لماذا ينهار «عالم القطب الواحد»؟

علي جرادات

في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين الماضي انهار الاتحاد السوفييتي وطغت القطبية الأحادية الأمريكية. في حينه ابتهج السياسيون والمنظرون «الغربيون»، والأمريكيون خصوصاً، لدرجة تبشيرهم بأن «التاريخ عاد لمساره الصحيح»، بل و«وصل إلى نهايته»، كما جزم الأكاديمي فوكوياما، وكأن لحركة التاريخ نهاية أو سقفاً أو يمكن ضبط مسارها.

كان ذلك شكلاً لإسقاط الرغبات الأيديولوجية على الواقع، سرعان ما تحول إلى أحلام أمريكية امبراطورية، قادت إلى إشعال عشرات الحروب التي كبدت البشرية، ولا تزال، خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة، (على الأقل)، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكنها، (الحروب)، لم تفضِ لا إلى تأبيد السيطرة الأمريكية على العالم، ولا إلى فرض «سياسة الليبرالية الجديدة»، نموذجاً وحيداً للتنمية.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد مضت الصين، (1.3 مليار نسمة)، في مشروعها التنموي الخاص، وفازت الحركات اليسارية في انتخابات رئاسية وبرلمانية في ثلثي بلدان أمريكا اللاتينية، سيما البرازيل التي أصبحت في عقدين من الزمن دولة صناعية، وصمدت دول كفيتنام وكوبا وكوريا الشمالية وزيمبابوي وناميبيا وغيرها، وسقط نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، وحقق اليسار نجاحات انتخابية ملموسة في بعض ولايات الهند، خصوصاً ولاية كيرالا الصناعية، (70مليون نسمة). أما روسيا الدولة النووية، (155 مليون نسمة)، ففشلت محاولات تحويلها إلى دولة «عالم ثالثية»، حيث نهضت بقيادة بوتين، وأوقفت خصخصة قطاعها العام، وباتت معادية للهيمنة الأمريكية. بل وأنشأت مع (الصين، الهند، جنوب إفريقيا، البرازيل) محور البريكس الذي يشكل (35% من الانتاج العالمي و47% من عدد سكان العالم). ووثقت علاقتها مع العديد من دول العالم المتضررة من سيطرة واشنطن على العالم ومحاولات عولمة «سياسة الليبرالية الجديدة».
في المقابل دخلت الولايات المتحدة، عام 2008، أزمة مالية تحولت إلى أزمة اقتصادية عالمية كبدت البشرية، حسب تقارير الأمم المتحدة، خسارة لا تقل عن 35 تريليون دولار، وبطالة بلغت 9% في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، ومديونية أمريكية بلغت 17.1 تريليون دولار، وأوروبية ناهزت 10 تريليونات دولار. لقد أصابت الأزمة الاقتصادية بلدان العالم بأسره، وكانت وطأتها أشد في بلدان ما يسمى «العالم الثالث»، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أنه من أصل سكان العالم، ثمة 2 مليار نسمة يعيشون دون خط الفقر، و500 مليون يعانون البطالة، و900 مليون يشربون مياها ملوثة. هذه هي نتائج عولمة بشَّر منظروها أنها ستكون عولمة إنتاجية وأسواقا عالمية مستقرة.
لكن، على الرغم من هذه النتائج الكارثية لعقدين ونصف العقد من القطبية الأحادية الأمريكية، ولسيطرة 30 شركة معولمة على 70% من السوق الدولية، واستحواذ 1% من الأمريكيين على 50% من الاقتصاد الأمريكي، (وشيء قريب من ذلك في اليابان وأوروبا)، تستمر واشنطن، مستفيدة من تفوقها العسكري والتكنولوجي والإعلامي، في مساعيها لتثبيت سيطرتها على العالم، ولإلحاق الأسواق المحلية في أكثر من دولة باحتكاراتها المعولمة، بكل ما يقتضيه ذلك من انتهاك ل«السيادة القومية» و«الثقافة القومية» لهذه الدول. بل وتواصل، (واشنطن)، تحرشها بدول عظمى مثل روسيا، الدولة النووية، التي سددت مديونيتها ولملمت جراحها الداخلية، وراكمت رصيداً وصل إلى 500 مليار دولار، والصين التي يبلغ رصيدها 2.3 تريليون دولار، وتحقق معدلات نمو سنوي يتراوح بين 7-10%، وابتاعت سندات حكومية أمريكية ب1.1 تريليون دولار، وتدرك أن التحرش الأمريكي بروسيا هو جسر للتحرش بها كدولة عظمى صاعدة ومنافسة للولايات المتحدة، ذلك باعتراف البنك الدولي الذي أشار إلى أن الانتاج الصيني عام 2014 قد فاق الانتاج الامريكي، عدا اشارته إلى أن الصين باتت الأكثر جاذبية للاستثمارات، وأنها عززت ذلك بإنشاء «بنك التنمية للبنى التحتية» الموازي نسبيا لصندوق النقد والبنك الدوليين اللذيْن تسيطر عليهما الولايات المتحدة.
قصارى القول: صحيح أن فاعلية محور «البريكس» لم تظهر مدياتها بعد، لكنه يسير نحو أن يكون قطباً مواجهاً للسيطرة الأمريكية. وصحيح أيضاً أن روسيا ليست بوزن الولايات المتحدة وقوتها، لكنها كدولة عظمى صناعية ونووية، نجحت دبلوماسياً في عدة ملفات ساخنة في العالم، حيث فشلت دبلوماسية «الفوضى الخلاقة» الأمريكية. ما يعني أن القطبية الأحادية الأمريكية انتهت أو تكاد، وأن العالم يسير نحو عالم متعدد الأقطاب، ما زال القطب الأمريكي أقواها، لكن هذا القطب مثقل بنتائج الأزمة الاقتصادية وحروب «المحافظين الجدد» في أفغانستان والعراق والتدخلات العسكرية غير المباشرة في أكثر من دولة، ومثخن بجروح فشل الدبلوماسية الأمريكية في أكثر من إقليم في العالم، خصوصا إقليم «الشرق الأوسط»، وقلبه المنطقة العربية، الذي يعاني ويلات عدوانية وإرهاب الكيان الصهيوني الفاشي، حليف الولايات المتحدة الاستراتيجي الثابت، وويلات إرهاب العصابات التكفيرية التي استخدمتها الولايات المتحدة، بل، وواصلت استخدامها بهذا الشكل أو ذاك، حتى بعد انقلابها عليها في تفجيرات 11 سبتمبر 2001.
إن في ازدواجية معايير السياسة الخارجية الأمريكية، وفي رعايتها لإرهاب الكيان الصهيوني، وفي استخدامها للإرهاب التكفيري، وبالتالي، فشلها في حل الملفات الساخنة في العالم، ما يضيف رصيداً للسياسة الخارجية الروسية النشطة والناجحة التي يمكن أن تفيد الكثير من الشعوب. فروسيا بلد مصدر للسلاح ولديها أجيال حديثة من التكنولوجيا التي تحتاجها دول كثيرة تتطلع للاستقلال والسيادة وتحسين ميزان قوتها، فيما لدى الصين القدرة على أن تقدم لهذه الدول قروضاً واستثمارات دون شروط سياسية دأبت عليها الولايات المتحدة، والدول «الغربية»، عموماً.

:::

“الخليج”