سليمان الصدي
يروى أن رجلاً يُدعى حُنيناً كان إسكافيا يصنع الأحذية والخفاف، ويبيعها للناس. وذات يوم جاءه أعرابيّ ليشتري منه خفّين. فلم يقبل الأعرابيّ المبلغ الذي عرضه حُنين ثمناً للخفين، وأراد أن يساومه لينقص الثمن، فأطال الأعرابيّ المساومة حتى ضايق حنينا، وبعد مناقشة طويلة انصرف الأعرابيّ من غير أن يشتري الخفين، فغضب حنين، وأراد أن يغيظه، وفكّر له في خدعة يخدعه بها، ويسخر منه، ركب الأعرابيّ جمله واستعدّ للعودة إلى قبيلته، فأسرع حنين إلى المكان الذي سيمر منه الأعرابيّ، ووضع أحد الخفين وسط الطّريق، وسار مسافة، ثمّ ألقى الخف الآخر في مكان أبعد قليلاً، مرّ الأعرابيّ – وهو عائد – بمكان الخف الأول، فنزل وأمسك الخف وقال: ما أشبه الخف بخف حنين الإسكافي! يا خسارة! ماذا يفيد هذا الخف وحده؟! لو كان معه الخف الآخر لأخذتهما. فترك الخف، وركب جمله، واستمرّ في طريقه حتى وصل إلى الخف الثاني! نزل وأمسك الخف الثاني، وقلّبه في يده وقال: يا للعجب! هذا الخف أيضا يشبه خفّ حنين تماماً، يا لسوء الحظّ ! لماذا تركت الخف الأول ؟؟! لو أخذته معي، لنفع الخفان واستفدت منهما، ينبغي أن أرجع فورا، وأحضر الخف الأول! وكان حنين يراقب الأعرابيّ من خلف تلّ قريب لينظر ماذا سيفعل. فلمّا رآه قد مشى ليحضر الخف الأول أسرع حنين وساق جمله بما عليه من بضاعة واختفى. رجع الأعرابيّ يحمل الخف الأول، فوجد الخف الثاني على الأرض ولم يجد جمله. حمل الخفين وعاد إلى قبيلته. فتعجّب القوم عندما رأوا الأعرابيّ يرجع إليهم ماشياً على رجليه، سألوه: بماذا جئت من سفرك؟ أجابهم جئت بخفيّ حنين! ضحك القوم وسخروا من الأعرابيّ الذي خاب مسعاه، وخسر جمله، وعاد إليهم لا يحمل إلاّ خفّي حنين! وظلّوا يرددون: رجع بخفّي حنين!..
وما أشد الشبه بين الأعرابي وأعرابي القرن الحادي والعشرين أردوغان الذي تنطح لثورة الربيع العربي، وساندها، وقلب سياسة صفر مشاكل إلى سياسة صفر أصدقاء، وحين نظر ما فعلت يداه لم يجد سوى خفي حنين.
إن الثورات قطيعة مع الماضي، لا عودة إليه، وهذا ما لم يحصل في الربيع العربي. فقد رسم أردوغان آمالاً عريضة لاستعادة السلطنة، وغدا يختال منتشياً بأحلام السلطنة التي كانت هاجعة كأهل الكهف، وتنبهت مع زعيق الإسلاميين، ففتح حدود بلاده، وأوى، وسلح، وحول بلاده إلى قنابل موقوتة ذلك أن الجاهل في السياسة من لا يتعظ بدروس التاريخ، فقد ملأت أذنيه الكبيرين تكبيرات الإسلاميين وهتافاتهم، فكبر رأسه مع أذنيه، وزرع القنابل في بلده بدل الورود.
فمن مشكلة الأكراد إلى أزمة الاقتصاد المأزوم إلى عدائه مع جيرانه، وربما كان الأهم من ذلك الكم البشري السوري والقسم الأكبر منه إسلامي الهوى، وبعضهم الآخر لا يبحث إلا عن لقمة عيشه.
لقد فتح حضنه واستقبلهم، وكان سعيداً بالتقاط السيلفي معهم هو وزوجه أمينة، وكان الزوجان السلجوقيان مبتسمين وهما يطربان لهتافات اللاجئين، فقد بدا المنقذ لهم من نظام الأسد، لكنه لم ينتبه إلى أن حلمه باجتياح سوريا قد انقلب على رأسه، فاجتاح السوريون قسماً من الأراضي التركية، واستقروا فيها، وشكلوا كتلة سكانية لا يستهان بها.
وقد سهل حزب العدالة والتنمية حصول بعض الوافدين السوريين على الجنسية التركية لاستغلال أصواتهم، فشكلوا عبئاً على الدولة التركية، فالوافدون سيشاركون الأتراك في العمل والتجارة، وقسم منهم تسلح ضد الدولة السورية، ومارس الإرهاب، وربما تحول حقدهم على النظام السوري إلى حقد مواز على الاتراك فيما بعد، فهم من تسبب في مأساتهم؛ لذا يرى المراقبون أن جنوب تركيا سيشتعل بالأزمات لأن هؤلاء الوافدين لن يعودوا، وربما طالبوا بالاستقلال عن تركيا مستقبلاً إذا شجعتهم الحكومة السورية على التمرد، وسيكون أمام تركيا مشكلة معقدة أكثر من المشكلة الكردية، فالسوريون ممتدون من لواء اسكندرون إلى جرابلس، وهؤلاء في حال شعورهم بالخطر على كيانهم سيتكتلون ضد الأتراك. لقد وعت تركيا خطورة الوضع فشجعتهم على رمي نفسهم في البحر والذهاب إلى أوربا مزينةً لهم الهجرة الثانية.
لقد أدرك الأتراك أن ثمة تعدداً عرقياً وبيئياً في ظل وجود السوريين، ولكنهم أثبتوا أنهم لا يزالون مراهقي سياسة، فالسياسة ليست صوراً تذكارية مع اللاجئين بل استقراء للمستقبل، لقد طرب أردوغان للهتاف، ولم ير أبعد من أنفه، ولعب لعبة جغرافيا أكبر منه فلقنه التاريخ درساً لن ينساه..
لقد كان أمامه مشروع رائع لو أحسن استخدامه هو مشروع ربط البحار الخمسة الذي قدمه السوريون لكن طيشه ضيع الفرصة، وسيرحل مخلفاً وراءه أعداء في الداخل والخارج وأزمات لا حصر لها، ولن ننسى جرح الأرمن الذي فتح من جديد.
لقد أدرك متأخراً أن عليه تغيير سياسته، فاعتذر لتركيا، وأعاد العلاقات مع تل أبيب، وها هو ذا وزير خارجيته يلوّح بأغصان زيتون وعيناه شاخصتان على سوريا العز والكرامة. لقد عاد أردوغان من رحلته الحُلمية تجاه السلطنة بأقل من خفي حنين مثبتاً أنه من مراهقي السياسة!