جزر الكاريبي: في العلاقة بين الكوارث الطبيعية والواقع الإستعماري والطّبقِي، الطاهر المعز

تضررت مناطق عديدة من العالم من الكوارث الطبيعية (الأمطار والرياح والفيضانات) صيف 2017 وتُوفي ما لا يقل عن 1500 خلال فترة قصيرة في آسيا، حيث تضررت كل من بنغلادش ونيبال والهند وجرفت المياه المنازل والأراضي الصالحة للزراعة والأشجار والمواشي، وبقي الملايين بدون مأوى، وعمومًا فهم من الفُقَراء، لأنهم يسكنون الأكواخ، في مناطق منخفضة ومُعَرّضة للمخاطر، وقد تنتشر أمراض عديدة بعد انحسار المياه، أما في جزر الكاريبي وجنوب أمريكا فقد تضررت كوبا بشكل لم تعرفْهُ الجزيرة منذ 1932، وهي الدولة الوحيدة التي تولي اهتمامًا كبيرًا للوقاية في كافة المجالات، الصحية والتربوية، وكذلك تخزين المُؤَن وإجلاء السكان (بمشاركتهم النشيطة) بعيدًا عن مناطق الخطر، وتضررت جُزُر بحر الكاريبي لكن الإعلام يُرَكِّزُ على المناطق المتضررة في الولايات المتحدة وعلى تفاصيل الأضرار البشرية والمادية، وإن اهتم بالمناطق الفقيرة فلِيُظْهِرَ عُنْفَ الفُقَراء وبذاءتهم، لِيُبَرِّرَ إهمال وقمع الدولة لهم، وبذلك يُعْفَى الجميع من طرح السّؤال الضّرُورِي: لماذا يتضرّرُ الفُقَراء أكثر من غيرهم، من الحروب أو الكوارث الطبيعية أو الأزمات الإقتصادية، ولا يستفيدون أبدًا من “فترات الخير”، ولماذا يتعامل الإعلام بمكيالين أو أكثر مع ضحايا نفس الكارثة…   

 دور الإعلام:

المقصود بالإعلام: وكالات الأخبار الكبرى والصحافة المكتوبة والمسموعة والمَرْئية (وهي “متحالفة” مع وكلات الأخبار) ووسائل الإتصال الجديدة المًسَمّاة “اجتماعية”، وكزت جميع هذه الوسائل على الولايات المتحدة وكأن ضحايا نيبال وبنغلادش والهند (وبلدان أخرى في جنوب آسيا) لا أرواح ولا قيمة لهم (كما السكان الأصليين لأمريكا الشمالية والجنوبية أو العبيد المُسْتَجْلَبِين من افريقيا)، وكأن متضرِّرِي المناطق الفقيرة من العالم لا يُساوُون شيئًا…

تعود ملكية وسائل الإعلام إلى مجموعات رأسمالية ضخمة، وهناك اتجاه نحو تركيز ملكيتها بين أيدي مجموعات قليلة وقتْل وحجْب كل صوت “نشاز”، وتنطق هذه الوسائل باسم مالكيها وتدافع عن مصالحهم. تهدف وسائل الإعلام إلى خلْق ما يُسَمّى “رأي عام”، عبر التّرْكيز على بعض الأخبار والتركيز أيضًا على شكل وطريقة تقديم تلك الأخبار وتكرارها طيلة أيام ومتابعتها، وإهمال أخبار أخرى أو تقديمها بشكل يجعل المُتَلَقِّي ينْحاز إلى وجهة نظر (ومصالح) رأس المال، ولو كان المُتَلَقِّي مُتَضَرِّرًا مباشرا من الحدث أو من وجهة النظر، أي أن الإعلام يقوم بدور التوجيه العقائدي (الإيديولوجي) للقارئ أو المستمع أو المُتَفَرِّج السلبي الذي يتلقى دون نقد أو تمحيص، بسبب ضيق الوقت أو الإرهاق أو الكسل أو بسبب نقص الثقافة النّقدية لدى الأغلبية الساحقة من الناس، وفي كل الحالات يُؤَسِّسُ الإعلام ومن وراءه “رأيًا عامًّا” يردِّدُ تعاليم وتوجّهات “الإيديولوجيا السّائِدَة”، فيما يجهل عشرات الملايين من الأمريكيين، موقع أفغانستان -التي تحتلها جيوش بلادهم- على خارطة العالم، وربما يعجزون عن تحديد موقع عديد الولايات الأمريكية… ويهدف رأس المال إلى تَغْيِيب أو قَتْل الوعي بالأسباب الحقيقية لانتشار الفقر والبطالة، وحتى الكوارث الطبيعية، لأن حكومات الدول الرأسمالية ضَخّت مئات المليارات من الدولارات من المال العام، لإنقاذ المَصَارف والشركات الكبرى، ولكنها ترفض الإنفاق على الوقاية من الأمراض ومن الكوارث الطبيعية، وساعدت هذه الحكومات الشركات الكُبرى العابرة للقارات على تكثيف الزراعات ونشر المبيدات والقضاء على الغابات وتجريف التُّرْبَة، وغيرها من عمليات التّخْرِيب التي ساعدت على استفحال ظاهرة تغيير المناخ وارتفاع نسبة تلوث الأجواء والمحيطات والمياه الجوفية، بالإضافة إلى ترويج نمط “السياحة الجماعية” الرخيصة في البلدان الفقيرة، وما لها من تأثير سلبي على الصناعة والزراعة المحلية وعلى البحار والمحيط والتراث… هذا ما يحصل أيضًا في بعض المُسْتعمرات والجُزُر التي استولت عليها أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا أو أسبانيا وغيرها منذ قُرون، وسنقدم في الفقرات التالية نبذة عن ما حصل في الجزء الذي تستعمره فرنسا من جزيرة “سانت مارتان” (Saint-Martin)

تاريخ استعماري عريق واقتصاد هش:

تقع جزيرة “سانت مارتن” شمال بحر الكاريبي، قريبًا من جزيرة “بورتو ريكو”، على بعد ثمانية آلاف كيلومتر من باريس، ولئن كانت مساحتها صغيرة (87 كلم2) وعدد سكانها قليل نسبيا (أقل من 80 ألف نسمة حاليا) فإن موقعها هام، ولذلك احتلت هولندا الجزء الجنوبي وفرنسا الجزء الشمالي، واتفقت الإمبراطوريتان الإستعماريتان على تقاسم الجزيرة منذ منتصف القرن السابع عشر، حيث تحتل فرنسا جزرًا أخرى على بعد 250 كلم تقريبًا (غوادلوب ومارتِنِيك) إضافة إلى “غويانا” قريبًا من سواحل البرازيل، وتعود الآثار المُكْتَشَفَة عن حضارة السكان الأصليين للجزيرة إلى حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد… ولم يُطور الإستعمار الإقتصاد (أو سبل عيش السّكان)، بل يقضي على الإقتصاد المحلي في كافة مستعمراته ولا يُطَوِّرُ حتى المرافئ الصغيرة للصيد البحري، ويدفع السكان إلى الهجرة ويستجلب موظفين من الأوروبيين البيض أو من مناطق أخرى (الهند والصين) وتهدف جميع هذه الإجراءات المَدْرُوسة إلى ربط المستعمَرات وبالدولة المُسْتَعْمِرَة والقضاء على فكرة الإستقلال، وعلى سُبُلِ بناء اقتصاد محلِّي، فيعمد الإستعمار إلى استيراد المواد الضرورية من الخارج (من استراليا وجنوب افريقيا في جزر المحيط الهادئ ومن أمريكا في الكاريبي…) لتباع بثمن مرتفع، لا يقدر على تحمله السكان الأصليون الذين لا يجدون عَملاً في بلادهم، وعمدت البلدان الإمبريالية إلى تطوير السياحة في الجُزُر الواقعة تحت هيمنتها، والسياحة تقضي كل المُقومات الأصلية للشعوب المحلية وعلى تراثها وثقافتها، وتُعَلِّمُ الخُضُوع وتلبية طلبات السائح “الأوروبي أو الأمريكي الأبيض” (أو السّائحة، لا فرق)، وهذه حال “سانت مارتان”، التي أنشأ بها الإستعمار مطارًا دوليا، رغم مساحتها الصغيرة  وفنادق على الشواطئ الرملية، خصصت سلطات هولندا، كما فرنسا عددا منها للعُراة واللّوّاطِين (والسُّحاقِيّات) من الأوروبيين (وغيرهم) من ذوي الدّخل المتوسط أو المُرْتفع، إضافة إلى فنادق وشواطئ أخرى أقل غَلاءً، وتتطلب السياحة نسيان اللغة الأم والتحدث بالإنغليزية (لغة الإمبريالية الأَقْوى في العالم، في حين تعتبر الفرنسية لغة رسمية مع الهولندية) في المتاجر والمطاعم العديدة التي حولت السكان الأصليين من مسارعين وحِرفِيّين إلى خدم في الفنادق أو نادِلِين لتقديم الأطعمة أو عرض التّحف المُزيفة المصنوعة في الصين، واستوردت الفنادق والمتاجر عُمالاً وعاملات من أمريكا الوسطى والجنوبية يعيشون في ظروف سيئة جدا، ويعمل سكان الجزيرة والمهاجرون أيضًا في “دور الضيافة” والمنازل الفاخرة التي يملكها الأثرياء (بفضل الحوافز الضّرِيبِيّة) أو يستأجرها السّائحون الميْسُورون وخاصّة في فصلي الصيف والخريف عندما يرتفع عدد السياح، الذي لا تعلن السلطات الفرنسية عن عدده ولا عن إيراداته بشكل دقيق، ويعتمد اقتصاد الجزيرة منذ قرون على زراعة وصناعة التبغ وقصب السكر والقطن، وأصبحت السياحة طاغية على اقتصاد الجزيرة، خاصو بعد قرار إعفاء العديد من البضائع من الضرائب الجمركية، ما يجلب عددًا متزايدا من السائحين الأمريكيين لشراء الأطعمة والمشروبات الكحولية والتبغ والمجوهرات ومنتجات الجلد، لأن ثمنها يقل بنسبة 40% (في المتوسط) عن الأسعار المعمول بها في الولايات المتحدة…

المخاطر البيئية والفوارق الطبقية:

تزدهر السياحة في جميع بلدان العالم على حساب الزراعة والصيد البحري وعلى حساب سلامة المحيط، كما تقضي السياحة على الإرث الثقافي المحلي في البلدان التي لا تدافع حكوماتها عن خصوصيتها الثقافية واللغوية، وتطورت السياحة في مُسْتعمرة “سانت مارتان” على حساب الشواطئ الشعبية وعلى حساب الغابات التي انخفض حجمها، في منطقة تقع على طريق العواصف والإعصارات الموسمية، يبلغ المعدل السنوي لدرجة الحرارة بها 27 درجة (35 درجة مائوية صَيْفًا) مع ارتفاع نسبة الرطوبة، فيما يبلغ متوسط هطول الأمطار قرابة ألف ملم سنويا، ومنذ أصبحت السياحة نشاطًا رئيسيا للجزيرة ارتفعت نسبة البطالة إلى 9% في الجانب “الهولندي” وإلى 27% في الجزء الذي تستعمره فرنسا، ورغم ضيق مساحة الجزيرة فإنها تستقبل حوالي ثلاثة ملايين سائح سنويا (لا تنشر السلطات الفرنسية بيانات رسمية)، إضافة إلى عدد من الأثرياء والفنانين (سبيلبيرغ وبيونسي وكيث موس…) الذين اشتروا منازل فاخرة في الجزر الصغيرة العديدة المحيطة ب”سانت مارتان” والتابعة لها، وعمومًا يُمثل الأجانب نحو ثلث سكان الجُزر (32% من إجمالي عدد السّكان) للإستمتاع بالشواطئ والمرجان والمحّار والصّدف…

عموما ساهم تطوير قطاع السياحة على حساب السكان الأصليين والإقتصاد المحلي والأرض والشواطئ، في تغيير مستمر للمحيط، ما زاد من أضرار الإعصارات، وآخرها “إيرما” وما تبعه من أمطار ورياح منذ تموز 2017، والذي ترك خرابا كثيرا على سكان الجزيرة، كما أظْهَرَ أيضًا عمق الفجوة الطبقية في المُسْتَعْمَرَة، حيث تعيش أغلبية المواطنين المحليين السود في حالة عَوَز وفقر، في مقابل يُسْر أقلية يُشَكِّلُها بالأساس المُسْتوطنون الأوروبيون (من فرنسا بالخصوص)، ما يمثل مزيجا بين الإستغلال الطبقي والإضطهاد القومي، وهي وضعية تقليدية للمُسْتعمَرات في أرجاء العالم، وتمثّل إهمال الدولة المُسْتَعْمِرة في إجلاء السائحين (بدْءًا بالأمريكيين) نحو جزيرة “غوادلوب”، وترك الجزيرة وسكانها يغرقون في الظلام، بدون ماء صالح للشرب وبدون كهرباء أو غذاء، لترسل من باريس طائرات لتقدير قيمة الخسائر من الجو، ولم تحصل المُستشفيات والإدارات العمومية على مولدات كهرباء سوى بعد أكثر من عشرة أيام من بداية الفيضانات، وانتظر السكان حوالي أسبوعين للحصول على الماء، ومولدات الكهرباء عبر طائرات وشاحنات الجيش…

إهمال فانفجار فقمْع:

أدّى استهتار الدولة الفرنسية المُسْتَعْمِرَة بسكان “سنت مارتان” إلى بحث الناس عن الغذاء والماء، بهدف البقاء على قيد الحياة، وكانت الدولة قد أرسلت قوات درك إضافية لحراسة مساكن الأثرياء والمحلات التجارية الكُبْرى التي بحث المواطنون فيها عن كل ما يُمْكِن أن يُوفِّرَ لهم أسباب الحياة، وحينها انطلق وزير الداخلية ومن ورائه وسائل الإعلام للتنديد “بعمليات النّهب والسّرقة” من المحلات التجارية، دون ذكر الأسباب أو نوعية المواد المُسْتهدفة (غذاء وماء ومصابيح يدوية…) ولم تذكر الصحف ووسائل الإعلام الخراب الذي لحق سكان أحد أحياء الفقراء الذي طرحته الرياح والأمطار أرضًا وتَشَرَّدَ سُكّانه دون مساعدة حكومية لفترة فاقت عشرة أيام، وقدمت وسائل الإعلام المرئي في فرنسا مجموعة من الأوروبيين البيض الذين يتحدثون بهدوء معبرين عن ثقتهم في أجهزة الدولة التي تحرس مساكنهم ومحلاتهم، وفي المقابل صَوّرَتْ عن بُعْد مجموعة من المواطنين السّود (أهل البلاد، المُستعمَرين) في حالة هيجان وفوضى، ينهبون المحلات التجارية، لأنهم فقدوا مساكنهم وسبل عيشهم، ولم تُنْجِدْهُم أجهزة الدولة منذ أسبوع أو عشرة أيام، وكانت وسائل الإعلام الأمريكية قد ركزت على نفس الصور وعلى التناقض بين الأثرياء الذين تحرسهم الدولة ويَبْدُون هادِئين، من جهة، ومن جهة أخرى الجماهير الفقيرة والغاضبة، ومعظمهم من السود، ينهبون المحلات التجارية في “نيو أورليانز” و”هيوستون” و”تكساس…

تَعْتَبِرُ الدولة الفرنسية مُستعمراتها “ولايات” فرنسية وجزءًا لا يتجزّأُ من أراضيها، ولكنها تعمد إلى إهمال وعدم تطوير البنية التحتية والتعليم والتشغيل والتصنيع والزراعة (سوى لتَخْصِيصها لمُنْتَج واحد) لكي تبقى هذه الأراضي والسكان في حالة تبعية كاملة على “المِتْرُوبُول” (أي باريس) واستبعاد المطالبة بالإستقلال…

إن وضع جزيرة “سانت مارتان” شبيه بوضع العديد من المستعمرات، حيث يتكدس الفقراء في أحياء القصدير التي تعصف بها الرياح أو الأمطار أو العوامل الطبيعية الأخرى، عند بداية الكوارث، فيما يعيش الأثرياء (من أصل أوروبي) في أحياء مبنية بالحجارة والإسمنت ومُؤَمّنة لدى شركات التأمين، وتحمي أجهزة القمع (الجيش والدّرك) أحياءهم وأبناءهم، وعندما حَلّت الكارثة (ليست الأولى) وعِيل صَبْرُ الفُقَراء، ذهبوا للبحث عن الماء والقوت حيث يوجد، وهو تصرف إنساني عادي وطبيعي لا يهدف سوى البقاء على قيد الحياة، وعند ذلك تحضر أجهزة تصوير تلفزيونات العالم بمُصَوِّريها ومُعَلِّقِيها ويحتل الوزراء الحيز الأكبر من نشرات الأخبار والبرامج الإخبارية لبث سموم الحقد الطبقي البرجوازي ضد الفُقَراء والحقد الإستعماري ضد الشعوب الأصلية للبلدان المُسْتَعْمَرة، ويتعامل الإعلام “الغربي” بنفس المقاييس مع الشعب الفلسطيني، حيث ينَدد هذا الإعلام بنضالات الفلسطينيين ويمتدح دولة الإحتلال (الديمقراطية الوحيدة في “الشرق الأوسط”) ويتجاهل تمامًا حملات القمع والإعتقال والسجن وهدم المنازل والتهجير والقتل بدعوى إن المَقْتول “كان يحمل شيئا يُشْبِه السكين ولربما كان يَعْتَزِمُ” مهاجمة جندي صهيوني مُحْتل مدجج بالسلاح…

 اسْتَقَيْتُ الأخبار والمعلومات المذكورة في هذه الورقة من المتابعة اليومية لوكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) من 9 إلى 16 أيلول 2017+ متابعة بعض الصحف الفرنسية، وبالأخص صحيفة “لاكروا” (صحيفة مسيحية اشترتها صحيفة “لوموند” قبل سنوات قليلة) وصحيفة “لومانتيه” التي كان يملكها الحزب الشيوعي الفرنسي ولا يزال صحافيوها يكتبون مقالات عن الحراك النقابي والإجتماعي + مقتطفات من حوار مع “إيلي دوموتا” (Elie DOMOTA) وهو نقابي مناهض للإستعمار من “الإتحاد العام لعمال غوادلوب” (مستعمرة فرنسية في بحر الكرايبي)… 

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية.