وحتى الجامعة…؟!

عبد اللطيف مهنا

من مفارقات هذا الزمن العربي الرديء، أو كارثياته، أننا كدنا أن ننسى أن لنا جامعة للدول العربية، وأن ليس هناك ما من شأنه أن يذكِّرنا بها إلا سماعنا مؤخراً بخبرين حولها لهما دلالاتهما، و ربما يعكسان مآلاتها، وقد يؤشران على ما تنتظره أمة بكاملها.
الأول، اعتذار المغرب عن استضافة قمتها الدورية لهذا العام، والثاني، ازماع امينها العام نبيل العربي على مغادرتها بعد انتهاء ولايته المنقضية في يوليو القادم وعزمه على عدم الترشُّح لولاية ثانية لأمانتها. المغرب علل عدم استضافته لقمة هكذا جامعة بانتفاء جدوى انعقادها في ظل هكذا واقع عربي هو عنده تنتفي فيه مثل هذه الجدوى وليس فيه ما يبشِّر بها. والعربي علل استنكافه عن البقاء في هذه الجامعة لما يراه يلفُّها من “اجواء الإحباط” التي تسيطر على هذا الواقع العربي.
قد يكون للمغرب، ومن زاوية رؤيته، أو ما يتفق مع حساباته، مبرره القابل للنقاش والأخذ والرد، وقد لايكون مأسوفاً على مغادرة العربي، الذي جاء الجامعة فلم نعد نسمع بجامعته أوكدنا، إلا حينما أُعتذر عن استضافتها، أو قيل أنه سوف يغادرها. يضاف اليه أننا لسنا بصدد الدفاع عن هذه الجامعة، أو هذا المنتدى للقطريات العربية البديلة لوحدة الأمة، والخيمة الساترة لعورات وكبائر وكوارث انتفاء هذه الوحدة المستحقة…الوحدة التي باتت ضرورة بقاء ومنجانا الوحيد من عدمه…بلغة أخرى، نادي حكَّام هذه القطريات، او ما يعرف بالنظام العربي الرسمي، أو بقاياه، والوعاء التليد الضام لتضامناته وتناقضاته وعلله، وبالتالي لن تكون، وهى جامعتة، إلا على شاكلته. بمعنى لو ذهب العربي أو بقي، أو جيىء لها بعربي جديد، فلن يكون أمينها إلا مثله، ولن تكون الجامعة غير الجامعة، بمعنى المرآة العاكسة لواقع هذا النظام، والتي لن تنعكس فيها غير صورته المنحدرة…لذا ما الغرابة فيما قيل أن ابو الغيط هو المرشَّح لخلافة العربي؟!
…وإنما نحن ازاء وجوب التوقُّف أمام دلالات الخبرين اللذين يعنيان أنه حتى نبيل العربي بات لايريد جامعته، وأنه على الرغم من شكلانيتها وعدم فاعليتها المزمنة، أو حتى وجودها المساوي لعدمه، فيبدو أن المطلوب اليوم هو تغييبها بعد أن قُدِّر لهم تغييب أمة بكاملها، أو بداية منطقية للتخلى حتى عنها، بعد أن تم التخلي الرسمي عن القضية المركزية للأمة، أو بوصلة وحدتها، ومؤشر نزوعها للانعتاق، ومسربها الوحيد باتجاه نهوضها المرتجى، واستعادة كرامتها، والحفاظ على وجودها، ونعني القضية الفلسطينية.
إن مجرَّد شبهة النزوع للتخلي عن هذه الشكلانية، أو الرمزية التي تمثلها الجامعة، على علاتها، وحتى وإن فرَّقت ولم تجمع، هو مؤشر  أخطر وأفدح من عجزها وعدم فعاليتها، أو هو خطوة باتجاه البدء بنفض اليد من شتى الوشائج التي تشي بالهوية الواحدة الجامعة لأمة مقهورة مغيَّبة، افقدوها استقلالها، وليس لها ما ينسج عراها الممزقة بعد تهتكها سوى عروبتها. عروبتها التي لابديل لها إلا الفرقة والتشتت والتبعية، وإفساح المجال لانتاج بيئات تنضح كارثيتها باستيلاد المصطنع من الهويات التمزيقية الزائفة التي تُستحضر وتُبعث بعد نبش اجداثها من كهوف التاريخ، إلى جانب اقلمة وتدويل قضاياها، أو ما يعني ببساطة استجلاب اعدائها إلى عقر دارها ورهن مستقبل اجيالها لمشيئتهم.
نعم، منذ أن أُنشئت الجامعة كانت بديلاً للوحدة المفترضة لكتلة الأمة، وإلى جانب تكريسها للقطريات، لم يشهد تاريخها، باستثناء بعض ما أكرهه عليه الصعود العارض في الحقبة الناصرية، ما يخرج به أبعد من نصوص ظلت تلوكها بياناتها المدبجة والمكرورة في ختام قممها وملتقياتها. لم يعرف عنها تنفيذاً لقراراتها، ولا الالتزام بالمواثيق أو القيام بالمهام التي يحملها مسماها، وجل ما صدر عنها بقي حبراً على ورق. ميثاق الدفاع العربي المشترك، التكامل الاقتصادي، الاتحاد الجمركي، ناهيك عن مشاريع اصلاحها وتطويرها…كما لم تكتفِ بالعجز المزمن وحده، بل دلفت إلى حيث درك التواطوء، فغدت مشاعاً ومرتعاً لإملاءات الأميركان. مرَّرت كارثة تدمير العراق واستباحته وهدم اسس الدولة فيه، وشرَّعت وغطَّت غزو ليبيا وتركها نهباً للاحتراب الأهلي والفوضى، وتفرَّجت على تجزئة السودان، وقبله على خراب الصومال، واكملتها بإخراج سوريه منها وهى من مؤسسيها، بل واستدرار شتى التدخلات الخارجية فيها، وبالتالي الاسهام في جريرة استباحتها واستمرارية الحرب عليها، ودون أن ننسى مواقفها الشائنة إبان الحروب الصهيونية على لبنان وغزة، وحصار الأخيرة المديد والمزدوج عربياً وصهيونياً، وسائر ما يواجهه الآن الشعب الفلسطيني المنتفض والمستفرد به.
لقد اسهم الانحدار الرسمي العربي، الذي انطلقت مسيرته المشينة بعد بلية كامب ديفيد، وتعزَّز بضرب مرتكزات نهوض الأمة الرئيسة الثلاث، المتمثلة في مصر والعراق وسورية. أُخرجت الأولى من الصراع وأُفقدت دورها الريادي والقيادي الذائد عن قضايا الأمة، أو ما يعطيها تاريخياً سر قوتها ومكانتها وقيمتها، ودُمِّر الثاني، وأُلحقت به الثالثة، وبالتالي كان من المنطقي أن يلحق بالجامعة بهوتاً إلى مثل هذا الحد فوق سابق بهوتها التليد المزمن، لكنما وجب التحذير هنا من أن التخلي عن القضية المركزية للأمة، ثم عن الجامعة على علاتها، هما خطوتان تؤشران باتجاه التخلي اللاحق عن العروبة لمن استطاع إلى ذلك سبيلا…هل هذا ممكن؟؟!!
العروبة ليست ايدولوجيا، وإنما هى هوية ومصير، ومسألة وجود هو عدمه من دون وجودها، ثم أن الأمة المقهورة والمغيَّبة لم تقل كلمتها، كلمتها الفصل، بعد…