وداعاً هيكل وداعاً جمال عبد الناصر…

ثريا عاصي

وداعاً جمال عبد الناصر! توفّي منذ أربعة أيام الكاتب السياسي محمد حسنين هيكل. أعتقد أنّه لاقى من الوقت متّسعاً حتى يروي لنا بصراحة كامل القصة، التي كشف في آخر فصولها أنّ الحكومة المصرية أساءت إلى سوريا عندما تخلّت عنها أثناء حرب 1973، وتخلّت عن مصر في الوقت نفسه. أساءت إلى سوريا مرة ثانية لأنّها تخلفت عن نصرتها في الحرب التي تتعرّض لها بوساطة العثمانيين الجدد وآل سعود، نيابة عن الإمبريالية الأميركية وعن المستعمرين الإسرائيليين.
قال هيكل: إنّ ما يهمّ الأخيرين هو الهلال الخصيب، أي سوريا والعراق. الخطر لن يأتي من إيران، وإنّما مصدره المستعمرون الإسرائيليون! هذا ما حملني على أن أتساءل لماذا ياترى خرج علينا عرّابو «ثوار» آل سعود والعثمانيين الجدد بمقولة تحذرنا من خطر «الهلال الشيعي»، ولا سيّما أنّ هذا الأخير يغطّي، بحسب مفهومهم، «الهلال الخصيب». هل خوفهم على «الهلال الخصيب» هو من «الهلال الشيعي» وليس من المستعمرين الإسرائيليين؟ هل أنّ هذه التسمية، أو هذا التعيين الذي يساوي ضمنياً الوصم بالخروج عن الدين، هو وليد الصدفة أو أنّه عنوان لسيرورة بدأت بتكتّل بعض الدول العربية، الخليجية زائد مصر، التي أرادت سلوك «نهج الاعتدال» في مسألة الصراع مع الاستعمار الإسرائيلي؟ يحسن التذكير هنا أنّ الرئيس المصري الأسبق أنور السادات كان قد أعلن حرب 1973 آخر الحروب. طبعاً أعفى نفسه آنذاك من تبيان ذلك أمام الناس الذين لم يفهموا لماذا حاربوا، ولماذا يطلب منهم الرئيس أن لا يدافعوا عن أنفسهم إذا هوجموا، وأن لا يلجؤوا إلى الحرب إذا رفض المستعمرون إعادة ما «أخذوه منهم بالقوة». كان الرئيس السادات رئيساً سلطاناً، والرئيس السلطان يعلم ما لا تعلمون!
من المعروف الآن، أنّه كان منتظراً أن يوصل «نهج الاعتدال» جميع الدول العربية إلى تطبيع العلاقات مع دولة المستعمرين الإٍسرائيليين، ولكن هذا لم يحدث، وبالتالي من المرجح استناداً إليه، أنّ «الثورة» التي تزامن اشتعالها في عدد من البلدان، هي في جوهرها حرب على الذين لم يقبلوا «التطبيع» دون قيد أو شرط.
بصراحة، أنا على يقين من أنّنا حيال حرب ساحتها «الهلال الخصيب»، والغاية منها إزالة العوائق المتمثّلة بالذين يعترضون على التطبيع أملاً بتأسيس «شراكة» حقيقية بين إسرائيل وتركيا، والدول الخليجية. فهؤلاء الأخيرون يتوهّمون أنّ العلاقة بإسرائيل مفيدة مهما كانت كلفتها، فإسرائيل، بحسب ظنّهم، هي طوق النجاة الذي يقيهم طمع الولايات المتحدة الأميركية ! أقل ما يُقال في الذهنية البدوية هو إنّها حسيرة النظر.

أعود إلى الأستاذ محمد حسنين هيكل، لأقول إنّ الرجل يستحق منا عرفان الجميل، فلقد قضى السنوات الأخيرة من عمره يروي لنا ما حدث في الفترة ما بين «23 يوليو 1952»، تاريخ سقوط الملكية في مصر، وبين «6 أكتوبر 1973» تاريخ آخر الحروب، وانتهاء الناصرية.
أفرد الأستاذ هيكل في روايته لتاريخنا عدة فصول للسياسة الناصرية القومية العربية، حيث أنّه كان مستحيلاً أن تتعرّض سوريا، كما يحدث اليوم، لعدوان توسّعي من جانب تركيا من دون أن تحرّك مصر ساكناً. تتوجب الملاحظة هنا أنّ الأستاذ هيكل دان بأقوى العبارات موقف الرئيس المصري السابق محمد مرسي عندما لمّح هذا الأخير إلى أنّ مصر سوف تنضمّ إلى آل سعود وإلى العثمانيين الجدد في حربهم ضدّ سوريا. وأعتقد أنّه عبّر عن موقف مماثل عندما أتى على ذكر حادثة قيام الطيران المصري في زمان الرئيس الأسبق السادات بضرب مواقع في ليبيا. ينبني عليه، أنّ مصر ما كانت لتكتفي بالفرجة تجاه الجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبها الحلف الأطلسي في ليبيا بتغطية من آل سعود، ومشاركة آل ثاني. وفي هذا السياق، كان من الصعب أن نتصوّر في عهد جمال عبد الناصر، السيّدين عمرو موسى ثمّ نبيل العربي، في منصب الأمانة العامة للجامعة العربية. هذا يطلب من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين قصف ليبيا، وذاك التدخّل في سوريا ! بديهي في السياق نفسه، أنّ الديانة الإسلامية في عهد الناصرية كانت تحرّم مصافحة زعماء المستعمرين الإسرائيليين. لم يكن وارداً آنذاك أن يُلبّي شيخ الأزهر دعوة ملك آل سعود لحضور مؤتمر حوار الأديان إلى جانب مجرم الحرب الإسرائيلي شيمون بيريز، وأن يظهر الاثنان معاً أمام عدسات المصوّرين !
لقد ذكّرَنا الأستاذ محمد حسنين هيكل بوقائع شارك فيها آل سعود، تثبت كم كانت كراهية الأخيرين لجمال عبد الناصر كبيرة، ما حملهم على معاونة المستعمرين بقصد إضعاف مصر، وإسقاط دولتها.
وفي زمان الناصرية كان الناس يعرفون بانتمائهم الوطني، وليس بهويتهم المذهبية، بالضدّ من زمان آل سعود، فهؤلاء عاجزون كما يبدو عن التخلّي عن الذهنية القبلية، بمعنى أنّهم غير مؤهلين لأن يسلكوا نهجاً وطنياً قومياً، فهم يرون الناس، جميع الناس، فريقين، أتباعاً أو خصوماً، أمّا سياستهم فإنّها ترتكز على مبدأ شراء الاتباع ! والتقليل من الخصوم بالرّشى، أو بحدّ السيف.
وداعاً هيكل، وداعاً جمال عبد الناصر. بقي أن نحفظ الوصية!

:::::

“الديار”