لماذا التَّرْكِيز على الإمبريالية الأمريكية؟

الطاهر المُعِز

تتعامل الإمبريالية الأمريكية مع المُنافِسين ومع “المُحايِدِين” كَخُصُوم أو حتى كَأَعْدَاء، واعتمدت سِلاحًا “جديدًا” (عانت منه كوبا منذ أكثر من نصف قرن) يُسَمِّيه الباحثون “القُوَّة النّاعِمَة” ويتمثل في العقوبات والحصار الاقتصادي و”الإنقلابات الدُّسْتُورية” أو “الديمقراطية”، والحروب الإعلامية ونشرِ ثقافة “السوق الحُرّة” بواسطة الأحزاب والجمعيات والمنظمات “غير الحكومية”، فيما تُحاول مجموعة “بريكس” (البرازيل وروسيا والهند والصِّين وجنوب افريقيا) التَّكَتُّلَ للدفاع عن مَصَالِحها في وجه آلة “العولمة” التي تُهَيْمِنُ عليها الإمبريالية الأمريكية وذراعها العسكري “حلف شمال الأطلسي”، والتعاون فيما بينها لتمويل مشاريع البنية التحتية وتكثيف التبادل التجاري فيما بينها أو مع دول “الجنوب” الأخرى، لكن الإمبريالية الأمريكية التي تُهَيْمِنُ على الأمم المتحدة ومُنظّماتها وعلى المؤسسات المالية الدّولية (البنك العالمي وصندوق النقد) وعلى منظمة التجارة العالمية وغيرها، لا تَتْرُكُ أي هامش لأي دولة أخرى (أو مجموعة من الدول)

اعتبرت الولايات المتحدة جنوب القارة الأمريكية بمثابة امتداد لأراضي “العالم الجديد” التي استولى عليها مُسْتَوْطِنوها الأوروبيون من سكان البلاد الأصلِيِّين، وبعد التوسع غربًا حتى المُحيط، توسَّعَتْ جنوبًا في القرن التاسع عشر فاحتلّت 55% من أراضي المكسيك وقَسَّمت عددًا من البلدان واقتطعت منها مناطق استراتيجية نَصَّبَتْ عليْها عُمَلاءها، ونظمت الإنقلابات العسكرية وأنْشَأت مليشيات لتجّار المُخَدَّرات وأشْرفت أجهزة المخابرات الأمريكية على تسْليحِها وتدريبها لخلق حالة من عدم الإستقرار لخلق الظُّرُوف المُلائمة لتململ المواطنين ودعمهم لأي سُلْطَةٍ تُحَقِّقُ الإستقرار، ولو بالحديد والنار، وبواسطة الإنقلابات العسكرية، ومنذ نحو عقدين أَفرَزَت الإنتخابات الديمقراطية (بمقاييس أمريكا) مجالس نيابية ورؤساء مَحْسُوبين على اليسار في عدد من بلدان وسط وجنوب القارة الأمريكية، وحاولت الولايات المتحدة الإطاحة بهذه الأنظمة بالقوة كما حصل في فنزويلا وبالحصار الإقتصادي كما حصل في الأرجنتين و”الإنقلابات الديمقراطية” كما حصل في البرازيل، ورَكّزت الإمبريالية الأمريكية على هذه البلدان الثلاثة لما تَرْمُزُ إليه من إرادة وقوة وتَحَدّ، فَتَدَخَّلَتْ في الحملات الإنتخابية (وهي شأنٌ دَاخِلِي) في البرازيل والأرجنتين، أول وثاني اقتصاد في أمريكا الجنوبية، ودعَّمَت اليمين المُتَمثل في      “موريسيو ماكري” رئيس بلدية العاصمة بوينس آيريس في الأرجنتين الذي عاد إلى تطبيق وَصَفَت البنك العالمي فدخلت البلاد بعد سنة واحدة من انتخابه في أزمة جديدة تمثَّلَتْ مظاهرها في تحرير الأسعار وتسريح العُمّال…

في البرازيل –أكبر اقتصاد في جنوب القارة الأمريكية- نَظَّمت الإمبريالية الأمريكية “انقلابًا ديمقراطيًّا” بعدما أرهقت حكم “اليسار” (حزب العُمّال) بالحملات العِدائية المتلاحقة ضد الرئيس “لولا داسيلفا” ثم ضد خليفته “ديلما رُوسيف” لأن البرازيل ابتعدت (ولو قليلاً) عن قواعد التجارة الحرة وقَيَّدَتْ دخول الرساميل الأجنبية (أي الأمريكية) في رأس مال شركات النفط والإنشاء والزراعة، وقاد الإنقلاب “الديمقراطي” “ميشال ثامر”، زعيم حزب كان حليفًا لحزب العُمال ويتقاسم معه السُّلْطَة، قبل أن ينقلب عليه تحت إشراف أمريكي، ويُلاَحِقُه القضاء في قضايا فساد، في حين لم يتمكن أحد من اتهام “ديلما روسيف” بالفساد شخصيا أو باستغلال السُّلْطَة، بل يعرف الجميع انها قاومت الدكتاتورية العسكرية وصَمَدَتْ واُصِيبَتْ بالسرطان نتيجة السجن والتعذيب…

في آسيا نَظَّمت الإمبريالية الأمريكية مجازر ضد الشيوعيين وعائلاتهم في أندونيسيا (500 ألف قتيل) وفي ماليزيا (قرابة 500 ألف قتيل أيضًا) سنة 1965 تحت يافِطَةِ “مُحارَبَة الشُّيُوعِية” أي بغطاء عقائدي، دفاعًا عن الرَّأسمالية ضد نقيضها النظام الإشتراكي، وكأن لا حق للبشر في الدّفَاع عن عقيدة (إيديولوجيا) أخرى غير الرأسمالية، ولو كانو في الطَّرَفِ الآخر من الكرة الأرضية، وفي بلاد مُسْتَقِلَّة، لها عَلَم ونشيد رسْمِي ومقعد في الأمم المُتَّحِدَة ورئيس، الى غير ذلك من المُقَوّمات الشَّكْلِيَّة للدُّوَل… أما الهدف من وراء ذلك فهو مُحَاصَرَة الصِّين التي كانت أحد مُؤَسِّسِي مؤتمر “باندونغ” (اندونيسيا 1955) مع يوغسلافيا التي فَتَّتَتْها أمريكا والحلف الأطلسي بعد انهيار جدار برلين والهند التي تحولت إلى الصف الآخر والميل نحو تأييد السياسة الخارجية الأمريكية والصُّهْيُونية، ومع مصر التي تحولت إلى قاعدة أمريكية وصهيونية بتوقيع اتفاقيات كامب دفيد (1979)

مكانة آسيا في استراتيجية الهيمنة الأمريكية:

سبق وان تناولنا بالتحليل (منذ 2012) تركيز السياسات الخارجية الأمريكية على منطقة آسيا والمُحِيط الهادئ، وعلى قرارات الإمبريالية الأمريكية تحويل نحو 60% من قواتها العسكرية البحرية (التي ستتعزَّزُ كثيراً) إلى آسيا، وأعلن باراك أوباما (صاحب جائزة نوبل للسلم) ان الهدف هو مُحاصَرة الصِّين وإغلاق طرق إمداداتها بالنفط والمواد الأولية إن لزم الأمر… بالإضافة إلى هذا الإتجاه العسْكَرِي الذي يجري تنفيذه بأسرع مما كان مُتَوَقَّعًا (رغم الأزمات المالية والإقتصادية)، أَنْشَأت الولايات المتحدة عدة هياكل سياسية، ذات صبغة اقتصادية وتجارية لإحكام الطَّوْق الإقتصادي حول الصِّين، وهي مُكَمِّلَة للحِصَار العسْكَرِي، وجمعت حُلَفَاءَها في عدة مبادرات أهمها الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP) التي تهدف ردع الصِّين، إذْ صَرَّحَ الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” بصريح العبارة: “لا يمكن أن نسمح لدول أخرى منها الصين بمحاولة تغيير قواعد الاقتصاد العالمي” (ما تَفْرِضُهُ أمريكا يُصْبِحُ “عالميًّا”)، وعَزَّزَت الإمبريالية الأمريكية نُفُوذَها الإقتصادي والسياسي والعسكري في دول شمال شرق آسيا وجنوب شرق آسيا، وتكثيف التواجد العسكري في اليابان وكوريا الجنوبية والفلبينيين وكذلك في أستراليا، أكبر شريك تجاري للصين، وتشجيع الخطاب والمُمارسات المُناهِضة للصّين، رغم القطيعة التي أعلنتها الصين (وحزبها “الشيوعي”) مع كل ما يَمتُّ بِصِلَةٍ إلى الإشتراكية والشيوعية، لذا فإن الصِّراع هو مع مُنافِس، يُطَبِّقُ قواعد الإقتصاد الرَّأسمَالِي وليس مع خَصْمٍ إيديولوجي…

كانت الولايات المتحدة راسخة القدم في آسيا منذ زمن بعيد ونَفَّذَتْ اعتداءات عسكرية منذ أواخر القرن الثامن عشر (ضد الفلبين التي كانت مُسْتَعْمَرَة اسبانية) ولها مُسْتَعْمرات وجزر في المُحِيط الهادئ احتلَّتْها منذ القرن التاسع عشر، وأَسَّسَتْ سنة 1967 رابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان” من خمس حُلَفَاء، وأصبَحت تَظُمُّ حاليا عشرة حُلفاء (بروناي وميانمار وكمبوديا واندونيسيا ولاوس وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند وفيتنام)، ولها علاقات شَرَاكة مع أستراليا والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا

الاستراتيجية الدِّفَاعِيّة للصين وروسيا:

من جِهَتِها تعمل الصِّين على فك الحصار المُعْلَن، وكَثَّفَت الإتصالات مع روسيا التي تحاصرها القوات الأمريكية والأطلسية أيْضًا على حدودِها في بلدان البلطيق وفي أوكرانيا وبولندا، بَرًّا وبَحْرًا، كما تَعْمَلُ السعودية على تخريب اقتصاد روسيا من خلال إغراق السوق العالمية بالنفط الرَّخِيص، وتَعْمَلُ روسيا والصين على تعميق التعاون الإقتصادي بينهما (خطوط أنابيب الغاز وخطوط السكك الحديدية…)، فيما تعمل الصّين على تكثيف التعاون الثُّنائي والمُشْتَرَك مع بلدان آسيا والمحيط الهادئ، خُصُوصًا تلك التي تَأَثَّرَت بالأزمة المالية التي تَضَرَّرَتْ منها أسواق آسيا وروسيا (1997- 1998)، والتي دَعَتْ إلى التَّكَامُل الإقتصادي الآسيوي “للخروج من منطقة الخطر” بِدَعْمِ من الدول الكبرى في المنطقة (اليابان والصين وكوريا الجنوبية واستراليا)، ويَتعامل القادة الصينيون مع السياسة العُدْوانية الأمريكية بتعزيز الدور الإقتصادي للصين إقليميا في معظم مناطق آسيا والمُحيط الهادئ، أي في مُحِيطِها المُبَاشر، إضافة إلى ما للصين من نفوذ في افريقيا وأمريكا الجنوبية، وتعدَّدَت المُبادرات الصينية الهادفة إلى “الدفاع عن النفس” ومشاريع التكامل الاقتصادي الإقليمي، ومنها ما تُسَمِّيه الصّين “الحزام الإقتصادي”، وطريق الحرير (وهو أوسع من منطقة آسيا) والشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، كبديل للمشروع المناهض للصين والمُتَمَثِّل في الشراكة الإقتصادية بين ضفَّتَيْ المحيط الهادئ، بإشراف وزعامة الولايات المتحدة

يَشْمَلُ المَشْرُوع الصِّيني تطوير العلاقات السياسية والإقتصادية مع الحلفاء الرئيسيين للولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، رغم الخلافات حول بعض المناطق في بحر الصين الجنوبي أو الشمالي وتطمح الصين إلى تطوير هذه العلاقات مع اليابان بشكل خاص (القُوة التي كانت تستعمر الصين ومعزم بلدان آسيا المجاورة) لضمان حِيَادِها عبر تَداخل العلاقات والمصالح المُشْتَرَكَة، ولكن البيانات المُتَوَفِّرَة تظْهِرُ انخفاض حجم التبادل التجاري بين البلدين من 345 مليار دولار سنة 2011 إلى 279 مليار دولار سنة 2015 بسبب النزاع على جزر في بحر الصين الشمالي، وأعلنت حكومة الصين في عدة مناسبات انها تهدف إلى زيادة دورها في اتخاذ القرارات الاقتصادية الدولية

تَهْدِفُ رُوسِيَا بِدَوْرِهَا إلى فك الحصار الأمريكي الذي يُطَوِّقُها عسكريًّا واقتصادِيًّا، ولذلك تعْمَلُ حكومتها على تَعْزِيز الشَّرَاكَة مع جيرانها من خلال “الاتحاد الاقتصادي الأوراسي” الذي يربط أوروبا وآسيا، ويشمل روسيا والصين وبلدان “آسيان” أيضًا، كما تتعاون روسيا مع الصّين من خلال اتفاقيات الطاقة وخطوط الأنابيب وتطوير البنية التحتية عبر حدود البلدين، وكذلك مع بلدان منطقة آسيا والمحيط الهادئ من خلال تأسيس شراكة في مجال التقنيات والإتصالات، كمرحلة لتأسيس تعاون “جيواستراتيجي” في المجال العسكري، تعتزم الولايات المتحدة نشر نظام صواريخ جديد في كوريا الجنوبية (تحت اسم نظام “ثاد”)، كجزء من الدرع العالمية المضادة للصواريخ التى تنشرها أمريكا لتعزيز هيمنتها على العالم، ما يُهَدِّدُ أمن روسيا والصين مَعًا، واضطرت حكومتا الدولتين لتكثيف وتسْرِيع التنسيق العسكري، لِمُواجَهَةِ الخطر المُشْتَرَك، وتنفيذ مناورات بحرية مُشْتَرَكَة تحت إسم “البحر المُشْتَرَك 2016” في بحر الصين الجنوبي (أيلول 2016)، وأعلنت استراليا والولايات المتحدة أنهما ستُرْسِلان “طائرات وغوّاصَات إلى موقع المناورات لمراقبتها عن كَثَب”…

خاتمة:

لم يسبق للولايات المُتَّحِدة خوض حرب دفاعية في تاريخها القصير (مُقَارنة بالأمم العريقة) وكانت كل حُرُوبِها هُجُومِيّة وعُدْوانِيّة، وكَثَّفَتْ خطابها وممارساتها العدوانية بعد انهيار جدار برلين وتفكُّك الإتحاد السوفييتي وحل حلف “واسو”، ودفعتْ أمريكا العالم إلى جولة جديدة من “سباق التَّسَلُّح”، بينما كان السُّذّجُ والمُغَفَّلُون (سياسيًّا) ينتظرون انفراجًا في العلاقات الدولية…

فرضت الإمبريالية الأمريكية سُلْطَتَها على حُلَفَائِها في أوروبا وكندا وأستراليا واليابان والحلف الأطلسي، من خلال تَسْرِيع هيمنة الشركات الكبرى ذات المنشأ الأمريكي وهيمنة أمريكا العسْكَرِية وجر العالم إلى حروب لا تنتهي، ضد بلدان لا تمتلك القوة العسكرية التي تُمَكِّنُها من حماية أراضيها وسُكّانِها وبُنْيَتَها التحتية، وكان مُجَمَّع الصناعات الحربية الأمريكية أكبر مُسْتَفِيد من هذه الحُرُوب، وعمدت الولايات المتحدة إلى توسيع حلف شمال الأطلسي (ناتو) في وقت لم يَعُدْ له منافس على الصعيد العالمي، وكان السُّذّجُ والمُغَفَّلُون ينتظرون حل هذا الحلف، وعمدت إلى محاصرة الصين وروسيا اللتين لم تُهَدِّدَا أبدًا لا الولايات المتحدة ولا حلفاءها، ونشرت قواتها العسكرية على حدودهما كما عمدت إلى حصارهما عسكريا…

اعتَبَرَت الإمبريالية الأمريكية كل من لا يقبل بهيمنتها عَدُوًّا وجب سحقُه إن أمكن، وإذلاله وتركيعه إن لم تتمكَّنْ من سَحْقِهِ، ولذلك تُعْتَبَرُ أمريكا حالِيًّا أكبر خطر على العالم، وهي العَدُو الرَّئِيسِي للشعوب وللكادحين وللحكومات التي تَطْمَحُ إلى السلم وإلى التحرر من الهيمنة الإقتصادية والسياسية والعسكرية…

بخصوص الوضع في الوطن العربي، تُعَدُّ الإمبريالية الأمريكية السَّنَد الرَّئيسي للكيان الصهيوني ولاغتصاب فلسطين (تَلِيها أنظمة أوروبية -مهما كان لون الحزب الحاكم- مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا…) وهي التي تُسانِدُ الأنظمة العميلة والدكتاتورية، وأشرفت على تخريب العراق وليبيا واليمن وسوريا ودَعمت كافة الحُكّام الرّجعيين العرب…

لهذه الأسباب وجب التركيز على الإمبريالية الأمريكية، ما دامت تَقُودُ الرأسمالية العالمية وأدواتها من الأمم المتحدة إلى البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها، وما دامت تعمل على إلغاء دور الشعوب في تقرير مصيرها واستخدام القوة العسكرية لإزاحة كل خَصْمٍ أو مُنافِس…

سبق أن نَشَرْتُ مقالات سابقة عن مخططات الإمبريالية الأمريكية في آسيا، اعتمادًا على وثائق أمريكية، أما معظم البيانات الواردة في هذه الورقة فهي من وكالة الأنباء الصينية “شينخوا” وموقع “روسيا اليوم” ووكالات “رويترز” و”بلومبرغ”، وكذلك من ورقة مُتَرْجَمة عن المخططات الأمريكية في آسيا نشرتها صحيفة “قاسيون” السورية (حزب الإرادة الشعبية).

  • ·       الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية.