عادل سمارة
تسائل بعض الرفاق والصدقاء عن ما كتبته عن الانفصاليين الكرد السوريين، بل قيادتهم: هل اقصد انه لا عدالة للقضية الكردية؟ فأجيب بما يلي: ابدا، لهم قضية عادلة قومية بلا مواربة. لكن قياداتهم دائما تركض بين توازنات الأقطاب لكنها ليست قيادات حقيقية وخاصة البرازانيون والطالبانيون، وقيادات كرد الانفصال السوريين الذين يحاولون الانفصال في ارض استقبلتهم بكل رحابة صدر ليطعنوها خلال ضعف الدولة المضيفة. هذا لا يعني انه لا يوجد اكراد سوريين وطنيين. كنت كتبت في كتابي :”ثورة مضادة، إرهاصات أم ثورة عام 2012″ وهو عن ما يسمى الربيع العربي، بان للقومية ثلاثة موجات، الثالثة هي تصنيع العولمة الإمبريالية، ولسوء الحظ أكراد سوريا يقعون في هذا المأزق. أرفق هنا ما كتبت في ذلك الكتاب من ص 311-316:
10- موجة القومية الثالثة:
مقصود بهذا المصطلح أكثر من مسألة أو معنى. إنه رفض لهيمنة الخطاب الغربي الرأسمالي وبداية الأوروبي الذي يزعم بعنصرية بأنَّ ما يحصل في أوروبا، تاريخ أوروبا الحديث هو تاريخ كل العالم. وتتكثَّف خطورة هذا الزعم عبر حقنه لمثقفي الصدى في المحيط وخاصة جزأَه العربي. أولئك المثقفون الذين يرددون هذه المزاعم كحقائق لا جدال فيها. كل مثقف من فريق الصدى يروج لما جرى التهامه لهن: مثقف ما بعد الحداثة يروج لنظرياتها ويعيد هندسة المجتمع لقبولها، ومثقف الدين السياسي يروج لمعنى المحافظية الجديدة، والمثقف اللبرالي يروج لثقافة الرأسمالية الغربية، ومثقف البورونجرافي واللزبيان والمثلية يروج لهذه الثقافة…الخ بمعزل عن وعي هذه كلها ومعناها هناك وهنا.
دأب الخطاب الغربي على الزعم بأن موجة القوميات في أوروبا الغربية في منتصف القرن التاسع عشر أو ما أسماه عصر القوميات بأن هذا عصر لكل العالم في حين كان هذا الأوروبي الغربي يتذابح على توسيع مستعمراته وواصل ذلك.
كانت هذه الموجة الأوروبية هي الأولى، بينما موجة القومية الثانية هي في منتصف القرن العشرين مجسدة في حركات التحرر الوطني في المستعمرات للتخلص من الاستعمار أو من عسف موجة القومية الأولى. كانت موجة القومية الأولى تعبيراً عن نضج البرجوازية في البلدان الأوروبية لتوحيد السوق القومي من أجل مصالحها، وهو الأمر الذي خلال وبعد إنجازه تحولت للاستعمار من أجل الأسواق والمواد الخام.
أمّا موجة القومية الثانية فهي تحررية منذ البداية وهي نعم وعي الأمة لوجودها ومصلحتها في التحرر والوحدة. وعليه، فهي قومية مقاومة ودفاعية. والسؤال: هل تحمل في أحشائها بذور الشوفينية كالحالة الأوروبية؟ نعم. لكن ليس شرطاً أن تمارس ذلك بغض النظر عن الأسباب والمناخ الدولي. وهل يمكن أن تنحرف الطبقة الحاكمة الجديدة حتى عن مصالح الأمة وتتحول إلى وكيل للاستعمار، والإجابة نعم. ومع ذلك يبقى السؤال: هل هذه الاحتمالات السلبية كافية لكي لا تحاول الأمم تحرير نفسها؟ يجادل البعض بأنَّ الفضل هو القفز على المرحلة القومية إلى الاشتراكية. والإجابة حبذا، شريطة أن لا يكون قفز مثقفين في هواء الكتب.
موجة القومية الثالثة هي الأكثر خطورة. هي هجمة الموجة الأولى ضد الثانية لتجزئة بلدان المحيط من داخلها على أسس اثنية مذهبية طائفية وحتى جهوية جغرافيا. إنها موجة تحالف بين برجوازيات هذه الاثنيات كبرجوازيات كمبرادورية وطفيلية مع رأسمالية المركز من أجل الانفصال وتشكيل دويلات تابعة من الباب إلى المحراب ولأنها هكذا، فهي ستكون رأس حربة ضد الدولة الأم والمنطقة. هذا شأن جنوب السودان وكردستان العراق، وكوسوفو والبوسنة…الخ. ليس دور المركز الرأسمالي هو دعم هذه الدويلات بل التخطيط لتحرك برجوازياتها واحتضانها والضرب والعدوان لصالحها تحت غطاء حق الأمم في تقرير المصير أو تطبيق البند السابع لمجلس الأمن.
11- القومية الحاكمة والقومية الكامنة:
بينما يُقر مختلف المفكرون والساسة بالمرحلة القومية كمرحلة تعبرها مختلف الأمم في فترات زمنية متفاوتة من حيث فترة دخولها أو امتدادها أو كونها أمماً قديمة (الصين، الهند، العرب، الفرس) أو مُحدَثة (الولايات المتحدة ، كندا)، ليس من السهولة بمكان توفر إجماع لا على تعريف القومية ولا ، بشكل خاص ، على الموقف منها. لكنها تبقى مرحلة في تطور الفكر السياسي.
تكمن أهمية المسألة القومية أنها تخص الأمة بأجمعها، وبالتالي هي مختلفة من حيث علاقتها بالمجتمع المحدد عن الكثير من النظريات التي يمكن أن تبقى في المجرد وبالتالي ليس شرطاً أن يتعاطى المواطن معها أو يمسه كثيراً تعاطي مواطنين آخرين بها.
نقطة نقاشنا هنا في اتجاه آخر، في ممارسة الانتماء القومي على أساسه الطبقي وتحديداً ما يزعمه الكاتب بأن أساس الموقف القومي هو طبقي. ومعروف بالطبع أن مجرد مناقشة المسألة القومية من مدخل طبقي هو أمر جدلي جداً، يُثير نقاشاً ويثير زعماً بالتباس فكري وحتى تُهماً بالخلط.
لقد أشار ماركس إلى هذه المسألة فيما يخص التجربة الأوروبية الغربية أو ما أُسمي عصر القوميات. حينها أصرّ على أن القومية سلاح بيد البرجوازية. وكان هذا الاستنتاج طبيعياً لسببين على الأقل:
• الأول: لأن للطبقة البرجوازية مصلحة في السيطرة على السوق القومي من أجل تسويق بضائعها في سوق محمية لها. وهذا بالطبع رغم تبني الأنظمة الرأسمالية هناك الشعار اللبرالي المزيف حرية التجارة. طريف هذا الموقف المستمر حتى اليوم، أي التغني بحرية التجارة إلى جانب التمسك العملي بالحماية! وهذه واحدة من أكاذيب رأس المال الكبرى ولكن المحاطة بهالة من خطاب بليغ مزيف.
• والثاني لأن الثورة الصناعية، وفي سياق تطورها التقني دفع بالبرجوازية للبحث عن أسواق خارج السوق المحلي سواء للتصدير أو للبحث عن المواد الخام وتصدير رأس المال، واليوم تصدير رأس المال العامل الإنتاجي…الخ، الأمر الذي أدى إلى حروب بينْ-أوروبية في منتهى الوحشية على المستعمرات وبالطبع ضد شعوب المستعمرات أيضاً لتكون مرحلة الاستعمار الرأسمالي الغربي الأكثر دموية في التاريخ، وقد يكون لنا الزعم بأن الإنسانية لن تسمح لاحقاً بمثلها. من أجل هذا كان لا بد للبرجوازية أن تستخدم الشعور القومي لدى الطبقات الشعبية وكأنها تدافع عن الأمة، وهو استخدام خبيث لا يسمح ببساطة بأن يرفضه أحدٌ حيث يبدو كمن يتولى يوم الزحف! في حين هو مجند للحفاظ على نهب البرجوازية للأمم الأخرى.
من اللافت أن ما سعَّر الحروب الأوروبية/الأوروبية كحروب أوروبية/أوروبية وحروب في المستعمرات على هذه المستعمرات هو أن مستوى التطور الاقتصادي وتحديداً الصناعي في أوروبا الغربية كان متقارباً ولا يزال وهو ما خلق دافعاً للتصارع على الأسواق.
وهذا يفتح على مسألة هامة لدى الاقتصاديين في مدرستي التبعية والنظام العالمي اللتين تتقاربان في قراءتهما لأسباب لُحاق اليابان بأوروبا ومن ثم الاستنتاج بأن: “لا يابان بعد اليابان”، بمعنى أن أوروبا لن تسمح بتطور مناطق أخرى رأسمالياً، أي سوف تحتجز تطورها، وأن اليابان أفلتت في ظرف خاص، ولذا يمكننا تغيير هذا الاستنتاج، على ضوء التطور المتوازي لأوروبا الغربية بأن قرار أوروبا هو : “لا أوروبا بعد أوروبا”.
يلعب الاستعمار والتخلف والتبعية دوراً بارزاً بل حاسماً في تطور المسألة القومية في المستعمرات. فإذا كانت أوروبا الغربية قد تطورت اقتصاديا ومن ثم اجتماعيا بدرجة كبيرة من التمحور على الذات والتحكم بالفائض وتحقيق معدلات تشغيل عالية، وتوفير أجور مقبولة حياتياً وليست بالضرورة مقبولة من حيث كونها أجوراً أي نتاج استغلال، فهذه أمور لم تتواكب مع المد القومي في المحيط.
فالاستقلال القومي للمحيط كان بشكل أساسي استنهاض الثقافة القومية والهوية القومية لمواجهة التحدي الذي يتخذ شكلا قوميا وربما دينيا ثقافيا بينما هو أساساً اقتصادي بأدوات عسكرية وثقافية وهدفه التراكم أي نهب فوائض بلدان المحيط وحتى ثرواتها الطبيعية.
لذا، ما إنْ طُرد المستعمِر سياسياً حتى واجهت البلدان المستقلة حديثاً معضلة أن الاستقلال سياسيٌّ فقط. حينها عادت كل طبقة للبحث عن مكانتها الاقتصادية فكان لهذا تأثيره الطبقي الحاسم على المسألة القومية وخاصة في الوطن العربي.
حتى اليوم على الأقل، لم يُعلن نظام حكم عربي أنه ضد القومية العربية، ولكن معظم هذه الأنظمة مارست مواقف عملية ضد الوجود الجسدي للشعب العربي، ودخلت حروباً في ذيل المستعمِر لتدمير قُطريات عربية واستخدمت جامعة الدول العربية لتبرير هذه الحروب ولاستدعاء الناتو لتدمير قطريات عربية كما حصل ضد العراق 1991 و 2003، وضد لبنان حينما طلبت ثلاث دول عربية من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني الإشكنازي مواصلة العدوان على لبنان لتدمير وتصفية حزب الله، واستدعاء الناتو لتدمير ليبيا كما حصل، والاستماتة اليوم 2011 و 2012 لتدمير سوريا.
ملخص القول أن هذه الأنظمة بما هي تمثل البرجوازية الكمبرادورية العربية التابعة، هي تمثل القومية الحاكمة التي هي قُطرية جوهرياً ومعادية للأمة العربية والوحدة والتطور والتكامل الاقتصادي العربي ومع ذلك تزعم أنها قومية، ومن هنا كان طبيعياً وصفها بالقومية الحاكمة التي هي جوهرياً قُطرية.
وفي الجانب الآخر، فإن انتماء الطبقات الشعبية القومي هو الانتماء الحقيقي، ولكنه كامن، بمعنى أنه ممنوع من التعبير عن نفسه ديمقراطياً بمعنى أنه لو كان له حق الاختيار لاختار الوحدة العربية. فما هو المانع الذاتي الذي يمنع عامل بلا عمل في مصر من العمل في الخليج؟! إن توسيع شبكة تشغيل عربية يخلق طبقة عمالية موحدة ويشكل قاعدة طبقية للمشروع الاشتراكي العربي، وهذه قوة القومية الكامنة ومصدر الرعب للقومية الحاكمة.
تشكل المصلحة المادية الحياتية والمستقبلية للطبقات الشعبية العربية والتي مآلها إلى الاشتراكية والوحدة عاملاً بل التطوير العصري والطبيعي لمختلف أسس تكوين الأمم، بما هو العامل الأكثر دينامية اليوم وهو المصلحة المادية للطبقات الشعبية في الوحدة أو الاتحاد العربي لأنه يُعيد إليها حقها في الثروة العربية التي تتقاسمها أنظمة القومية الكامنة، وإن كان تقاسماً لا متكافئاً، بمعنى أنَّ ما تحصل عليه أنظمة العجز العربي لا يساوي شيئاً مقارنة بما تحصل عليه دول الريع النفطي ولكن الطرفين ينهبان حقوق الأمة وخاصة حقوق الطبقات الشعبية كل طرف حسب فرصته. وبالطبع فإن ما يحصل عليه حكام النفط من ريع هو الأقل مقارنة بما تحصل عليه الشركات النفطية الغربية.
بقي أن نشير إلى أن أكثر طبعات القومية وضاعة هي ما نسميه الموجة القومية الثالثة، والتي هي تصنيع من أنظمة المركز الرأسمالي مستخدمة كمبرادور المذاهب والاثنيات والطوائف.