الطاهر المُعِز
أعلن قادة الإتحاد الأوروبي ان قارّتهم –الإستعمارية والمُعادية لشعوب العالم- “تواجه أخطر أزمة لاجئين منذ الحرب العالميّة الثانية”، وتكررت مثل هذه العبارة لتزيد من قوة اليمين المُتطرف ومن انتشار الفكر المعادي للعمال والفقراء والشعوب المُسْتَعْمَرَة وشبه المُسْتَعْمَرَة، في كافة أنحاء القارّة التي اخترعت العبودية والإقطاع والقنانة والإستعمار بشكليه القديم والجديد، ولكن أرباب العمل يرحِّبون بتدفق اللاجئين الشبان ذوي المهارات والخبرات، الذين أنفقت الدولة في سوريا (وغيرها) على تربيتهم وتعليمهم، لتقطف ألمانيا وبريطانيا وفرنسا ثمار هذا الجهد، بعد تخريب بلادهم وتشريدهم من ديارهم وأوطانهم… كان يعمل حوالي ثلاثة ملايين افريقي في ليبيا، وبعد عدوان الولايات المتحدة وحلفائها والحلف الأطلسي على البلاد وتفكيك الدولة ومؤسساتها (الجيش والحكومة) أصبحت المليشيات -التي نهبت ثكنات الجيش الليبي- تتاجر بدماء وعرق المهاجرين الذين يبحثون عن الرزق في أوروبا، ثم جاء دور سوريا، بعد تكفل المخابرات الأمريكية و”الغربية” بنقل السلاح من مخازن الجيش الليبي إلى مليشيات الإسلام السياسي الإرهابي في سوريا، والمدعومة من السعودية وقطر وتركيا، وتركيا تعني الحلف الأطلسي، فيما تتكفل السعودية وقطر بالإنفاق على الإرهابيين القادمين من البلدان العربية ومن القوقاز وأوروبا، ويمر الجميع عبر تركيا الإخوانية الأطلسية، بمساعدة النظام الأردني (الذي أنشأته بريطانيا) والقوى الرجعية اللبنانية مثل حزب آل الحريري والكتائب (أو القوات اللبنانية)…
تَمَكَّنَ قادة أوروبا من الإلتفاف على غضب العمال والفقراء (جراء الأزمة المستمرة منذ 2009) وحولوه إلى عداء لرفاقهم من الفقراء والعمال المهاجرين أو ذوي الأصول غير الأوروبية، وحقق اليمين المتطرف نتائج قياسية وأصبح شريكا في الحكم في هولندا والنمسا وإيطاليا وسويسرا وألمانيا وشمال أوروبا (السويد والدنمارك) ويحكم بمفرده في أوكرانيا وبولندا والمجر، وتعاظم حجم كتلته النيابية في البرلمان الأوروبي وفي عدد من المجالس النيابية الوطنية في أوروبا، وساهمت الأحزاب “الإشتراكية” وأحزاب اليمين “التقليدي” في انتشار الفكر اليميني المُتَطَرّف، منذ انهيار الإتحاد السوفياتي، وما نتج عنه من سيادة القطب الواحد وتعاظم دور صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومؤسسات “بريتن وودز” و”وفاق واشنطن”، حيث أصبح جمهور الناخبين لا يجد فرقا بين حكومات اليمين واليسار، نظرا لإجماع الفريقين على تطبيق سياسة رأسمالية “متوحشة”… أما الترجمة الميدانية لسيادة القطب الواحد فتمثلت في انهيار مكاسب عمال أوروبا من ضمان اجتماعي وتقاعد وعقود عمل جماعية الخ، فارتفعت نسبة البطالة والفقر، وتقلص هامش الحريات السياسية والنقابية، باسم مكافحة الإرهاب (الذي أنشأته أوروبا وأمريكا)، ولما بلغ الوضع حدا لا يطاق، تمكنت البرجوازية الحاكمة في أوروبا من تحويل غضب الشعب اليوناني والاسباني والبرتغالي من ثأر طبقي إلى “ثأر” انتخابي أدى إلى اختيار نواب من “اليسار” الذي تراجع عن برامجه ووعوده حال انتخابه، ومنها وضع حد لسياسة التقشف أو قطع العلاقات مع حلف الناتو والكيان الصهيوني، بل طَوَّرَ ائتلاف “سيريزا” في اليونان، علاقاته مع الكيان الصهيوني بشكل غير مسبوق، وتعززت مشاركة الجيش اليوناني في مناورات الحلف الأطلسي، بل وطبَّق ائتلاف “سيريزا” سياسة نقيضة لنتائج الإستفتاء الذي بادر بتنظيمه…
انتهزت تركيا فرصة الحرب على سوريا وتفكيك دولة العراق، واستفادت من وضع جيرانها العرب بشراء النفط الرخيص من كردستان العراق ومن سوريا (لتصديره إلى الكيان الصهيوني)، ومن المُتَاجَرَة بالقطع الأثرية والتحف وقطع غيار المصانع السورية (خصوصا مصانع حلب) والمُتاجرة بالبشر لتهريبهم نحو أوروبا، التي اضطرت إلى مفاوضة حكومة الإخوان المسلِمين من أجل “ضبط” تدفق اللاجئين، وفرزهم في تركيا قبل تهريبهم نحو أوروبا، مقابل الإلغاء التدريجي لتأشيرة دخول مواطني تركيا إلى أوروبا، ومساعدة أوروبية سنوية لتركيا بقيمة ثلاثة مليارات يورو، لإدارة معتقلات للاجئين-غير المرغوب بهم- الذين ترَحِّلَهم الدول الأوروبية، لتصبح تركيا قاعدة ضخمة للحلف الأطلسي وممرا آمنا للإرهابيين ومعتقلا ضخما للاجئين غير المرغوب بهم أوروبيا، ونموذجا “مُحتَرَما” لانتهاكات حقوق الإنسان وللحريات (داخليا وخارجيا) ومعبرا “إسلاميا” للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وجارا معاديا للتحرير والحرية في الوطن العربي، وكل ذلك بتمويل أوروبي، وبالتزامن مع تعيين نظام تركيا سجّانا رسميا في خدمة الإتحاد الأوروبي -الذي أصبح يشبه الثكنة العسكرية- أطلق الإعلام الأوروبي العنان للتهجم على كل ما ومن هو عربي أو من يُفتَرَضُ انه مُسلِم، بمساهمة نشيطة من الحكومات (فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وغيرها) ومن أحزابها المُسمّاة “اشتراكية” أو “جمهورية” أو “مُحافظة” أو “مسيحية”، وغيرها من المُسمّيات، وانتشرت أعمال العنف (التي بقيت بدون تتبعات أو عقاب) ضد من يُفْتَرَض انهم عرب أو مسلمون، وضد محلاتهم وأماكن عبادتهم الخ، ودشّنت شرطة البلدان الأوروبية (كجهاز دولة رسمي) هذه الحملة المُعادية للعرب والمهاجرين والعمال والفقراء بتكثيف حملات مداهمة المنازل في ساعات الليل والنهار والإعتداء بالعنف على الشبان ذوي الأصول العربية والافريقية وإهانتهم واعتقالهم لفترات غير محدودة، دون توجيه تهم محددة، في ظل القوانين الإستثنائية وحالة الطوارئ، الشبيهة بالأحكام العُرْفِية في ظل الأنظمة العسكرية…
مر العام 2015 ثقيلا ودمويا، سدد العرب (جيران أوروبا) والمهاجرون (العاملون داخل أوروبا) ثمنه باهضا، بسبب الأزمة الإقتصادية والإرهاب والحروب، وهم أول ضحاياها، وبسبب التبعية الأوروبية نحو أمريكا، واصطفاف الإتحاد الأوروبي وراء السياسة العدوانية الأمريكية سواء ضد المُنافسين (روسيا والصين) أو ضد من اعتبرتهم أمريكا أعداء (أنظمة إيران وسوريا وفنزويلا، وقبلها ليبيا والعراق “البعثي”…)، وأكّدت الدعاية الأوروبية على “أزمة اللاجئين التي تشبه في حدّتِها أزمات الحرب العالمية الثانية” وما يثيره هذا التشبيه الخبيث من ذكريات وآلام في تاريخ أوروبا المُعاصر وفي الذاكرة الجماعية الأوروبية من تقتيل وخراب وبُؤس، ويكفي هذا التشبيه في حد ذاته إلى العودة بذاكرة الشعوب إلى حقبة الإستعمار المباشر والدعاية الرسمية التي كانت تدعو إلى توجيه كل السِّهام نحو “العدو الخارجي” الذي يهدد الحضارة الأوروبية، وممثلي هذا العدو الخارجي في داخل أوروبا (العدو الداخلي)، ما يؤدي إلى تبرير الإعتداءات المتكررة على “غير الأوروبيين” سواء من قِبَلِ الأجهزة الرسمية (الشرطة والمخابرات والقضاء) أو من قِبَلِ المجموعات المتطرفة، واستثمرت الأحزاب اليمينية في شمال أوروبا وجنوبها ومن شرقها إلى غربها، هذا الوضع لتعزيز مواقعها في كافة الإنتخابات التي أجريت خلال السنوات الأخيرة، وأصبحت قادرة “ديمقراطيا” (انتخابيا) على قيادة فرنسا وإيطاليا والنمسا وهولندا وبلجيكا والسويد والدنمارك وبعض بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، وإلى جانب الإيديولوجيا العنصرية تدعو هذه الأحزاب صراحة إلى القضاء على “دولة الرفاه” (التي تكفلت الأحزاب اليمينية التقليدية أو المُسمّاة “اشتراكية” بالقضاء عليها) ونعت العاطلين عن العمل والفقراء بالكسل والخمول وبالعيش على كاهل الشعب بالمُساعدات الحكومية، ولذلك تدعو إلى خفض الإنفاق الحكومي على الخدمات (تعليم وصحة وضمان اجتماعي…) وانتهاج سياسة تقشف تعصف بما تبقّى من مكاسب قليلة مثل منح البطالة والتقاعد (وهي من أموال اشتراكات العمال وليست مِنَّة من أحد)…
ورد في دراسة رسمية للمفوضية الأوروبية ان نمط الحياة الحالي مُهَدّد في الإتحاد الأوروبي، بسبب التدهور الإقتصادي وانخفاض مستوى المعيشة- الذي يتوقع أن لا يتجاوز 60% من مستوى الأمريكيين بعد ثماني سنوات- وبسبب ارتفاع نسبة الفقر ونسبة البطالة، فيما ذهب بعض الباحثين إلى مقارنة الوضع الحالي بالوضع عشية الحرب العالمية الثانية، بعد وصول الحزب الفاشي في إيطاليا والحزب النازي في ألمانيا إلى الحكم بمساندة عريضة من المواطنين…
قد تكون هذه القراءة الشخصية للوضع العربي- انطلاقا من الوضع لدى جيراننا الأوروبيين- متشائمة، لكن “دوام الحال من المُحال”، ويمكن تغيير هذا الوضع، في حال تَوَفُّرِ بعض العوامل أولها القدرة على توجيه البوصلة نحو الوعي بوضعنا، ثم الإنتقال إلى العمل على تغييره من خلال تحديد صف الأعداء (الإمبريالية والصهيونية والطبقات المُهَيْمِنَة في الوطن العربي) وعدم الإصطفاف وراء عرب النفط (عرب أمريكا) بل بالنضال ضدهم كأعداء قوميين وطبقيين، من أجل دحر الإستعمار (والصهيونية في مقدمته) وووضع حد للهيمنة الإقتصادية على ثروات ومقدرات الوطن العربي، ومن أجل بديل تقدمي واشتراكي يُنْصِفُ العمال وصغار الفلاحين والمُنْتِجين، ويوجه الإنتاج نحو تلبية حاجات المواطن وتوفير الأمن الغذائي والسكني والصحي الخ
تلك تمنياتي في هذا العام الجديد الذي آمل أن يكون مليئا بالإنتصارات على الأعداء الحقيقيين وبناء لبنات مجتمع جديد خال من استغلال الإنسان (والشركات) للإنسان، وأطمح للعيش في مجتمع يطلب من كل إنسان بذل جهد يتناسب مع قدراته، مقابل تلبية حاجياته ومتطلباته…
كل عام ونحن صامدون، قبل الإنتقال إلى مرحلة الهجوم!