ، تشكل مؤشرات ايجابية على النتيجة النهائية للصراع، وامكانية حقيقية لاقامة عالم دون ارهاب.
في التحليل الاخير، يتعلق الامر بحرب تفرضها الثورة المضادة المعولمة ضد الثورة والتقدم والسلام على نطاق كوكب الارض. لا احد يستطيع البقاء محايدا ولا يجب على احد البقاء على الحياد.