الأحزاب الثورية والأحزاب الإصلاحية

جورج حدادين

الأحزاب بنى اجتماعية وظيفية، تشكل إطار لمجموعة من الأشخاص الفاعلين، تشترك في حمل مشروع موحد يمثل مصالح شريحة أو طبقة، حيث تتمايز مصالح الشريحة والطبقة بحسب موقعها في تقسيم العمل، وبناء عليه تتبنى الأحزاب المختلفة، التي تمثل شرائح وطبقات مختلفة، أيديولوجيات متباينة، تعبر عن رؤى متباينة  تتناقض وتتصارع وتتنافس وتتكامل.

الحزب تنظيم سياسي، إطار يضم في صفوفه نشطاء طبقة اجتماعية بعينها أو شريحة اجتماعية بعينها، يعبر عن مصالحها واهدافها، ويقود نضالها في سبيل تحقيق أهدافها وغاياتها، وبحسب الموقع في عملية الإنتاج، وطبيعة الصراع حول توزيع مردود الثروة المنتجة وطنيا (بجهد الكادحين) يتخذ التناقض بين الشرائح والطبقات، صفة التناقض التناحري أو صفة التناقض التنافسي.

في مرحلة التحرر الوطني، التحرر من الاحتلال أو الاستعمار المباشر أو غير المباشر، أو كسر التبعية للمركز الرأسمالي العالمي المهيمن، تتمايز الأحزاب فيما بينها بناء على جذريتها في هذا الصراع، ومدى قدرتها على الاستمرار في الصراع مع المركز حتى النهاية.

التمييز بين الأحزاب الإصلاحية والأحزاب الثورية، يستند إلى الاستعداد والقدرة  على السير في طريق التحرر الوطني الحقيقي حتى الإنجاز النهائي للمهمات المطروحة على جدول أعمال النضال:

تحديد العناصر المحددة التي تميز الاحزاب الثورية عن الاحزاب الاصلاحية.

سمة المرحلة ومهماتها هي التي تحدد طبيعة الحزب القادر على حمل مشروع المرحلة، وليس الرغبة  الثورية أو الاصلاحية.

أهمية الوعي الإيديولوجي، كعنصر فاعل في تفجير الطاقات الشعبية، والتي بدورها تعتبر الشرط الرئيس لإنجاز مهمات المرحلة.

ففي دول المركز، الدول الرأسمالية، تقوم الاحزاب بمهمة الدفاع عن مصالح الطبقة أو الشريحة التي تمثلها حصرا، حيث الطبقات والشرائح الاجتماعية متمايزه ومصالحها متبلورة ( الطبقة تتألف من شرائح متمايزة المصالح فيما بينها)، في حين أن الاحزاب في الدول التابعة، دول المحيط، تمثل مصالح  الوطن والمجتمع و/أو الأمة، ومهمتها تحديدا، تنحصر في هذه المرحلة بالذات، في انجاز مهمات مرحلة التحرر الوطني، المرتبطة بمهمات التحرر الاجتماعي، والتي تتمثل في تحرير الإرادة السياسية، تحرير المقدرات الوطنية والثروات الطبيعية، بناء الاقتصاد الوطني المنتج، تحقيق الاستقلال الوطني الناجز، تحقيق وحدة الأمة، والقضاء على التخلف والفقر والمرض والجهل، وبناء المجتمع الذي يؤمن لأبنائه الكرامة الإنسانية والحياة الكريمة، ويحقق مبدأ لكل حسب جهده، ويؤمن الازدهار والتقدم الاجتماعي، ويعمم منظومة القيم الإنسانية النبيلة في صفوف المجتمع.

في مجرى الصراع مع قوى الهيمنة والاستعباد والاستعمار والتبعية، ونتيجة لشراسة هذا الصراع وتعقده، تتمايز تدريجيا مواقف ومنطلقات تلك القوى، بالرغم من كونها جميعا قد انطلقت في بدء المسيرة من الاهداف الوطنية المشتركة، والمتمثلة بانجاز مهمات التحرر والاستقلال، فطرف من هذه القوى ونتيجة المصالح الانانية الضيقة، والنفس القصير، يتوقف عن الصراع في محطة معينة، ويبدأ بتبرير موقفه هذا “بالعقلانية” و “الموضوعية” و”اختلال موازين القوى”، وأن الناس “لا تستطيع أن تتحمل اكثر”، وأن الوقت قد حان “لتجربة وسائل جديده”… الخ، ومنها، أي من هذه القوى، من يتواءم مع شروط العدو، تحت شعار خذ وطالب، أو تحت حجة التحالف مع الشيطان للحصول على “الحقوق”.

 وتبقى قوى من هذا الطيف الواسع، تؤمن بالطاقة الكامنة في الشعب ، وتؤمن بالحقوق الوطنية المقدسة، وتؤمن بأن موازين القوى الراهن ليس بدائم، وتؤمن بأن قوى الهيمنة والاستعمار لا تستطيع ان تغتصب التاريخ بالقوة، ألاّ لفترة محدودة، ولا تستطيع ان تتعالى على فعل التاريخ الى ما لا نهاية، ولا تستطيع  فرض قوانين الفوضى داخل السوق والمجتمعات لفترة طويلة، بدون أن تخلق ازماتها المتدرجة نحو نفيها الفزيولوجي النهائي.

ففي المحصلة، تأخذ عملية التمايز والفرز بين القوى الاجتماعية المختلفة، وممثليها المعلنين أو المستترين، مجراها الطبيعي والحتمي، ويبدأ التمايز والانفصال داخل صفوف حركة التحرر الواحدة، بين قوى (احزاب) ثورية وقوى (احزاب) اصلاحية، وتحديدا في الدول التابعة، على قاعدة العوامل المحدّدة التالية:

الموقف من “علاقات الانتاج” داخل المجتمع، وهي منظومة تشمل شكل ملكية وسائل الانتاج،

الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، تنتج علاقات صراعية تناحرية داخل المجتمع، تتمحور حول كيفية توزيع الثروة المنتجة في المجتمع، بين من يملك وسائل الانتاج والسلطة ولا ينتج، وبين من يبيع قوة عمله وينتج، ولكنه لا يملك.

بينما تنتج الملكية الاجتماعية لوسائل الانتاج، علاقات انسانية متمحورة حول الانسان واحتياجاته المادية والروحية، حيث يخدم النشاط الاجتماعي الذي ينتج الثروة الوطنية، حصرا احتياجات الانسان وبيئته، وعليه فأن الذي يميز قوى التغيير الحقيقية( الثورية ) ، عن القوى الإصلاحية، مدى العمل الجاد المبذول من أجل تغيير علاقات الانتاج ( وليس تغيير علاقات توزيع الانتاج)،  وتحديدا شكل ملكية وسائل الانتاج، لتحويلها الى ملكية اجتماعية، منتجة لثروة وطنية يعاد انتاجها في خطط تنموية وطنية حقيقية،

الموقف من علاقة التبعية لمراكز رأس المال العالمية، كونه العامل المحدد للتطور اللاحق للمجتمعات والدول التابعة، وشرطية كسر التبعية، هي المقدمة الحقيقية والمدخل الوحيد لتحقيق الاستقلال الناجز.

الموقف من قوى التبعية المحلية، تعتمد قوى المركز في انفاذ مصالحها واهدافها وغاياتها على تكريس سلطة شريحة صغيرة (بيروقراطية مدنية وعسكرية، كمبرادور “سماسرة”، كبار ملاك الاراضي، وكبار التجار) على كافة شرائح الشعب الأخرى، والهيمنة على ثروات الوطن. في الدول التابعة عموما، والتبعية شكل آخر للاستعمار العبودي، يعمل هذاالتحالف الطبقي الحاكم على توظيف الدولة التابعة والمجتمع التابع لخدمة مصالح المركز الرأسمالي، وليس لخدمة مصالح الوطن والشعب..

الموقف من قوانين التطور والصراع، حددت الدراسات العلمية، وتحديدا علم الاجتماع، قوانين تطور المجتمعات، حيث اكتثفت بأن التطور لا يتم بطريقة عشوائية وفوضوية، بل يخضع لقوانين علمية، على غرار القوانين التي اكتشفت في العلوم الطبيعية: الكيمياء  والفيزياء والاحياء والكون والفضاء الخ. وليس بصدفة أن اكتشاف  القوانين الاجتماعية جاء لاحقا لأكتشاف قوانين العلوم الطبيعية، بعد مرحلة التنوير، وسيادة قدرة العقل على تطويع الطبيعة لصالح البشرية. العنصر المحدد لطبيعة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية هو وسيلة الانتاج، والتمايز والفرز الطبقي بين صفوف الشعب تتحدد بدرجة تطور وسائل الانتاج، والصراع داخل المجتمع ومع الخارج يتم على ارضية السيطرة على الثروات والموارد الطبيعية، والثروة المنتجة، وطريقة توزيع هذه الثروة. فالصراع حول هذه القضايا، يخلق مستويات مختلفة من التناقضات، واطراف متعددة للصراع، فهناك التناقض التناحري، الذي يفرض نفي طرفا للطرف الآخر، فقضايا الاستعمار والتبعية تخضع لقانون الصراع التناحري، في حين أن التناقض بين اطراف حركات التحرر الوطني والقومي والعالمي، هي تناقضات ثانوية تحل بالحوار وبالطرق السلمية. فالخلط بين هذه التناقضات تقود في النتيجة الى دمار في مسار التحرر، وتقود بعض قوى التحرر الى الارتماء في احضان معسكر العدو. الاصطفاف الواضح في هذا الصراع هو بين معسكرين بينين، معسكر الاعداء: مراكز رأسالمال العالمي و قوى التبعية والحركة الصهيونية، ومعسكر التحرر (الاصدقاء) الذي يتشكل من: كافة قوى التحرر الوطني والقومي والعالمي.

الموقف من الايديولوجيا: الايديولوجية، جزء من الوعي الاجتماعي، تتحدد بظروف حياة المجتمع، وهي نسق من الآراء والافكار والنظريات السياسية والحقوقية والدينية والاخلاقية والجمالية والفلسفية. فالايديولوجيا هي القوة القادرة على حشد الجماهير وشحنها، والايدولوجيا النهضوية التقدمية هي شرطا لتفجير الطاقات الشعبية الهائلة المختزنة، وتوظيفها في انجاز مهمة التحرر والاستقلال، وإحداث التنمية الحقيقية.

الموقف من الابداع والابتكار: من اشد الأمور تعقيدا، في مراحل الصراع حول التحرر والاستقلال، هي في استنباط وابداع وسائل واساليب نضال ملائمة  لكل مرحلة، وخاصة في مراحل تختل فيها موازين القوى  تماما لصالح معسكر الاعداء، سواء كان على الصعيد المحلي أو على الصعيد العالمي. أن مقتل حركات التحرر يكمن في الركون الى ردات الفعل، وليس الاستباق بالفعل، ورفع شعارات واعلان مواقف دون انتاج آليات، وهيمنة الكسل الفكري وحجز الابداع، وحجز مقاعد قيادية أبدية لصالح ما يسمى بالقيادة التاريخية الملهمة، التي تنتج عقما، لا يسمح بولادة قيادات شابة تطلع بمهمة التجديد. يمكن تلخيص بعض مظاهر الخلل لدى هذه القوى بما يلي:

أولا-  في تخليها عن المبادرة، في استنباط الوسائل والاساليب الملائمة لكل مرحلة من مراحل النضال، واتباع نهج ردات الفعل على فعل معسكر الاعداء، التي تكون عادة محسوبة ومتوقعة من قبله، خاصة وأن عملية تدجين قد حصلت لبعض قوى التحرر،  مرت ضمن مسار معد ومرسوم مسبقا.

ثانيا- خلل في العلاقة مع جماهيرها، حيث تصبح النظرة الاستعمالية في العلاقة مع الجماهير مقتلا، تتطور جدليا الى علاقة تواطئ بين الطرفين، حيث تصبح نظرة الجماهير الى هذه القوى، أنها قوى خدمية، وليس قوى تمثل اهدافها وطموحاتها ومصالحها، لفتح الطريق أمام التطور والتقدم والرقي والغد الأفضل، تماما كما هو واقع الحال حيال نظرة جماهير شعبنا الى المجلس النيابي كمؤسسة خدمية، وليس مؤسسة تمثل طموحه وغاياته واهدافه. وهذه المعادلة في العلاقة تقود أيضا الى عزلتها، أي القوى، عن العناصر الشابة في المجتمع، مما يؤدي الى شيخوخة هذه القوى وفنائها.

ثالثا- سذاجة في ادارة الصراع، فبينما يمتلك معسكر الاعداء قوى مادية وعسكرية طاغية، اضافة الى جرعة عالية من عدم الاخلاق واللاانسانية، وقدرة فائقة على تزييف الوعي الفردي والجمعي للمجتمعات، نتيجة امتلاكة ماكنة اعلامية هائلة، قادرة على صناعة رأي عام حول موضوعاته الباطلة، فالصراع ضد هكذا عدو يتطلب من قوى التحرر، قدرة فائقة من الذكاء، وايمان لا يتزعزع  بالاهداف والغايات والطموح، وثقافة تاريخية عميقة.