ضد السلفية الهُوياتية

نقد للتصورات المثالية اللاتاريخية عن التاريخ

(الجزء الأول)

محمد رشيد

لا يُعّدُّ المقال المنشور على موقع (جزيرة) الذي يصفه القائمون عليه بالموقع المعني بقضايا أبناء الجزيرة السورية في الوطن و الشتات للسيد/ثيودوروس داوود . راعي ابرشية القديسة مريم للروم الأرثوذكس بمدينة بالتيمور بولاية ميريلاند الأمريكية . والذي يحمل عنوان (لا لسنا عرباً ) بحد ذاته حدثاً فكرياً ذي دلالة إذا تم التعامل معه كمنشور
آخر ضمن تلك الأعداد الهائلة التي تفيض بها مواقع الانترنت.لكن ذلك المقال , كجزءٍ من كل , يحتوي ضمن ما يحتويه من شذرات يغيب عنها النسق المترابط , مجموعة من الخصائص العامة التي تتضمنها كافة المقالات و الكتب و الأطروحات التي تضع الخصائص الثقافية المشتركة للشعوب العربية كماهية ثابتة نقيض لماهية أو ماهيات ثابتة أخرى فرعونية/قبطية أو سريانية أو كلدانية أو بابلية ..إلخ . إذ يحمل ذلك الخط الفكري, الذي يحاول الظهور بشكل يبدو وكأنه للوهلة الأولى خطاباً تاريخياً خطاب يفسر هوية مجتمعٍ ما بما تحمله من خصائص من خلال تاريخ ذلك المجتمع ,نسقاً واضحاً من اللاتاريخية المتمثلة في انتزاع المنتوج الثقافي و الحضاري لمجتمع ما خلال محاولته لتفسير كافة التساؤلات التي يطرحها وجوده المادي, في إطار علاقات شديدة التعقيد يشتبك فيها الموقع مع المناخ مع النشاط الاقتصادي مع البنية الاجتماعية..إلخ ,وما ينتج عن ذلك من لغة كوسيط لنقل المعرفة من حيث هي انعكاس لتلك العلاقات في الوعي ,ومعتقدات و أساطير و نتاج أدبي..إلخ , انتزاعاً لا هوادة فيه, من تلك العلاقات المتغيرة المتشابكة التي هي ببساطة السياق التاريخي لذلك الناتج الذي يُصْطَلح على تسميته بالحضارات لدى المهتمين بالدراسات الأركيولوجية , أو الهوية الحضارية لدى بعض التيارات – الليبرالية تحديداً – و النظر إليها كماهيات ثابتة أو كـ(ـجوهر الشئ) أو (الشئ في ذاته) يتضمن خصائصه في جوهره !!! وبالتالي فإنه وفقاً لتلك الفرضية فإن أي تغير قد طرأ على ما ينتج عن ممارسة شعوب المنطقة في حقل انتاج الوعي بعلاقاتها المادية المتغيرة (التي يتجاهلها أنصار ذلك الطرح تماماً) هو تغير سطحي .قسري, يمكن ببساطة, من خلال وجهة نظرهم (الحداثوية), محوها . عبر التبرؤ من المُكَّوِن العربي بواسطة كتابة مقال يحمل عنواناً كالذي استهل به السيد /ثيودوروس داود مقاله و الذي احتوى على سبع مغالطات يشترك فيها كخصائص عامة مع كافة الأطروحات التي تحاول تبني الحضارات القديمة في الدول العربية كهويات و كمشاريع انعزالية سياسية.
وعلى قدر تنوع الفئات البورجوازية في المجتمعات العربية المنطلقة من تشتت وعيها وعدم قدرتها على مراكمة معرفة تاريخية انعكاساً لرثاثة واقعها الاقتصادي التابع للاحتكارات الرأسمالية . فإن أطروحاتها التي تنتزع من حقل الأركيولوجيا (البحوث الأثرية التي لا تكفي وحدها لتكون معرفة بالتاريخ) و اللغات و الميثولوجيا السمات المتمايزة لحضارات الشرق القديم تتشّظَّى لتُسْبِغَ على ما ينتج من الحقول العلمية المُشَار إليها صفة (النتيجة النهائية) المُنافية لكونها معطيات مادية قابلة للبحث و المقارنة و النقد كنتيجة أولى. ومن ثم تُأَوَّل تلك المُعطَيَاتِ تأويلاً غيبياً . ليس بالضرورة أن تكون السمة الغيبية للتأول نتيجة عن خلال تفسير تلك المعطيات بعوامل مما وراء الطبيعة . بل من خلال النظر فقط إلى تلك اللحظة من تاريخ مجتمع ما كَسِمَةٍ عامة بعد انتزاعها من سياقها و إفرادها بحيث يستحيل تفسيرها تفسيراً مادياً مما يقود بالتبعية إلى تفسيرها بعوامل داخلية (كامنة) في (شخصية/هوية) هذا المجتمع . فمثلاً دون أن نلجأ لتكوين معرفة واضحة عن طبيعة نمط الانتاج الزراعي/النهري في مصر و العراق فإنه يكون من الصعب, بل ومن المستحيل, فهم اهتمام المجتمعات فيما بين النهرين و وادي النيل بالتقويم الفلكي مثلاً لحساب أوقات الفيضان و الجفاف النهري كظواهر مادية يسعى المجتمع لفهمها لتحسين شروط هيمنته على الطبيعة في سبيل إنتاج احتياجاته المادية من خلال نشاط اقتصادي هو الزراعة النهرية . ومن ثم فإن الجهل بالعوامل السابقة يؤدي ببساطة إلى طرح السؤال و الإجابة عليه كالتالي: س – لماذا اهتم قدماء المصريون و السومريون بالتقويم و الحساب الفلكي ؟ جـ – لأنهم كانوا عباقرة في الحساب. هنا يصل (العلم الزائف) لطريق مسدود حيث تكتمل (المعرفة) ومن ثم لا يعود من الضروري وجود العلم أصلاً بعد اكتمال المعرفة التي كان السعي إليها هو هدف العلم . فتغدو (العبقرية) سبباً غيبياً ماورائياً كامناً في روح أو هوية أو وجدان أو شخصية هذا المجتمع أو ذاك بحيث لا يمكن تفسيرها أو التساؤل عن عواملها , فضلاً عن سبب اتساق خواص التقييم في مصر و العراق القديم مثلاً من حيث اعتمادهما على التقويم الشمسي مع اختلاف النظام العددي الستيني في العراق عن النظام العددي العَشْرِي في مصر القديمة, بعكس التقويم القمري في الصين القديمة مثلاً , إذ قد يُعَدُّ هكذا تساؤل بخصوص اتجاه المصريين و العراقيين القدماء للنظام الشمسي سبباً في سماع تفسيرات أكثر غرائبية أو غيبية تتعلق بأمزجة هذه العبقرية أو تلك , شمسيةً كانت أو قمرية.. إلخ.
يقول العالم الفيزيائي و الرياضي الموسوعي الفرنسي (هنري بوانكاريه) : ( إن العلم مُشَيَّدٌ من الحقائق كبيت من الأحجار . لكن تكديس الحقائق لا يُنْشِئُ علماً كما أن تكديس الأحجار لا يُنْشِئُ داراً) . تنطبق هذه الأطروحة أيضاً على مجال مقاربة التاريخ. فالوعي بالتاريخ لا يتَأَتَّى من تكديس مجموعة مع معطيات الحقول البحثية الأركيولوجية ( الأثرية) و اللغوية و الإثنية و الميثولوجية . بل من الوعي بالتاريخ كحركة . علاقات متشابكة وليست تعاقب صورٍ منعزلة. اجتماعية وليست فردية. فمن السهل أن تجمع بعض المعلومات عن تفوق السومريين و قدماء المصريين مثلاً فيما يتعلق بالفلك و التقويم . لكن ذلك لا يقدم تفسيراً لذلك التفوق الناشئ أصلاً عن تلبية احتياجات مادية لتلك المجتمعات. حين تقتصر المُقاربة على الانبهار (السياحي) بأعمال تلك المجتمعات فإن العلاقة بين تلك المقاربة و (التاريخ) هي كالعلاقة بين الجمع و الالتقاط و الصناعة فائقة التقنية التي تستلزم تقدماً في عدد لا يُحْصى من المجالات بينما لا يلزم للجمع و الإلتقاط سوى التجول بين أشجار الفواكه و عناوين المقالات و صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
لنأخذ مثلاً مسألة التفوق السومري/الفرعوني في الحساب بوجه عام. إن مقاربة (الجمع و الالتقاط) البدائية تكتفي بالقول : (لقد وضع السومريون و قدماء المصريين نظاماً دقيقاً للتقويم يعتمد على ملاحظة الأجرام السماوية قبل آلاف السنين .. إذاً لماذا؟ لقد كانوا عباقرة) ودون محاولة التقليل من أي انجاز بشري . إلا أن تاريخ المعرفة البشرية في مجال الحساب مثلاً يعود بنا إلى تلك المرحلة التي اصْطُلِحَ على تسميتها _من باب الاستسهال _ بـ(ـما قبل التاريخ)تلك الحقبة التي عاشت فيها تلك المجتمعات التي قد نجهل الآلية التي استخدمتها لنقل المعرفة المُتَحَصِّلة عن ملاحظتها لواقعها المادي المحيط بغية تطويعه.وإن كان مصطلح (ما قبل التاريخ) يحمل في طياته اعتقاداً خاطئاً بان للتاريخ بداية كالصفر على متتالية الأعدادالصحيحة الموجبة. حركة يسبقها (سكون) بحيث تظل العوامل التي أدت لتلك الحركة خافية علينا ,اللهم إذا أقررنا بأنه كان ثمة حركة و تاريخ في تلك المراحل, لنعد الآن لمسألة الحساب في المشرق القديم . يزول كل انبهار حين نكتشف مثلاً أن علاقة الانسان بالعدد – كمقدمة للحساب و التقويم_ تعود لأولئك المجهولين الذين سجلوا أعداد قطعان حيواناتهم مثلاً على جدران كهوف العصر الحجري . بل أن النُصُب الحجرية المُمْتَدَّة من اسكتلندا شمالاً حتى أثيوبيا جنوباً مروراً بتركيا وبلاد الشام و شبه الجزيرة العربية..إلخ. و ذلك خلال العصر الحجري الوسيط (من 1000 ق .م إلى 5000 ق.م في شمال غرب أوروبا – بلاد الشام : 2000 ق.م و حتى 9500 ق .م )وكذا العصر الحجري الحديث الذي تزامن مع ظهور الزراعة (10200 ق.م – أقدم آثار دالة على النشاط الزراعي : 9500 ق.م) اعتمدت في اسكتلندا (ستونهينج) نظاماً دقيقاً لحساب المسافات و الزوايا .و عليه فإن السعي الانساني /المجتمعي لتطوير المعرفة بالطبيعة هو قانون عام يسري على المصري الذي بنى الأهرام بقدر ما يسرى على انسان الكهوف. إن الوعي بتراكمية التاريخ و صيرورته هي ما يجعل وعينا به جديراً بوصف (تاريخ) بدلاً عن الوعي الزائف به . الذي يعتمد على مقاربة الجمع و الالتقاط و التكديس. فتثبت – في لحظة معينة – انعكاسات ممارسة المجتمعات القديمة للاكتشاف و محاولة فهم الطبيعة_ فيستحيل ذلك الانعكاس إلى (جوهر) أو (ماهية) لهذا المجتمع القديم أو ذاك . مُصَدِّراً حالة من الانبهار بما كان الناس يمارسونه بكل بساطة قبل آلاف السنين كـ(ــضرورة).ذلك الانبهار السياحي الذي لا يختلف عن انبهار الزوار في حديقة الحيوانات بالأسد الذي يلتهم اللحم ويحطم العظام بأنيابه مع أنها مسألة عادية و ضرورية جداً بالنسبة للأسد لكي تستمر على قيد الحياة فهو لا يفعل ذلك لإبهار الزوار في حديقة الحيوانات أو سعياً لاثبات تفوقه أو اكتشاف ذاته .فكما أنه من الضروري للأسد تناول اللحم بكميات هائلة فإنه كان من الضروري للبشر قبل عشرات آلاف السنين ممارسة الحساب عبر تجريد العلاقات الكمّية في الطبيعة إلى مفاهيم و أعداد وبالتراكم ظهر مفهوم الزمن و التقويم..إلخ. تلك هي المغالطة المنهجية الأولى في خطاب السائرين في تيه الهوية . الباحثين عن أسطورة تأسيس لمجتمعاتهم الخاضعة للهيمنة دونما تطلع للمستقبل . وإن كانت بعض الفئات البورجوازية الهامشية في بريطانيا مثلاً تسافر إلى نُصُب ستونهينج الحجري في اسكتلندا محاولة إحياء شعائر العصر الحجري _ أو ما تتخيل أنه كذلك _ إلا أن ذلك السلوك يبقى هامشياً بين بعض المأزومين من خواء المجتمع الاستهلاكي ليقفوا في صف واحد مع مستخدمي أحدث التقنيات للبحث عن الأشباح أو من يحاولون التواصل مع الأطباق الطائرة. دون أن يتطور الأمر إلى طرح طقوس ستونهينج إلى طرح أيديولوجي. بعكس المغالطة المنهجية التي تتضح في تلك الأطروحات التي ينتمي لها مقال السيد ثيودوروس حين يقع في نفس المغالطة بل الخطيئة مُعْلياً من نتاج التطور التاريخي لمجتمعات الشرق القديم لدرجة التفاخر بأن الأجداد قد زرعوا الكَرْم و عصروا النبيذ!!!حسناً كذلك زرع الصينيون و اليابانيون قديماً الأرز و استخلصوا منها الخمر. بل إن شعوباً كالمايا في المكسيك اعتقدت قبل قرون أن الآلهة قد خلقت الناس من الذرة الذي كان المحصول الأساسي . لكننا لم نشهد بورجوازية مأزومة في أي مكان لدرجة انتزاع ما انتجته مجتمعات الشرق القديم من سياق تطور تلك المجتمعات و اعلاءها لتصبح أيديولوجيا سياسية أو خطاباً ثقافياً سوى في العالم العربي ليصبح ذلك النهج أولى المغالطات التي يتوارثها منتهجي ذك الخط وصولاً للمقال المُشار إليه ومنه تتفرع كل المغالطات.

تقود المغالطة لما تلاها كمقدمة وتعيد انتاج ذاتها كنتيجة. ففرضية الثبات و السُكُون تستدعي ,استسهالاً, فرضية انفصال الظواهر. أو انفصال المجتمعات القديمة و انعزالها . فكما ينعزل وعي المصري القديم و السومري و الكلداني و السرياني و الآشوري و الأمازيغي – وفق تلك الفرضية _ عن تاريخه المُتَمَثِّل في تطور علاقته بمحيطه المادي فيزيقياً كان أو اجتماعياً تاريخياً و الذي ينتج وعيه بتلك العلاقة أو ما يُصْطَلَح عليه بـ(ـسماته الحضارية) . بحيث يظهر هذا النتاج , هكذا, من عدم . فإن المغالطة الثانية : فرضية الانعزال و ارجاع اختلاف المنتج الثقافي للمجتمعات القديمة إلى الاختلاف ذاته . بحيث يتم الاكتفاء بالعنوان (آشوريون / كلدان/ سريان/ كنعانيون/ فينيقيون/ أقباط/ أمازيغ/نوبيون ..إلخ) لتأكيد انفصال الماهيات كترجمة لأزمة البورجوازيات الوكيلة للمستمعر والتي تُدِيرُ لصالحه بنىً سياسية و اقتصادية رثة وهشة بحيث تحتاج إلى (أسطورة تأسيس).و تستند هذه الفرضية أو تلك المُغالطة, المنبثقة عن فرضية الثبات , إلى تجميع الدوائر البورجوازية الرثة المعنية بمحاولة تكوين أسطورة تأسيس , لمعلومات أركيولوجية تتعلق (حصراً) بالكشوفات الأثرية داخل نطاق الحدود السياسية الحديثة للدولة التي تعيش فيها . فكما أنه لا تاريخ قبل ابتكار الكتابة ,وفقاً لتلك المغالطة, أو بمعنى أدق لا تاريخ يؤدي إلى تطور الكتابة كوسيط ناقل للمعرفة المتحصلة عن الوعي كإنعكاس لممارسة المجتمعات القديمة لمهام و احتياجات علاقاتها بمحيطها المادي فيزيقياً كان أو بشرياً. فإنه بالمقابل ليس ثمة تاريخ خارج جغرافية البورجوازية الرثة المعنية بهذا الطرح .(هنا يتم الفصل بين التاريخ كصيرورة تطور وما يمكن أن نطلق عليه مسرح الأحداث أي الجغرافيا كعنصر في تاريخ أي مجتمع).صحيح إن هذه الفرضيات تعترف بـ(ـليبرالية) بوجود مجتمعات أخرى إلا أن هذه الفرضية تنتج مغالطة انقطاع العلاقة في الجغرافيا / المكان كما تنقطع في التاريخ بحيث يبدو انجاز مجتمع ما كالمجتمعات الزراعية في مصر و العراق القديم منفصلاً عن تطور مجتمعات الثورة الزراعية قبل عشرة آلاف عام على الأقل وما سبق ذلك خلال العصرين الحجريين الوسيط و الحديث .ومن ثم تبرز أهمية انفصال و انعزال المصري القديم عن السرياني عن الكنعاني عن الكلداني عن الأمازيغي ..إلخ انعكاساً لخريطة الكيانات السياسية التي تحكمها بحيث يُشَكِّل هذا الوعي الزائف انعكاساً لاحتياجها كضرورة موضوعية لأيديولوجيا قائمة على (أسطورة تأسيس )بحيث يتم الالتفاف على التناقض الرئيسي المُتَمّثِّل في حسم التناقضات الكامنة في قلب تلك الكيانات السياسية الهشة التي تعصف بها العاصفة منذ أعوام. تلك الأيديولوجيا كـ(ـوعي زائف) تستند إلى مقاربة تجميعية لمعطيات بعض حقول الدراسات التاريخية و الأركيولوجية بالذات دون أي محاولة لبناء وعيٍ نسقي بالتاريخ كحركة تطور شاملة قد تعود بدايتها إلى ظهور الانسان منتصب القامة وربما أبعد. ومن ثم فإن العلم ذاته كفيل بدحض الرؤية المثالية المتحصلة عن انتزاع بعض معطياته وتكديسها في حقل الأيديولوجيا .لكن (أي) علم ؟ إنه العلم كمراكمة الوعي الانساني للمعرفة المتحصلة عن إدراك الظواهر ببعضها و تغيرها. لا الاقتصار على التصنيف و تثبيت الظواهر في لحظة معينة من حركتها في صورة جداول و احصائيات. إنه ذلك العلم الذي يدرس جينات القمح من القمح البرِّي إلى القمح المُسْتَأنَس قبل ما يزيد على ثلاثة عشر ألف سنة مستفيداً في دراسته من دراسة العصور المُناخية و الهجرات البشرية عبر تتبع أنماط تكرار الجينات التي يتم انتخابها انعكاساً لعلاقة الكائن البشري بالطبيعة , بغذاءه و بنشاطه الحيوي ..إلخ. فالمسألة هنا تتجاوز فكرة فحص جينات الحمض النووي الوراثي لمومياوات ملوك مصر القديمة من أجل مقارنتها بالحمض النووي للمصريين المعاصرين _ قمة البؤس أن تجد “يساريين ” يروجون لهذا الطرح الذي هو خليقٌ بأن يدون في كتاب كفاحي لأدولف هتلر_ هنا نحن لسنا بصدد “علم ” بل بصدد مقاربة احصائية . ومحض تكديس للوقائع .
العلم هو ما يتجاوز تكديس المعطيات المُتَحَصِّلة عن استفادة الممارسة التجريبية من التطور التقني إلى إدراك علاقات الظواهر محل البحث بتلك التي قد تبدو – ظاهرياً- خارجة عن نطاق التصنيف العلمي الذي تنتمي له . بحيث يتجاوز العلم,كنشاط إنساني واعي , عملية تجميع الملاحظات عن الظواهر المادية .و تجريدها إلى إدراكها كعملية تغير كمّية /كيفية لا يمكن فهم قوانينها إلا بسياقها . و إدراكها كحركة . وعليه فإن عملية تَكَوُّن الإرث الحضاري للمجتمعات القديمة في العالم العربي تخضع لذات القوانين التي يُفسرُ بها أي باحث جاد مثل الأسترالي جوردون تشايلد في أبحاثه عن (ثورة القمح) التي درست التحولات المناخية المتزامنة مع الفترة التي تعود لها أقدم حفريات تحمل جينات (القمح المُسْتأنَس) و علاقة ذلك بالتغيرات التي تنتج على وحدات الحامض النووي الوراثي كمركبات بروتينية (يحتوي البروتين الواحد على نسب مختلفة من العشرين حمضاً أمينياً المعروفة والتي تتألف – في تركيب معقد يجمع بين خصائص البنية القلوية و الحمضية_ من تسعة عشر عنصراً كيميائياً)- وعلى آليات تفسير خلايا الكائن البشري ,كيميائياً, لما تحمله من “شيفرات” . وذلك استجابة للتغيرات في الغذاء و المناخ وما إلى ذلك من عوامل خارجية عن بنية الجين الوراثي . وبالتالي عن البيولوجيا الجزيئية . هكذا مثلاً , بتلك الشمولية , فَسَّر العالم الإيطالي ” لويجي لوكا سفورزا” التمايز الإثني و اللغوي قبل عشرات الآلاف من السنين . رابطاً بين العوامل المُناخية و الهجرات البشرية و التحولات التي تطرأ على البنية الوراثية للجماعات البشرية المهاجرة قبل اكتشاف الزراعة أو المُسْتَقرَّة بعد اكتشافها . راسماً (شجرة تطورية ) متبنياً مقاربة تربط بين الهجرات البشرية التي انطلقت من شرق أفريقيا قبل 60 ألف إلى 100 ألف عام تقريباً (100 ألف عام هي تاريخ اول هجرة لسلالة الـهوموسابينز إلى آسيا انطلاقاً من أفريقيا).و يتضح منهج الربط من خلال مفهوم (المسافة الوراثية).الذي يعتمد على مقاربة تُدْمِج بين الاحصاء الرياضي لعامل وراثي محدد في جماعة بشرية معينة , مُحْتَسِباً معدل تكرار الجين المحدد لهذا العامل في جماعة بشرية ما , ثم يحتسب نفس العامل في الجماعة الأقرب جغرافياً. ويُعطي مثالاً مُبَسَّطاً على ذلك بعامل رايزس في الدم . و الذي تكون الإشارة له موجبة حين يغلف نوع من البروتينات المُسَمَّى (أنتيجين) سطح كُرَيَّات الدم الحمراء . ويكون العامل سالباً حين لا يُغَلِّف ذلك البروتين سطح الكُرَيَّات الحمراء.وكما يقول العالم “لويجي لوكا سفورزا” فإن هذا العامل يعطي مثالاً مثيراً للمسافات الوراثية في أوروبا , فعلى سبيل المثال كان معدل تكرار الأفراد حاملي عامل رايزس السالب 41.1% في بريطانيا و في فرنسا 41.2% وفي يوغوسلافيا السابقة 40% وفي بلغاريا 37% وفي إقليم الباسك 50% . كيف إذاً يتم احتساب المسافة الوراثية . من خلال الفوارق بين معدلات التكرار . فتكون المسافة الوراثية بين فرنسا و بريطانيا 0.1% . و تكون المسافة بين الانجليز و أبناء يوغوسلافيا السابقة 1.1% ولكنها تكون شاسعة بين الانجليز و الباسك 9.1%. هنا نحن بصدد مقاربة للمعطيات مختلفة تماماً عن مقاربة القفز التاريخي و مقارنة نتائج تحليل الحامض النووي الوراثي في المومياوات المصرية القديمة ومقارنتها بالمصريين المعاصرين . إنها مقاربة تحاول قراءة سياق الماضي من خلال معطيات الحاضر بواسطة إدراك الظروف الموضوعية التي أنتجت الماضي بمعطياته التي وصلت إلينا . واستخدام المسافة الوراثية لإدراك خط الهجرات البشرية . بدلاً من محاولة إعادة اثبات النظرية العرقية التي عفا عليها الزمن والتي لا يقل عنها سخفاً سوى محاولات اثبات نقاء الهوية كإنعكاس ميكانيكي للنقاء الوراثي . فالنقاء الوراثي يفترض , كمقدمة , انعزال الجماعات البشرية عن بعضها . وهي فرضية تنسفها كل الأبحاث المتعلقة بالهجرات البشرية القديمة نسفاً, صحيح أن تجمعات العصر الحجري الحديث قد بدأت في التمايز المحلي ,كما يلاحظ الأركيولوجي جلين إيزاك , بحيث أن اللغة البشرية قد بدأت في التَعَقُّد قبل 100 إلى 150 ألف عام تقريباً . ومع بداية الهجرات من أفريقيا قبل 60 إلى 70 ألف عام تقريباً باتجاه آسيا ثم أوروبا أو جزر فيجي مابعد استراليا . فإنه مع اتساع نطاق الهجرات أخذت الأدوات التي تستعملها التجمعات البشرية تتنوع تبعاً لكل بيئة و بالتالي تتسع المفردات المُسْتَخْدَمة لنصل إلى مرحلة التنوع اللغوي , فاللغة ليست بضعة كلمات . هي نسق مترابط يحتوي في داخله (منطق) تحمل الجملة دائماً في أي لغة معنىً و مغزى يعتمد على مقدمة و نتيجة . و تأخذ عملية تشكلها زمناً طويلاً بحيث لا يكفي مقارنة لغة بأخرى أو لهجة بأخرى أن تقرأ جدولاً للمقارنة بين المفردات صادف وقت فراغك و وافق هواك أثناء تصفحك للإنترنت . ومن ثم فإن تخطي المقاربة السُكُونية الشكلانية المُتَمَثِّلة في مقارنة المعطيات – كمقارنة البناء الكيميائي لجينات الحامض النووي الوراثي قديماً و حديثاً – نحو مقاربة أكثر شمولية من حيث فهم العلاقات بين ظواهر قد تبدو , من حيث التصنيف لأفرع البحث العلمي والتي لا يمكن إنكار ضرورتها , منفصلة كعلاقة الهجرات البشرية بالمُنَاخ و النشاط الاقتصادي للمجموعات البشرية .هو ما يجعل من الوعي بالتاريخ كحركة أو صيرورة تطور المجتمعات البشرية مختلفاً عن المنهجية (التأريخية) السائدة التي تتمثل الأدوات التي استنبطها الوعي خلال علاقته بذلك التارخ منتجاً عدداً من التصنيفات و المفاهيم . وهي مسألة قد تبدو فلسفيةً أو بعيدة الصلة بسياق الرد على الأطروحات الليبرالية التي تحاول اجتزاء مراحل معينة من ذلك تاريخ شعوب المنطقة و طرحها كشعار سياسي في سياق محاولاتها لتبرير الانعزالية السياسية . ومن ثم فإن عقد المقارنة بين العلم كوعي متراكم يتسم بالشمولية و الجدلية في مقابل تكديس المعطيات المبنية على التطور التقني وحسب لا يعد انعطافاً نحو مناقشة فلسفية بعيداً عن المغزى السياسي بقدر ماهي محاولة للتصدي لاختزال العلم في البيانات كعلم زائف . وكذلك بنقد الأدوات المنهجية لتلك الأطروحات من حيث نزوعها لاستلاب انعكاس علاقة المجتمعات بمحيطها المادي و تطور تلك العلاقة الجدلية لتبني عليها طرحها الطوباوي. و كما أن العلم , من حيث كونه سعياً لاكتشاف الظواهر وعلاقاتها لا مجرد تسجيل الملاحظات و تكديسها و إيراد ما سُجِّلَ منها مُنْتَزَعاَ ليُطْرَح كشعار , قد يحفر عميقاً نحو تتبع معدلات تكرار جين وراثي معين ليقارنها بالجماعات البشرية المتجاورة جغرافياً في سبيل تتبع خط الهجرات البشرية . أي أن الرجوع في (خط الزمن) رأسياً يستلزم توسعاً (أُفُقياً) لتتبع تحولات الحمض النووي الوراثي في سياق تَنَقُّل الجماعات البشرية المختلفة في المكان . و بما أنَّ العلم كسعي لاكتشاف الظواهر و علاقاتها يمتد ليشمل انعكاسات ماهو فيزيائي منها في ماهو إنساني . بما يشمل الناتج الفكري للمجتمعات القديمة في العالم العربي كمحصلة محاولاتها لاكتشاف و تطويع و تنظيم علاقاتها بمحيطها المادي .وبالفعل إن القراءة السريعة و العابرة للميثولوجيا المصرية القديمة قد تُعْلِي ما بها من سمات التَفَرُّد عما سواها من حضارات.هذا صحيح ولا يمكن إنكاره بالمُطْلَق إلا أن هذا التَفَرُّد يتجلى كتفرد الجزء عن الكُل و الخاص عن العام خلال أي مقاربة دقيقة تعتمد على الميثولوجيا المُقارَنَة اعتماداً على المراجع التي دَرَسَت ثقافات ال القديم , بدايةً من رسومات جدران الكهوف في العصر الحجري وصولاً إلى كنائس المسيحية في أوروبا القروسطية .مثل المرجع الضخم الذي أَلَّفَهُ الباحث الروماني في مجال الميثولوجيا “ميرتشا إلياد” ” تحت عنوان “تاريخ الأديان و المُعْتَقَدات القديمة” في ثلاثة أجزاء ضخمة . مُسْتَعيناً بالتحليل المادي /التاريخي و مُقَارناً السمات العامة لأساطير الحضارات الزراعية مثلاً حيث يورد أمثلة مثيرة للدهشة على تشابه انعكاسات علاقة تلك المجتمعات بالطبيعة من خلال مثال حي : استخراج الحديد بدايةً من العصر الحجري الحديث . فهو يورد اللفظ السومري القديم الدَّال على الحديد “آن- بار” والذي كان يُكْتَب بالإشارتين الدَّالتيْن على السماء و النار , في إشارة واضحة على الأصل النيزكي للحديد المُسْتخْدَم آنذاك أيضاً في مصر القديمة و بلاد الحيثيين التي يدل أحد النصوص التي ترجع للقرن الرابع عشر قبل الميلاد أن ملوكها استعملوا الحديد الأسود من السماء . وحتى مع التراكم التقني آنذاك ومع استخلاص الحديد من خام أكسيد الحديد المغناطيسي ( المغناتيت ) أو ما يُعْرَف بـ(ـحجر الدَّم : الهيماتيت ). فإنه و امتداداً لما اكتسبته عملية استخراج الحديد من النيازك الهابطة من السماء من قداسة لأصلها السماوي . فإن عملية استخراج الحديد من الخامات المتوفرة قرب سطح الأرض قد اكتسب بعضاً من ذات القداسة بحيث اقترنت عملية استخلاصه بطقوس خاصة في كل الحضارات تقريباً .لأصلها الأرضي المُعَادل الموضوعي للأم /الأنثى . بحيث تَشّكَّلَت أساطير متشابهة تتعلق بكافة عمليات تحويل المادة من صورة لأخرى سواء كانت باستخلال معدن ما من خام معين باستخدام النار أو العمليات الكيميائية الأكثر تطوراً . مما أدى مثلاً لإرتباط كثير من الأنشطة المشابهة كإنتاج الأملاح اللازمة للتحنيط في مصر القديمة و استخدامها بالفئة الاجتماعية المسئولة عن الارتباط بين ماهو مُقَدَّس وما هو دنيوي , أي الكهنة .فقد كان المُقّدَّس شكل من أشكال وعي المجتمع بماهو دنيوي/ طبيعي/ فيزيقي . محاولةً لتفسير تغيره و تطويعه بالغيبيات أو بالوسائل المادية بحيث لم تكن المُعْتَقَدات الدينية في مصر القديمة أو غيرها محض تأمل فلسفي أو شاعري بقدر ماكانت علاقة مادية و انعكاس لتلك العلاقة ومحاولة لفهم تلك العلاقة و محاولة لتطويعها في آنٍ معاً. بل و ينتشر ما يتشابه من نتاج وعي تلك المجتمعات بجزئية بسيطة كالحديد مثلاً بشكل مدهش , وفي هذا الصدد يورد الباحث الروماني في الصفحة 74 من الجزء الأول أمثلة تتعلق بصناعة (كوشهار و هاريس : المستقيم و المخادع) الكنعانيان للإله “بعل” الدَبوسَيْن الذين قتل بهما “يام : إله البحر و المياه ” . كما صنع “بتاح –الإله الخَزَّاف ” الأسلحة اللازمة لحور-آختي ( حوريس في الترجمة الاغريقية الشائعة حالياً) لهزيمة (ست).وهكذا فإن مسألة تطويع المادة تأخذ من القداسة حداً في الأسطورتين المصرية و الكنعانية درجة شديدة من التشابه من القداسة بحيث تكون على مستوىً عالٍ من الأهمية بحيث تكون مساعداً للآلهة في معارك مصيرية توقف عليها مصير الكَوْن فعلياً من وجهة نظر الأسطورة. أي أن السيطرة على المادة و تطويعها و فهم صيرورة انتقالها من حالة لأخرى اندمجت بما هو مقدس وصار ماهو مادي دنيوي مُقدساً و صار المُقَدَّس شأناً يومياً كعمل حرفي. أضف لذلك التشابه الواضح لأساطير تجدد الدورة الزراعية التي يقترن فيها بعث الإله بعودة النهار و بموسم الحصاد ( أوزير و إيسيت في مصر القديمة – تموز في العراق – بعل في الهلال الخصيب) في المنطقة المُمْتَدة بين العراق القديم و سوريا القديمة المُنْتَمية لغوياً لمجموعة اللغات الأفروآسيوية وفقاً للشجرة اللغوية/الوراثية التي يقدمها العالم الإيطالي لويجي لوكا سفورزا في كتابه ” الجينات و الشعوب واللغات” المبني على كمية هائلة من البيانات من شتى المجالات المعرفية . مروراً بمصر القديمة المُنْتَمية لمجموعة اللغات النيلوصحراوية ( اللغات الممتدة في وادي النيل و الصحراء الكبرى بما يشمل المغرب العربي حالياً و شرق أفريقيا) والتي تشترك في معبود رئيسي (آمون) مع الميثولوجيا السائدة في شمال أفريقيا قبل آلاف السنين . من الصعب هنا التحدث عن هويات حضارية مُنْفَصِلة .هويات متمايزة على سبيل الانفصال التام . الشئ لذاته بلغة الفلسفة .إلا إن كنا مُصِرِّين على تناول البيانات و النصوص القديمة المُتَرْجَمة على طريقة الجمع و الإلتقاط . واستلابها من سياقها المادي الذي أنتجها و انتزاع السمات الخاصة لكل مجتمع من انتماؤه للتفاعل المُشْتَرك الطويل العام و الكُلَّي لتلك المجتمعات بحيث لا يتميز الخاص و الجزئي إلا في إطار العام الذي يحدد خصوصيته والذي يشتمل ,أي الخاص و الجزئي , على سمات العام في مكوناته بحيث يكون العام و الكُلِّي على عموميته جزءاً وسمة خاصة ضمن كل ماهو جزئي وخاص. أي أن ننطلق من فرضية الانقطاع في الزمان , أي عدم تصور علاقة بين المُنْتج الحضاري للمجتمعات القديمة في العالم العربي . بل وفي شتى أنحاء العالم , وبين الفترات السابقة عليه المُمْتدة قديماً في الزمان حتى أقدم حفرية مُكْتَشَفة عائدة للعصور الحجرية و المُنْتَشِرة في المكان بقدر ما انتشرت حركة هجرة الجماعات البشرية .لندخل في فرضية استلاب ماهو فكري/ثقافي/أسطوري في حياة تلك المجتمعات عن حياتها المادية اليومية لنكتفي بالأسطورة أو النص في صورته الرمزية بدلاً من ردها لأصلها كممارسة للوعي بالمادة و محاولة تطويعها و انعكاس تلك المحاولة في فهم العلاقة بالمحيط المادي ومحاولة تطويعه ,كقانون عام يفسر وعي تلك المجتمعات بمحيطها المادي فيزيائياً كان أو إنسانياً والذي يُسْتَلَب كهويات منفصلة مُنْغَلِقة . وتلك هي الفرضية أو المغالطة أو الخطيئة الثالثة والتي تتضمن في جوهرها نفس المُنْطَلَق . السُكُون و المَيْل للتصنيف على أساس الماهيات المُفْتَرَضة التي تتضمن خصائصها في ذاتها دون أي امكانية لمقاربة تلك (الماهيات) كعمليات تَشَكُّل طويلة . بحيث يتوقف طرح التساؤلات عند المرحلة التاريخية التي ينتزعها الليبرالي من سياقها ليطرحها كهوية و كمشروع سياسي .ليبني منها جداراً يحمي الكيان السياسي المُحَدَّد الدور وظيفياً , دولته التابعة . ليجعل من تلك الهوية أسطورة تأسيس لتلك الدولة ليتهرب من مواجهة التناقض الفعلي حول استقلال دولته الحديثة بالهروب نحو تصور ماضوي طوباوي لدولة قديمة يتم استدعاء صورتها المثالية تماماً كما يفعل أي خطيب مسجد سلفي حين يستدعي “أمجاد الخلافة الإسلامية” لينتهي به المطاف شوفينياً .
تتضمن الفرضيات/ المغالطات السابقة في ثناياها مغالطة القطع البنيوي .فجأة يختفي الأقباط و يأتي العرب فجأة . وكذلك السريان و الأمازيغ . قياساً على ذلك : تختفي المادة/الكُتْلَة/ الطاقة و تستحيل عدماً أو تظهر بغتةً من عَدَم. أي أَنَّه و انبثاقاً من فرضيات انقطاع ممارسة المُجتمع لسعيه نحو فهم علاقته بالمادة بمظهريّ وجودها الفيزيائي والإنساني بحيث تغدو حالةً متفردةً لا مقدمات تاريخية لها في العصور التي تُعْرف بعصور ماقبل التاريخ . و بالتالي لا علاقة لها بالمجتمعات المحيطة بها. فلا سببية في الزمن تربط بين مقدمةٍ و نتيجة,ولا قانون عام يُفَسِّرُ المتشابه من السمات التي تشتمل عليها الحالات الخاصة لكل مجتمع. فلا يعود “الباحث” معنياً باكتشاف ذلك القانون العام الذي يفسر التشابه في نظرة الأسطورة الكنعانية و المصرية و السومرية لصناعة الحديد أو التشابه في أساطير التجدد الدوري للطبيعة في مصر القديمة و العراق و الهلال الخصيب. فهو غير معني إلا بتجميع الأساطير (كنصوص) تماماً كما يجمع ما قد يتوفر عن التقدم المعرفي للمجتمعات القديمة كمحصلة عبقريات انبثقت من العدم دون محاولة اكتشاف مقدماتها و أساسها المادي . فكل لحظة تاريخية عنده مُسْتّلَبَة , مجرد نص أو مُعْطى بياني أو شظايا حفريات متناثرة تُجْمَع وتُكَدَّس لتعطي صورة عن التاريخ لا وعياً بالتاريخ . ومن ثم فإن ما يربط أجزاء ذلك الوعي المُشَتَّت هو التَشَتُّت وما يجمع شظاياه هو سمة التَشَظِّي . ومن ثم فحين يحين وقت يُهَدَّد فيه كياناً سياسياً في المنطقة العربية فإن الليبرالي لا ينفذ إلى مافي بنية ذلك الكيان من عوامل تهدده بقدر ما يحاول إعادة إنتاج “أسطورة تأسيس” تُنَحِّي العوامل الموضوعية لنشأة الكيان السياسي و إنهياره جانباً _تماماً كما تنحي الأسطورة , كوعي زائف, ماهو مادي و دنيوي في استخراج الحديد , جانباً لتحيل من ذلك الوعي نفسه ضرورة لذاته و كذا فإن الدولة المُهَدَّدة تبحث بورجوازيتها عن أسطورة تأسيس تعفيها من استكمال مهام استقلال تلك الدولة و شروط بقاءها إلى النهاية .بحيث تصبح تلك المرحلة التي تعايش فيها الدول العربية تهديداً حقيقياً مُسْتَلَبة هي الأخرى عن سياقها و عن مقدماتها . مجرد انقطاع في تاريخ البنية المُهَددة تُقَارن بلحظة انقطاع مُتَخَيَّلَة أخرى . هي لحظة ظهور القبائل العربية في التاريخ . والتي يسوقها السلفي الهويَّتي / العلماني / الحداثوي منطلقاً من نفس الفرضيات التي تنطلق منها الرواية الدينية الإسلامية التي يزعم تناقضه معها . فكما يصور الاستدعاء السلفي المُسْتَلِب و المُنْتَزِع للـ(ـفتوحات الإسلامية) من أي سياق سابق عليها في تاريخ شبه الجزيرة العربية _ المجهول بنسبة كبيرة _ و علاقاتها بمحيطها قبل قرون من تلك اللحظة . يستدعي “الحداثي” تلك اللحظة بنفس منطق الانبثاق من العدم . أو الاستحداث من العدم بلغة الفيزياء كتصور منافي لأبسط قوانين المادة و أكثرها بديهية .
ينطلق السلفي الديني و السلفي الهويَّتي صاحب أسطورة الهوية الحضارية العابرة للتاريخ في طرحهما لمسألة ( الفتوحات الاسلامية/ الغزو العربي ) من مقاربة ميتافيزيقية واحدة . فكما أن انتزاع مراحل التاريخ من تاريخها قد حَتَّم تسمية تلك المراحل التي لا نملك القدرة على فك رموز ما أنتجته مجتمعاتها من بنيات رمزية كوسائط لنقل انعكاسات علاقاتها بالواقع المادي في الوعي , أي المعرفة , بفترات (ما قبل التاريخ ) بحيث لا يمكن مع ذلك اكتشاف السياق الذي أَدَّى لاستنباط البشر لآليات أكثر بساطة كالكتابة خلال تلك الفترات التي يسميها التأريخيون بالـ(ـتاريخ) فكأن التاريخ نفسه قد انبثق من العدم كحركة انطلقت من سكون . فإن هذا الوعي التأريخي اللاتاريخي يعيد اسقاط تصوراته على كافة المراحل التي يسلبها تاريخيتها بحيث تصبح التصورات اللاتاريخية لكل مرحلة وقد انْتُزِعَت لتُضَمَّن في مجمل ذلك الوعي الزائف نفسه. بحيث يُصبح كل تصور حاملاً لسمات ذلك الوعي من تَشّتُّت بحيث يتراكم كمياً لينتج كيفاً جديداً من عدم الاتساق.وهكذا يلتقي كلاً من الليبرالي و السلفي في رؤية واحدة لتاريخ شبه الجزيرة العربية و علاقتها بما حولها.فكما يُنْتِج نقص المعرفة بالفترات السابقة على تَشَكُّل البنى السياسية للمجتمعات الزراعية و آليات نقل المعرفة فيها , وعياً زائفاً بانقطاع السياق التاريخي بظهور الكتابة بشكل مفاجئ. فإن كلاً من الليبرالي / السلفي الهويتي و السلفي الاسلامي يلتقيان في ذلك.