اسحق أبو الوليد
مما لاشك فيه أنه بعد رحيل ” شافيز” المفجر والقائد للثورة البوليفارية الفنزويلية دخلت البلاد مرحلة جديدة أكثر صعوبة وتعقيد مما يهدد بعودة اليمين إلى الحكم، أو فرض سياسات يمينية ليبرالية في المجالين الاقتصادي والمالي على حكومة ” الاشتراكيين”، مما سيعكس نفسه على المستويين السياسي والفكري بما فيه السياسة الخارجية، وكنتيجة منطقية لهذا الوضع الجديد ستتبدل موازين القوى داخل كل معسكر سواء اليمين أو اليسار، بما فيه التحالفات السياسية الرسمية والشعبية.
إن التجربة التي عاشتها فنزويلا في عهد الرئيس الراحل ” تشافيز” شبيهة في العديد من سماتها بالتجربة الناصرية في مصر، وكذلك تتقاطعان التجربتان، في أساليب التراجع والتخلي عن ” الثورة” مع الفارق أن السادات كان متآمراً بوعي كامل للانقضاض على الإنجازات الناصرية في عالم ثنائي القطبية، أما الرئيس الفنزويلي ” مادورو” بسبب العجز وعدم الكفاءة للدفاع عن الإنجازات البوليفارية في ظل عالم القطب الإمبريالي الأوحد الذي دخل مرحلة جديدة وأشمل من مرحلة الهجوم للمزيد من إحكام السيطرة الامبريالية على كافة مصادر الثروة الاستراتيجية، من وقود ومعادن ومياه، فلقد تم تعيين السادات نائب للرئيس من قبل عبد الناصر نفسه رغم معارضة كل أعضاء مجلس قيادة الثورة، كما يقول الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه “خريف الغضب”، وكذلك الرئيس الراحل “تشافيز” عيّن “مادورو” وأصر على أن يكون خلفه قبل رحيله بأيام قليلة.
هنا يفرض نفسه السؤال الاستراتيجي التاريخي من جديد: لماذا فشلت العديد من التجارب لبناء ” الاشتراكية”، كالاشتراكية المسيحية أو الإسلامية أو الأفريقية أو الآسيوية أو الأوروبية…الخ؟، وهل الفشل بسبب الظروف الموضوعية؟ أم يعود لأسباب ذاتية؟، أم لكلاهما معاً؟ ما هو حجم الدور الذي يلعبه القائد المؤسس؟ بالمقابل ما هو دور الجماهير؟. في الواقع للإجابة العلمية على هذه التساؤلات وغيرها الكثير لابد من إجراء بحوث ودراسات عميقة وشاملة، ولكن هذا لا يمنع من وضع الأصبع على الجرح، وتأكيد بعض المسلمات.
إن الخطأ الأساسي هو في التعامل مع “مرحلة البناء الاشتراكي” كنظام قائم بذاته ونهائي يحل مكان النظام الرأسمالي، واعتباره أقصى ما يمكن أن تصل إليه البشرية من قبل القيادات المؤسسة.
إن هذه النظرة غير العلمية تعد انتهاكاً لقانون تطور التشكيلات الاقتصادية – الاجتماعية، والتي كما يؤكد الفيلوسوفان المؤسسات للشيوعية العلمية ” كارل ماركس وفريديرك انجلز” ” أن هذه التشكيلات متداخلة وتولد من رحم بعضها البعض، وإن لكل تشكيلة ثلاثة أطوار، ولكل طور ثلاثة مراحل، وما الاشتراكية إلا الطور الأول للتشكيلة الشيوعية”. في هذه المرحلة تحدث عملية صراع حادة ودموية بين عناصر ومكونات النظام الرأسمالي، الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والأرض والعادات والتقاليد، وشكل السلطة وأسلوب الحكم، ومنظومة الأحزاب والقوى التي هي انعكاس للتركيبة الطبقية للمجتمع، مع السلطة السياسية الجديدة، والقوى الطبقية التي تشكّلها أو تدعمها، والفكر والفلسفة التي ترتكز عليها عملية التغيير. هذه المرحلة هي الأهم بل الأساسية وعلى نتيجة الصراع فيها يتحدد مصير الذهاب باتجاه المرحلة التالية للتشكيلة الجديدة، أو البقاء في إطار النظام الرأسمالي.
إن الدرس المستخلص من كل التجارب التي فشلت أو نجحت جزئياً هو الأهمية القصوى لوجود الحزب الثوري الطليعي، الذي يمثل الطبقة العاملة، ويلتزم بمبادئ الاشتراكية العلمية جاعلاً من القضايا الوطنية والقومية قضاياه المركزية، كي يضمن ويؤمن التحول الاقتصادي والاجتماعي بالتساوي على الصعيد الوطني ضمن خطط للبناء والتطوير مدروسة بدقة مع ضمان توفير الكادر ذو الكفاءة العالية القادر على التنفيذ بإخلاص لما يطُلب منه وتسليط ” سوط” الرقابة الدائم بشكل ثوري حازم مما يجعل من مبدأ المحاسبة أهم آلية للتجديد والتطور.
إنه من الصعب بل أعتقد أنه من المستحيل بناء مجتمع اشتراكي جديد بوسائل وأدوات النظام الرأسمالي، أي التعددية والديمقراطية البرجوازية والتبادل السلمي للسلطة.
إن القبول بهذه المبادئ يعني الاستعداد من حيث المبدأ، تحت ضغط ما أو أزمة النظام الرأسمالي وتأثر الكل بها، التخلي عن الفكرة بحد ذاتها وتقدم ما تم إنجازه على طبق من ذهب للأعداء الطبقيين والقوميين، مما يعني الانطلاق من الصفر مجدداً عندما تحين الفرصة ثانية، مع إمكانية تكرار هذه العملية أكثر من مرة، مما يوفر الشروط الموضوعية لإطالة عمر الرأسمالية بمزيد من التوحش والفاشية والاستغلال.
إن المشكلة لا تكمن ” من حيث المبدأ”، في حكم الحزب الواحد، بل في طريقة حكم الحزب والوسائل التي يستعملها والفكر الذي يتبناه. الولايات المتحدة مثلاً تمارس أبشع وسائل الاقصاء وتسن قانون ” مكافحة الشيوعية” تفرضه على الأنظمة الصديقة لها، أي تحرم طبقتها العاملة من حقها في التنظيم، وتغلق طريق إمكانية وصولها للسلطة، وتعاقب من تعتقد أنه يحمل الأفكار الشيوعية، أي تحرم الأغلبية الساحقة في المجتمع من حريتها في التفكير والانتماء، وتعتبر نفسها أنها الديمقراطية المثالية، والمصيبة الأعظم أن يراها ويعتبرها الآخرين كذلك.
إذاً يُعتبر حكم الطبقة البرجوازية، التي تشكل أقل من 5% من المجتمع بغض النظر إذا يمثلها حزب واحد أو حزبين، ديمقراطياً، وفي نفس الوقت تحظر حزب الطبقة العاملة والشغيلة والفلاحين، فإن من حق حزب الأغلبية أن يحكم، وأن يحظر حزب الـ5%، ويمنعه من التخريب حيث هكذا ننتقل من عالم الضرورة إلى عالم الحرية.