يوسف زيدان وإسكات التاريخ الفلسطيني

أحمد الدبش*

روّج الروائي والباحث المصري الشهير، صاحب عزازيل، الحاصلة على جائزة البوكر العربيّة، يوسف زيدان، لادعاءات صهيونيّة تتعلق بالقدس الشريف وعلاقة العرب والمسلمين بها، وذلك خلال لقائه يوم الأحد 29/11/2015؛ في برنامج «القاهرة اليوم» مع الإعلامي عمرو أديب. حيث قال: «القدس عبرانية».  وقلل من أهمية الصراع الدائر في فلسطين حول القدس، قائلًا: «الخناقات الدائرة في القدس منذ مئات السنين بلا سبب، سواء من المسلمين أو اليهود، وأصحاب السلطة في تل أبيب يضحكون على الناس بهدف تحقيق “وعد الرب” من النيل للفرات».

ولكن ما لم يقوله زيدان، هل وجد في التاريخ القديم ما يسمي بـ«العبرانيين»؟! وهل كانت هناك لغة «عبرية»؟! فالمطلع ولو قليلاً ، على النصوص الآثارية يري جيداً أن هذا التسليم المطمئن ينطوي على مغالطات تاريخية فمعظم الذين كتبوا في هذا الموضوع أشاروا إلى وجود موجة لأناس يسمون «العبريين» دون دليل اللهم إلا الدليل التوراتي وغير الكامل في هذه النقطة ، هذا الدليل الذي لا يركن إلى صدقه ، وينقسم «علم نقد التوراة» بخصوص معنى «العبريين»، فبينما يشدد قسم من أهل الاختصاص بأن المقصود اسم جنس لمجموعة إثنية محددة، انتسب لجد أعلى اسمه (عابر/ عبر). ومما شجع بعض أهل الاختصاص على التمسك بهذا الرأي وصف العهد القديم لإبرام بأنه «العبري» كما اكتسب هذا الرأي دعماً إضافياً من التوراة، ومن سفر التكوين ( 10 : 21 و24 ) تحديداً لأنه يقول بأن سام هو ( أبو كل بني عابر)، وكذلك يذكر جداً أعلى باسم «عابر/ عبر»، الذي هو ابن شالح . ومن المهم الآن التذكير بأن المصطلح «ء برم هعبري» والمترجم إلى «إبرام العبري» لا يرد سوى مرة واحدة فقط في سفر التكوين (14 : 13 ).

يري اتجاه أخر أنه مصطلح يشير إلى بدو أو أعراب ــ أي اشتقاق من الفعل «عبر» الذي يرد في العهد القديم بمعنى عَبَرَ . أي أن الاتجاه الأخير لا يري أي أصول عرقية أو إثنية مشتركة للـ «عبريين» ، وإنما وصف لحالة اجتماعية محددة .

أمام الصمت المطبق للأثريات كان لزاماً على المنهج التوراتي إيجاد الدليل على وجود العبريين ولو كان واهيا ً ، فبدءوا في البحث في النقوش القديمة التي تعود لممالك الشرق القديم ، والتي تشير إلى مجموعات من الناس عُرفت بأسماء مختلفة مثل «سء . جءز» ،«خفيرو» ، «خبيرو» ،«عفرم» ،«عفر . و» ، «عابيرو» في النصوص المسمارية في ( نوزي ، وتل حريري ــ ماري ــ ، وتل العطشانة ــ الالاخ ـــ، ورأس شمرا ــ أوغاريت ــ ، تل العمارنة وغيرها … ) واعتقدوا أنهم اكتشفوا فيهم «العبريين» ولكن هذا الرأي لا يتفق مع غالبية الأبحاث الرصينة المتعلقة بهذه المجموعات ، التي لا مجال لذكرها الآن .

وإذا كان مؤرخونا الأفاضل أصحاب الفكر الآسن ، لم يشككوا لحظة في ما تلقنوه ، بل رددوه كبغباء في صالون المتحف ، فإن أحد المفكرين الغربيين بير روسي، لم يسعه السكوت على الكذب التاريخي ، فيخصص الفصل الأول من كتابه الرائع «مدينة إيزيس ، التاريخ الحقيقي للعرب» لدحض هذه الفرية مقدماً إيضاحاً موجزاً حول قضية العبرية … التي ليست إلا وهماً معقداً ومستمراً لشعوذة اشتقاقية لغوية ، قد استطاع أن يجر كثيراً من الناس ليروا «العبرانيين»، وفي «ثقافتهم» الأجداد الساميين لتاريخ الشرق ، ولتاريخنا نحن ( في أوروبا ) أيضاً . أن علينا أن نعرف قبل كل شئ أن التاريخ المصنوع «للعبرانيين» خارج النصوص التوراتية هو الصمت الكلي المطبق . فلا العمارة ولا الكتابات المنقوشة على الآثار ، ولا القوانين والدساتير تكشف أثراً قليلاً «للعبرانيين». فعلى آلاف النصوص المسمارية أو المصرية التي تؤلف المكتبة المصرية ، أو مكتبة رأس شمرا أو نينوي ، وحتى في الروايات الآرامية … في ذلك كله لا تذكر كلمة «عبرية». وأشهر ملوك التوراة داود وسليمان لم يصبحا قط موضوع وقائع تاريخية ، وليس هناك أبداً ذكر للملحمة المعزٌوة لعبور «العبرانيين» وليس هناك أي انقطاع حضاري ثبت بالحفريات التي تمت في فلسطين منذ عام 1880ــ 1925 فالعدم كامل مثلما هو قطعي وجازم .

لنغادر أراء روسي هذه ، الجديدة والمفاجئة حتى لنا نحن عرب هذا العصر، ولنغادر كتابه القيم الذي هو جدال موسع محكم حول صحة مقولاته وأطروحاته هذه، ولننظر إلى مفهومنا الديني عن «العبريين» عبر كتاب الله تعالى القرآن الكريم : فهل ثمة ما يشير إلى “العبريين” في القرآن الكريم !؟ لم ترد كلمة «عبري / عبراني» في القرآن الكريم مطلقاً ، فقد ورد ذكر الإسرائيليين بصيغة «بني إسرائيل» و«قوم موسى» ، ذلك مما يدل على أن العرب في زمن النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يعرفوا اليهود بغير التسميات المذكورة ، فلو كانوا يعرفون بــ «العبرانيين» أو «العبريين» لورد ذكرهم في القرآن بهذه التسمية .

لنضف إلى ذلك أن «العبرانيين» مجهولون في الأناجيل ، على أمن هناك رسالة للعبرانيين في الأناجيل، ولكنها مرفوضة لأسباب مادية ممن قبل شُرٌاح الكتاب المقدس مرفوضة لأسباب مادية قبل كل شئ .

هكذا لم تكن العبرية إلا بدعة تاريخية لإسقاط جغرافية التوراة على فلسطين ومحيطها، وهذا الإسقاط جرٌ كذباً تاريخياً يهودياً ، فعلينا الاحتراس من التمادي في استخدام مصطلح «العبرية» المجهول ، الذي يفلت من كل تحليل جاد. وإنه لمن الصعب علينا اليوم أن نعرف «العبرانيين» بواسطة المكان أو الزمان أوبمعونة علم الاجتماع، أو علم الأديان .

أما فيما يخص مدينة القدس،  فهل يعلم الروائي زيدان، ان الشواهد الأثرية تدل على أن سكنى أراضي القدس، قد تم في العصر الحجري القديم الأدنى الثاني، الذي يؤرخ من حوالي 700,000 ـ 250,000 سنه خلت، فقد عثر الآثاري رينيه نوفل في مغارة أم قطفة شرقي القدس، وعلى مسيرة عشرة كيلومترات للجنوب الشرقي من بيت لحم، بالقرب من وادي المربعات، على أدوات دقيقة، وأدلة استعمال النار. وفي العصر الحجري القديم الأدنى، وهو يؤرخ بين 250,000 إلى 100.000 سنة خلت، كشفت عن آثار في فلسطين، في مغارة «الزطية» شمال غربي بحيرة طبرية، وأم قطفة في القدس، ومغارة الطابون وحولون ومعان باروخ.

وتستمر آثار تواجد الإنسان في القدس طيلة العصور الحجرية القديمة، حتى نصل إلى العصور الحجرية المتوسطة، وتتمثل هذه الحضارة في بلادنا فلسطين بـ«الحضارة الناطوفية»، التي سميت كذلك نسبة، إلى واد النطوف، شمالي غربي القدس، والتي دامت نحو ستة آلاف سنة، اعتباراً من حوالي عام 12000 قبل الميلاد.

أما التركيب العرقي للسكان (القدس) فليس واضحًا، والرأي السائد هو أنهم كانوا، دون شك، من جنس البحر المتوسط، الذي يعتبر الساميون (الجزريون) فرعًا منه، وبعضهم كان على ما يبدوا من العنصر المعروف بالأمنوري، كما تفيد دراسة بقايا الهياكل العظيمة في الجزر في جنوبي البلاد.

فقد اكتشفت في فلسطين نحو خمسين هيكلا لنموذج عرق البحر المتوسط في مقبرة قديمة، تبعد عشرين ميلا عن القدس.

تدل هذه المعطيات القليلة، على أن القدس كانت تتمتع بمكانة عظيمة، في تلك العصور.  وهذا ما يدفعنا إلي طرح هذه المعضلة على الروائي زيدان، لماذا فشلت جميع المساعي للبحث عن دليل أثري واحد، يثبت وجود أي دليل لما يسمي «العبرانيين» أو «بني إسرائيل» أو «اليهود»، في مدينة القدس؟! وباعتبار أننا نعثر في بلادنا فلسطين عامة على آثار من العصور الحجرية القديمة، تعود إلى نحو مليون وسبعمائة وخمسون ألف سنة خلت، ونعثر في القدس على آثار تعود إلى اثني عشر ألف عام خلت .. فإننا نتعجب من عدم وجود أدلة أثرية، على وجود هذه الشراذم البشرية.

* كاتِب وباحِث فلسطيني في التاريخِ القديمِ