الجهل المؤسس: «المدرسة السورية» نموذجاً

ملاك فقيه

«كان ذلك على ما أذكر العام 1955. وقد كان ذلك بعد سقوط حاكم سوريا الديكتاتور والجنرال العسكري أديب الشيشكلي. وكان تحالف حزب «البعث» و «الحزب الشيوعي» و «الإخوان المسلمين» هو من أسقطه. فلمّا تفاوضوا في ما بينهم، سُئل «الإخوان المسلمون»: ماذا تريدون؟ أي وزارة؟ فقالوا: نحن لا نريد وزارة، نحن لنا مطلب واحد وهو إدخال التعليم الديني إلى المدارس الثانوية».

جورج طرابيشي ـ «ست محطات من حياتي».

رحل جورج طرابيشي بعدما توقف قلمه عند ست محطات من حياته، الأهم من بينها المحطتان الأولى والثانية، اللتان شكلتا وعيه الاجتماعي وإدراكه أن مهمة كبيرة ما زالت تنتظرنا في مجتمعاتنا، وأن القضية ليست قضية تغيير سياسة ولا وزارة، فقد عرض من خلالهما تجربته مع المدرسة العربية، التي لخصها بكونها «الخلية الأولى» اليوم في الدول العربية، لإنتاج وإعادة إنتاج الأصولية الدينية، وإن في تفاوت ملحوظ تبعاً للدول ولدرجة «تعلمنها».
لنأخذ على سبيل المثال ما عرضته قناة BBC الرابعة العام 2011: سلسلة وثائقية من خمس حلقات بعنوان «المدرسة السورية»، كانت جزءاً من مجموعة أفلام وثائقية أنتجتها القناة عن مدارس من مختلف أنحاء العالم.
تتبع السلسلة حياة مجموعة من الأشخاص العاديين جداً، الذين يمثّلون الشريحة الأكبر من المجتمع: أهالي ومدرسين وطلاباً من مختلف الأجناس والأعمار في أربع مدارس تقع في محافظات مختلفة من دمشق. تمّ تصوير السلسلة قبل الأزمة السورية، إلا أن الربط بينها وما يجري من أحداث الآن، لا يجعل من الوثائقي مجرد عرض لمدارس وطلاب، بل لمجتمعات وأنظمة…
في الجزء الأول من الوثائقي، تقول مديرة مدرسة زكي الأرسوزي أمل حسن: «قبل عشر سنوات، لم تكن الفتيات محجبات، أما الآن فإن أغلبهن محجبات، لا أعرف السبب!». في المدرسة نفسها، وفي اليوم الأول من العام الدراسي، نرى مدرّسة التربية الدينية تحاضر في طالباتها محدثة إياهن عن المادة: «هي منهج حياة، هي المادة الوحيدة، لا مادة الجغرافيا، لا الرياضيات ولا الفلسفة، أحاسب عليها في القبر». إحدى الطالبات تدعى دعاء، وقد انتقلت حديثاً من مدرسة دينية يطلق عليها في سوريا «مدرسة الشريعة»، إلى مدرسة زكي الأرسوزي الرسمية. تقول دعاء إنها مرتاحة أكثر في المدرسة الجديدة لناحية قدرتها الأكبر على التعبير عن رأيها، وقد كانت تعاني من الكبت في مدرستها القديمة، لكنها في الوقت نفسه، تبدي مخاوفها من عدم اندماجها مع الطالبات في مدرستها الجديدة بسبب خلفيتها الدينية. وفي مشهد آخر، يدخل ناظر مدرسة جرمانا للبنين الصف ويسأل كلّ طالب عن دينه.
أحد الطلاب يرفع يده: «مسلم»، طالب ثان: «مسلم»، طالب ثالث: «مسيحي»، مسلم، مسيحي، مسلم… إلخ. هذا ويتم التذكير لمرات عديدة خلال العرض بأن المدارس الحكومية في سوريا «مدارس علمانية»، وذلك تبعاً لنظام البعث «العلماني» الحاكم للبلاد. إلا أن ثمة سؤالاً يطرح نفسه: «ما الجدوى من وجود مدارس للشريعة مقابل المدارس العلمانية الحكومية للمرحلة الابتدائية، علماً أن هذا النمط من التعليم من المفترض أن يكون اختيارياً في المرحلة الثانوية أو الجامعية في ما بعد؟».
تتابع المديرة أمل حسن حديثها عن عدم قدرة الطالبات على التعبير عن أنفسهن خارج المدرسة. لهذا السبب أنشئ «نادي الشعر» في المدرسة، والذي تتعنون نشاطاته ببعض شعارات «الحرية» والحديث في «الغزل» و «الحب» و «الشوق» برغم أن الفتيات لا يستطعن عيش تجاربهن العاطفية الطبيعية في بيئتهن. ومن اللافت أن جميع المدارس التي تمّ التصوير فيها هي مدارس غير مختلطة حتى الابتدائية منها، وكأن صانعي السلسلة أرادوا الإشارة إلى خلل ما في هذا النوع من المدارس، إذ كيف سينظر كل من الجنسين إلى الآخر بعين المساواة، وهم لم يعيشوا حتى تجربة الزمالة الدراسية منذ نعومة أظافرهم.
ثمة مظاهر يمكن من خلال ربطها بعضها ببعض الاستدلال على مسار معين يُرسم للشباب منذ أيام الدراسة. فالحياة السياسية منعدمة داخل المدرسة كما خارجها. فالاصطفاف الصباحي على سبيل المثال لا يبدو منطقياً، حيث يقتصر على تلقين الطلاب «بروتوكولات» الولاء للحزب الحاكم والهتاف للسيد الرئيس. يجتمع هذا السلوك مع الراتب المنخفض للأساتذة، وبالتالي مستوى متدنٍ للتعليم، تعقبه صعوبة في الحصول على وظيفة نظراً للافتقار إلى المهارات اللازمة، فلا يبقى أمام الطلاب وخصوصا الشباب منهم سوى الانضمام إلى الجيش الذي هو المؤسسة الأكثر ولاءً للسلطة.
تكشف السلسلة الكثير من الثغرات والمشاكل التي يعاني منها النظام التربوي في سوريا، وتأثير هذا النظام وتأثره بالوضع الاجتماعي المحيط به، بدءاً بالمناهج التعليمية القديمة مروراً بمختلف مظاهر الأدلجة التي تطغى على الأنشطة الطلابية ذات الطابع الثقافي والفكــري. هذا ما يسميه محمد أركون بـ «الجهل المؤسس»، حيث إن النظام التربوي، الذي يتكــفلون بتســييره واقتراح برامجه التربوية، يؤســس للجــهل، لأن هذه البرامج لا تفتح فصولاً للمعرفة. وهذا لا يقتــصر على مدارس سوريا، فقد تختلف طرق تأسيس الجهل من بلد عربي الى آخر، إلا أن العقم التربوي يبقى واحداً.
من هذا المنطلق، وتأسيساً على ما نعيشه من مآس راهنة، لا بد من طرح أسئلة جذرية باتت ملحّة أكثر من أي زمن مضى: لماذا تفشل حراكاتنا الشعبية في التحول إلى ثورات؟ ولمَ نقتصر في إصدار الأحكام بحق ما أنتجته تلك الأزمــات فقــط؟ لمَ لمْ نتقن بعد قراءة وتحليل تلك الإشــارات الخفيــة من أخطاء وثغرات تراكمت عبر السنــين وأدت إلى انفجار العديد من المجتمعات العربــية؟ وإلى متى سيتم التغاضي عن الثورة الحقيــقية، الثورة التربوية، ثورة تأسيس الإنسان العربي، ثورة التفاصيل…

:::::

“السفير”


[1] ورقة قدمت في محفل علمي اقامه المعهد العالي للعلاقات الدولية  ابريل عام 2016 .

[2]  في معرض تحليله يستشهد أتيلو بورون بمؤلفين آخرين يتطابقون معه في هذاالراي.

[3]  وفقا لـما افاد به Southern Poverty Law Centre فان ” ثلاثة تيارات من اليمين المتطرف ـ مجموعات الكراهية؛ مجموعات دينية متطرفة ومنظمات وطنية ـ ازداد عددها من 1753 مجموعة في عام 2009 الى 2145 مجموعة عام 2010  (22%)، بعد ان كانت قد نمت بنسبة 40% بين 2008 و2009″.

 

 وقّع الرئيس فرانلكين روزفلت على الامر التنفيذي رقم 9066 يوم 19 فبراير 1942، حدد بموجبه المناطق العسكرية التي اقيمت عليها عشرة معسكرات اعتقال من اجل السيطرة على الخصوم الداخليين وزج فيها بـ 112500 امريكي ياباني لغاية 1945 (بويغ س 2015).

[4]