تعبير عن تعمّق الأزمة الرأسمالية
المبادرة الوطنية الأردنية
“العلاقات الاقتصادية هي المحدّد الأساس لتطور العلاقات بين الدول، صراعاً، تحالفاً، اتحاداً…الخ” وعلى ضوء تطور هذه العلاقات الاقتصادية تتحدد صيرورة العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي ومصيره.
هل خروج أم بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوربي يحل الأزمة التي يعيشها النظام الرأسمالي المضارب المعولم، ومن ضمنه بريطانيا؟.
هناك مقاربتان لقراءة نتائج تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي:
- مقاربة تستند إلى مظاهر التوصيف وخلفياته، المهاجرين الأجانب، سواء كانوا من دول اشتراكية سابقة أو دول المحيط، وفي الحالتين هم ضحايا النظام الرأسمالي ذاته، الكلف المالية المترتبة على بريطانيا للاتحاد، الهوية الوطنية، القرار الوطني المستقل…الخ.
- ومقاربة تستند إلى تطور الواقع الاقتصادي الاجتماعي لبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي في العقود القليلة الماضية، والتحولات الاقتصادية الاجتماعية التي طرأت على المجتمع والدولة البريطانية وبقية دول الاتحاد الأوروبي، التي أنتجت أزمة عالمية، حيث المنظومة الرأسمالية العالمية السائدة تعيش أزمة مستمرة متعمقة تزداد تعقداً، بحيث أصبح الخروج منها ضمن طبيعة المنظومة الرأسمالية القائمة شبه مستحيل، وبناء عليه تأخذ الشعوب مساراً مغايراً لما هو قائم بأمل الخروج من الأزمة.
لمحة سريعة على تاريخ نشؤ الاتحاد الأوروبي :
“الاتحاد الأوروبي جمعية تضم مجموعة من الدول الأوروبية ، 28 دولة آخرها كانت كرواتيا التي انضمت في 1 يوليو 2013، تأسس الاتحاد بناء على اتفاقية معروفة باسم –معاهدة ماسترخت– الموقعة عام 1992 م، والتي سبقها الكثير من الخطوات منذ بداية خمسينات القرن الماضي”.
عبر تاريخ أوروبا الحديث ، خاصة الثلاثة قرون الأخيرة، عاشت القارة مراحل من الصراع الدموي ومراحل من التعايش السلمي، بحسب طبيعة مراحل تطور الرأسمالية الصاعدة: مرحلة المنافسة الحرة، مرحلة الرأسمالية القومية الاحتكارية، المرحلة الامبريالية، في هذه المرحلة تحديداً عاشت القارة أبشع الحروب الامبريالية دمويةً، الحرب العالمية الأولى والثانية.
كانت أول خطوة في طريق الاتحاد، منظمة مجلس أوروبا التي أنشأت عام 1949 ، ثم جماعة الفحم والصلب الأوروبية عام 1951 م ، والتي أنشأتها 6 دول أوروبية، ثم قام نفس الأعضاء الستة الأوروبيين بإنشاء الجماعة الاقتصادية الأوروبية. ونتيجة اتحاد المجموعتين الأخيرتين تكونت السوق الأوروبية المشتركة، واللتين شكلتا مع مجموعة الطاقة الذرية الأوروبية، ما يعرف بالجماعات الأوروبية، ثم قام الأعضاء في المجموعات الأوروبية الثلاثة بإنشاء الاتحاد الأوروبي عام 1992 .
عام 1950، تشكلت الجماعة الأوروبية للفحم الحجري والصلب التي شكلت حجر الأساس لتوحيد البلدان الأوروبية اقتصاديًا، ست دول مؤسسة هي: بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ولوكسمبورج وهولندا.
في عام 1957 أنشأت معاهدة روما الجماعة الاقتصادية الأوروبية (EEC) أو “السوق الأوروبية المشتركة “.
عقد الستينات توقفت بلدان الاتحاد الأوروبي عن تقاضي الرسوم الجمركية في عمليات التبادل التجاري فيما بينها، واتفقت دول الاتحاد كذلك على وجود رقابة مشتركة على إنتاج الغذاء، حيث حققت فائضاً في المنتجات الغذائية الزراعية.
في عقد السبعينات انضمت الدنمرك وأيرلندا والمملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، و ذلك في 1 يناير 1973 ، مما رفع عدد الدول الأعضاء إلى تسعة . وبدأت السياسة الإقليمية للاتحاد الأوروبي في تحويل مبالغ ضخمة لخلق وظائف وإنشاء البنية التحتية في مناطق الاتحاد الأكثر فقرًا.
في عام 1979 تشكل البرلمان الأوروبي وزاد من تأثيره في شؤون الاتحاد الأوروبي ، حيث تمكن المواطنون لأول مرة من انتخاب أعضائهم بصورة مباشرة.
أصبحت اليونان العضو العاشر في الاتحاد الأوروبي وتبعتها أسبانيا والبرتغال بعد خمس سنوات.
في عام 1987، تم التوقيع على القانون الأوروبي الموحد، وعلى إثره ثم إنشاء “السوق الموحدة”.
في عام 1993، اكتملت السوق الموحدة من خلال ما يسمى “الحريات الأربع” المتمثلة في: حركة البضائع والخدمات والأشخاص والأموال.
وشهد عقد التسعينات كذلك معاهدتين، وهما معاهدة “ماستريشت” الخاصة بالوحدة الأوروبية في عام 1993 ومعاهدة أمستردام في عام 1999 .
في عام 1995 اكتسب الاتحاد الأوروبي ثلاثة أعضاء جدد، وهم النمسا وفنلندا والسويد.
أُطلق اسم قرية صغيرة في لوكسمبورج على اتفاقيات “شنجن” التي تسمح بشكل تدريجي للأفراد بالتنقل بدون فحص جواز سفرهم على الحدود.
عام 2000 تم إقرار اليورو عملة جديدة موحدة للعديد من الأوروبيين.
فلماذا قرر الشعب البريطاني الخروج من الاتحاد؟
يبدو أن مصير الاتحاد الأوروبي قد تقرر منذ دخول المنظومة الرأسمالية العالمية ما يسمى بالأزمة العقارية، عام 2008 ، التي هي في الحقيقة وفي الواقع أزمة بنيوية في النظام الرأسمالي العالمي، ويبدو أنها أزمة النظام النهائية ، حيث لا يمكن الخروج منها في ظل استمرار النظام ذاته.
” بداية نشؤ الأزمة يمكن رصدها مع بداية تسعينات القرن العشرين، في الاقتصاديات الناشئة، ثم بلغت الذروة في الدول الصناعية في مطلع الألفية الثالثة، مع انهيار أسهم الشركات المتخصصة في التكنولوجيات الجديدة ” . على إثرها جاءت الحروب التي شنتها إدارة المحافظين الجدد، بدءاً من عام 2001 إثر أحداث 11 سبتمبر، على أفغانستان ثم العراق ، تطبيقاً لمبدأ امبريالي قائم على أن الخروج من الأزمة القائمة ، يتطلب حروباً في الخارج، تم تسميتها محاربة الإرهاب. ولكنه خيار ثبت فشله لاحقاً حيث تعمقت الأزمة وتعقدت حتى بلغت ما يسمى بالأزمة العقارية عام 2008.
منذ ربيع 2007 أخذت الأزمة المالية تزعزع اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية برمته، وتعاظمت هذه الأزمة في العام 2008 لتتخذ أبعادا عالمية.
الانتقال من الرأسمالية المنتجة إلى الرأسمالية المضاربة :
شكلت أزمة نهاية الستينات محطة انتقال إلى النظام الرأسمالي المالي، الذي تعمق وتحول إلى نظام رأسمالي مضارب، ومع هذا الانتقال “من النظام الرأسمالي المنتج إلى النظام الرأسمالي المضارب” تعرض هذا النظام لانهيارات متتالية: انهيار الأسواق الأسيوية منتصف التسعينات، ثم انهيار أسهم تكنولوجيا المعلومات، بداية الألفية الثالثة، وصولا إلى ما سمي بالانهيار المالي الكبير منتصف عام (2008)، حيث ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وعمت البطالة، واتسع نطاق الجوع، والذي ما تزال آثاره وتداعياته قائمة ، وقد تكون غير قابلة للعلاج.
حتى مطلع السبعينات كانت القطاعات الإنتاجية هي التي تهيمن على الاقتصاد، أما المصارف فإن دورها كان ذا طبيعة خدمية، تزود القطاع الإنتاجي بالنقد الذي تحصل عليه من المدخرين. وعلى صعيد آخر، كانت الدولة حتى ذلك الحين ، هي التي تحدد لأسواق المال ما يجوز لها فعله وما لا يجوز، وكانت هي التي تحدد أسعار الفائدة.
تداعيات أزمة العقار 2008 و مظاهرها الاقتصادية الاجتماعية في المركز الرأسمالي :
- تفكيك بنية المجتمع، وانزياحات هائلة في الثروة من يد الدول ( جميع دول العالم مديونية ,وأعلاها مديونيةً الولايات المتحدة الأمريكية) ليد الشركات متعدية الجنسيات والطغم المالية، وانزياح الثروة من يد المجتمعات إلى يد الأفراد والعائلات، فتعمق التباين بين الأغنياء والفقراء، وبين دول المركز الرأسمالي ودول المحيط.
حتى نهاية القرن العشرين ، كانت اللامساواة في توزيع الدخول هينة، إلى حد ما، لكن الأمر تغير في العقدين الماضيين، حيث تفاقمت اللامساواة بشكل مفزع .
- اضمحلال الطبقة الوسطى، وتراجع نسبتها في المجتمع، خلال سبع سنوات أكثر من عشرة بالمائة، وجزء ضئيل من هؤلاء استطاع أن يرتقي إلى مرتبة أعلى، والجزء الأعظم منهم انحدر إلى مصاف الثلث الأخير من السلم الاجتماعي.
- “أزمة الشرعية” : تزايد عدد المواطنين الرافضين لهيمنة الطغمة المالية على الاقتصاد، ولم يعودوا يثقون بأن المنافسة في الأسواق العالمية والمباراة والمضاربة في البورصات تعود بالنفع عليهم. كما وأصبحوا يتحفظون على النظام السياسي لاقتصاد السوق، وعن منظومة الديمقراطية البرلمانية السائدة.
- كانت تبدو الرأسمالية، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، أقوى منها في أي عصر مضى، لكن الرأسمالية المضاربة التي تشكلت اتصفت بالوحشية، حيث هيمنت الشركات العملاقة وطغم رأس المال المالي على الدولة والمجتمع والسوق، لتعظيم رفاهية حفنة من البشر، وتدمر المجتمعات.
- الرأسمالية المعولمة المضاربة تقضي على فرص العمل بلا هوادة، لا تلاحق فقط الكادحين، بل تشمل البرجوازية الوسطى والصغرى أيضا.
- النظام المالي يقوض أسس الاقتصاديات الوطنية، فالأزمة المالية التي اندلعت في الولايات المتحدة في ربيع عام 2007، تحولت إلى خطر ماحق يهدد الاقتصاد العالمي برمته. حيث وثقت العولمة العلاقات بين الأشياء والفعاليات: البورصة في شانغهاي على علاقة بمثيلتها في نيويورك، والقروض والعقارات الأمريكية على صلة وثيقة بالمدخرات الألمانية، وفرصة العمل في فيتنام وثيقة العلاقة بفرصة العمل في برلين. أصبح العالم أسرع، وما يحدث في طرف نلمس تأثيره في طرف آخر.
هذا النظام يجازي بلا حساب ويعاقب بلا رحمة.
أتساع رقعة التفاوت في توزيع المخاطر: فالأزمة المالية التي عصفت في العالم دفع ثمنها الكادحون مرتين، ففي الوقت الذي تم فيه تبديد مدخراتهم، تم إلزامهم جميعا بتحمل الأعباء المالية التي ترتبت على أزمة المصارف، فعلى حساب دافعي الضرائب تم إنفاق المليارات لإنقاذ هذه المصارف، ويتم تسريح العمال والعاملين، في حين لم يتحمل المسؤولين عن إنتاج الأزمة أي عبء . لا بل وحسب العقود التي توقعها الشركات الكبرى فإنها تدفع مكافآت مجزية لنهاية الخدمة لقادة هذه الشركات.
التفاوت في توزيع فرص التعليم ، فأبناء الأغنياء يتمكنون من تحصيل التعليم في أرقى المدارس وأحسن الجامعات ، مما يمكنهم من التحرك بمرونة في ثنايا الاقتصاد المعولم بيسر وسهولة ، على العكس من أبناء الكادحين الذين لا يمتلكونها.
تحطيم النقابات العمالية لصالح أصحاب رؤوس الأموال بدأ في بريطانيا.
إضعاف وتهميش النقابات كان شرط تمرير مخططات اللبرالية، فكان افتعال مارغرت تاتشر- معركة ضد النقابات العمالية، وأصبح تطبيق هذه السياسات رهناً بنتائج المعركة ضد النقابات العمالية تحديدا.
بعد بضعة أسابيع من تسلم مارغرت تاتشر الحكم، شرّعت حكومتها ” قانون العمل” اللازم لكسر شوكة النقابات، ففتحت معركة ضد عمال المناجم في شهر آذار من عام 1984، وذلك من اجل إغلاق 20 منجما من المناجم الحكومية البالغ عددها 176 منجما. وكان هذا القرار يهدد بضياع 20 ألف فرصة عمل، وان إغلاق الخمسين منجماً ، قادم بعد ذلك بفترة قصيرة، بهدف تحطيمهم، استمرت معركة كسر العظم 51 أسبوعا، لم تشهد بريطانيا طوال حياتها مثيلا له في صدام شوارع.
كانت الحصيلة هي اعتقال 9000 عامل وإصابة 1400 عامل وشرطي بجروح ، كان بعضها خطيراً جدا، كما قتل خمسة مواطنين، وقدرت الخسائر بثلاثة مليارات جنيه، وكان مردوده على كافة النقابات العالمية.
“على الرغم مما اتخذت من عمليات إصلاح ، لم تستطع حكومة تاتشر من إنعاش الاقتصاد، فارتفعت الأسعار بمعدلات تتراوح بين 8 و 9% في كل عام. كما تدهورت الصناعة، فالعديد من مصانع الحديد والصلب أغلقت، والترسانة البحرية صارت لا تكاد تحصل على عقود جديدة، والصناعة المعدنية أخذت تعلن الإفلاس ، كما عرضت صناعة الدراجات البخارية والسيارات للبيع.”
الخلاصة:
منذ ذاك والأزمة في بريطانيا والمركز الرأسمالي عموماً تتعمق، ولا يوجد مؤشرات حقيقية لإمكانية الخروج من هذه الأزمة، لذلك عمل الإعلام المسخر من قبل المركز الذي أنتج الأزمة، على خلق استقطاب وهمي في المجتمع بين مؤيد للبقاء في الاتحاد ومطالب للخروج منه.
أزمة المركز الرأسمالي العالمي، وبريطانيا جزء منه، هي أزمة بنيوية في كينونة النظام السائد، وكافة الحلول التي جربت، من عمر الأزمة، لم تتمكن من حلها بل عمقتها، لأن الحلول التي طرحت وطبقت تعتمد ذات الأدوات التي سببت الأزمة.
في سياق نهج ” صناعة القبول وثقافة القطيع ” المعتمد من قبل المركز، نجح إلى حد كبير في إنتاج استقطاب وهمي بين مؤيد ومعارض للبقاء ضمن الاتحاد، كما ونجح في التعمية على الأسباب الحقيقية والعلة التي أنتجت الأزمة، لصالح توجيه الأنظار نحو أسباب وهمية: وحش المهاجرين الأجانب، الحفاظ على الهوية، الكلف المترتبة على الدول الغنية في الاتحاد لصالح الدول الفقيرة فيه، استعادة القرار الوطني المستقل …الخ.
غياب أي دور فاعل للنقابات العمالية والقوى التقدمية في هذه المعركة، وغياب المشروع البديل لمشروع الطغم المالية المهيمنة على القرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في المركز.
ملاحظة: يرجى العودة إلى تحليل المبادرة حول الواقع الذي نشأ بعد الأزمة، على هذا الموقع تحت عنوان ” عالم جديد أخذ بالتشكل”
” كلكم للوطن والوطن لكم “