كيف فقدنا عزمي بشارة..!

أكرم عطا الله

أعترف أنني كنت أول المخدوعين بشخصية الرجل، وقد بلغت ذروة إعجابي به عام 99 حين قرر تحدي إيهود باراك بأن يترشح لرئاسة الحكومة في إسرائيل عندما كان رئيس الوزراء في تلك الدولة ينتخب مباشرة من الشعب، فقد كنت أتلقف مبكرا كل ما كان  يكتبه  المفكر وعالم الاجتماع البارع الذي كان يقدم الفكرة العميقة بأسلوب ساحر وبسيط.

بقلم ـ أكرم عطا الله

آنذاك كنت أتساءل دوما لماذا يستعين الراحل ياسر عرفات بالدكتور أحمد الطيبي ويقربه إليه بينما يفعل العكس مع المفكر؟ الآن بعد عقود جاءت الإجابة من نموذج وطني جسده الطيبي من على منصة الكنيست، الذي ظل مقاتلا ملتصقا بأبناء شعبه ومدافعا عنهم، بينما فر بشارة من ساحة المعركة.. أدركت أن بصيرة الزعيم  كانت ثاقبة، وكان كما يقولون “يعرف بالرجال”.

حدث تحول هائل وعصي على الفهم  لدى المفكر وعالم الاجتماع  الكبير،  لقد انقلب الرجل على كل شيء كتبه، فكيف أصبح  بشارة مُنَظّرا لكل هذه الفوضى في المنطقة وناطقا باسمها ومُلهِمها؟ كيف تحول القومي إلى دولة المشيخة التي دمرت الدول التي دعت للقومية؟ كيف تحول المسيحي إلى الدعوة لأشد حركات الإسلام السياسي تطرفا؟ كيف تحول المثقف التقدمي ليكون ليصقا بأكثر الأنظمة تخلفا؟ وكيف تحول مثقف الحداثة ليجد له مستقرا في دولة العشيرة؟ وكيف تحول الرجل الذي اتهم بدعم حزب الله وتلقي من أموال وزار سوريا والتقى رئيسها وناصرها إلى أشد عدائها.. كل واحدة منها عصية على التفسير.

أعترف أنني أصبت بخيبة أمل كبيرة عندما هرب بشارة تاركا جمهورا عربيا يخوض معركة الهوية بشكل يومي، لقد كنا بحاجة له كرأس حربة في كفاح فلسطيني 48 وقد كان كذلك لكنه انسحب بهدوء بعد أن تمكنت إسرائيل من خديعته ونصبت  له كمين لأنها رأت في مغادرته أهون الشرور فسهلت له طريق الخروج بدهاء شديد وخطة محكمة رسمتها دوائر المخابرات.

لقد تمكنت المخابرات الإسرائيلية من وضع يدها على علاقة عزمي بشارة يحزب الله وتلقيه مبلغ 25 ألف يورو من الحزب وهذه تهمة بالنسبة لعضو كنيست بأنه يتلقى الأموال من ألد أعداء إسرائيل، ولكنها أجرت حسابات العقل لأن محاكمة الرجل تستدعي رفع الحصانة البرلمانية عنه خلال ثلاث جلسات تبث على الهواء مباشرة مع ما تحمله تلك من فضيحة للدولة ثم بعد ذلك محاكمته التي سيبرع المثقف فيها ويحولها إلى محاكمة للاحتلال كما فعل مروان البرغوثي هذا سيناريو لا تريده فقامت بدهاء بتسريب خبر صغير لصحيفة إسرائيلية عن معلومات لدى الشاباك عن شخصية كبيرة تتلقى أموال من حزب الله.

التقط الرجل الرسالة وعلى الفور حزم أمتعته إلى الأردن ثم مصر التي قدم في السفارة الإسرائيلية فيها استقالته القانونية وفقا للقانون الإسرائيلي وبالتأكيد كان ضباط المخابرات على المعبر يودعونه بسعادة لأنه وقع في الفخ وانسحب بهدوء دون ضجيج، ونحن بدورنا خسرنا تلك المحاكمة التي كان سيحضرها متضامنون ومحاميون من كل العالم وستكون جردة حساب لدولة إسرائيل وربما تستمر لسنوات تتناقل أخبارها وسائل الإعلام والصحف لكن الرجل بانسحابه أفسد علينا ذلك.

كان يجب أن يبقى ويعتقل ويصمد كما كان يطالبنا جميعا بالصمود والاستشهاد حتى، لكن الرجل اختار الهروب على ألا يسجن ليوم واحد مسجلا واحدا من أسوأ نماذج السياسيين أو المثقفين العرب الذين يملأون الدنيا كلاما ويسقطون في أول محك عملي، وأعترف من يومها توقفت عن القراءة لعزمي بشارة بالرغم من أنني كنت من المأخوذين به كعالم اجتماع تمكن من تقديم رؤى سسيولوجية للمجتمع الفلسطيني ونظريات هامة.. فلو بقى أستاذ لعلم الاجتماع في جامعة بير زيت كان ذلك مفيدا جدا بدل أن يذهب لتلك اللعبة السياسية التي اتضح  أنه لم يكن مؤهلا لها لا من حيث سرعة ارتباطه المالي ولا من حيث قدرته على المواجهة والصمود.

فقدناه كعالم وفقدناه كسياسي في منطقة اشتباك يومي تحتاج إلى تعزيز  للهوية.. والأسوأ أنه انتقل إلى مربع أكثر خطورة حيث تحول إلى أبرز أساتذة التنظير للفوضى الخلاقة التي ضربت المنطقة العربية بزلزال مدمر لن تهدأ هزاته الارتدادية.. زلزال أطاح باستقرار ليبيا وسوريا وتماسك جيشها وهي الدولة التي زارها واتهم بالارتباط معها ، وكاد الزلزال يطيح بمصر وجيشها.

إنه ظاهرة تستحق التوقف ،صحيح أنه احترق كما كتب غسان بن جدو لكن كيف تمكن من جمع كل هذه المتناقضات؟ كلما رأيته يطل على قناة الجزيرة تذكرت ياسر عرفات الذي لم يثق به مبكرا فقد كان لعرفات فراسة الثائر وحسه الغريب الذي يعرف من يأتمن من الرجال..!

للتواصل مع الكاتب

Atallah.akram@hotmail.com

:::::

موقع “الغد”

  • ·       الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية.