“النّخبة المدمّرة”: ثلاثة نماذج: عزمي بشاره وبرهان غليون ومنصف المرزوقي، خليل الرّقِيق، تونس

 

زرعوا بذور الفرقة والإنقسام أينما حلّوا، أو لعلهم “صُنِعُوا” خصيصا لهذا الغرض، و”انْتُدِبوا” أساسا من أجله…هم بـ”امتياز” لا يضاهى خريجو “مصنع الجزيرة” للنكبات الوطنية، وليت الأمر يتعلق بمجرد مراهقين مفتونين بالحرية المسطحة التي أججتها “ميديا” المراوغة، والتجنيد الافتراضي… إنهم دكاترة و”مثقفون”، ولأنهم كذلك فقد كان فعلهم أشد وطأة على الذات المجتمعية العربية من فعل البضاعة الرخيصة للجماعات الدينية التكفيرية… لعلهم هم الذين هيأوا لتمرير “الخطة أ” عبر إيحاء ديمقراطي كاذب سرعان ما دسّ سُمًّ الظلامية في دَسِمِ الحرية…
عزمي بشارة الذي اختص في التبييض الأكاديمي للوهابية، برهان غليون الذي تزعم لبرهة «معارضة سورية»، ثم ترك كل شيء للإخوان، المنصف المرزوقي الذي ذبح ادعاءه العلماني على مسرح ميدان رابعة، ثم انبرى داعيا لتقسيم بلاده الى “شمال ظالم” و”جنوب مظلوم…”.
كم هو بخس أن تتمرر مخططات ضرب الدولة الوطنية بحبر “التحليل الموضوعي لشروط الانتقال من الدكتاتورية الى الديمقراطية” وكم هو أبخس أن يرتدي “العلاّمة” العمامة، ثم لا تجده بعد لأي إلا كومبارسا في الصف العاشر على قائمة وكلاء الاستعمار والرجعية…
للحكاية أكثر من معنى ومغزى، لكن مآل الجماعة واحد، إنهم وبعد الاستعمال المكثف والمؤقت في حالة أفول، دفعت بعضهم الى الارتماء نهائيا في حضن هيستيريا الإخفاق… ولم تعد “قاماتهم” مطلوبة بعد أن عبدوا الطريق للغير… ولم يعد الغير نفسه في حاجة لخدماتهم “الجليلة”…

“عزمي بشارة… خادم الإمارة”

 
الرجل الذي باع وطنه وقضيته بملايين الدولارات، يحتاج الكثير من الوقفات للكشف عن طبيعة دوره في المنطقة، فما أن يخفت ضوؤه، وتغالبه الأزمات حتى يفتعل طريقة تمكنه من الظهور والحضور بشكل أكثر أهمية…”،
هكذا علقت شبكة فراس الإعلامية في ملف خاص، على مسار عزمي بشارة الذي انتقل إلى الدوحة عام 2007 “مدعيا هربه من ملاحقات دولة الإحتلال”، وهناك في الدوحة، وبعد التحولات السياسية العربية “أصبح بشارة يعيش حالة مراهقة سياسية، معتقدا أن أفكاره وأطروحاته كانت سببا باعثا وداعما لما يسمى بالربيع العربي، وانحاز للتجربة الألمانية وأدوات المجتمع المدني ذات العلاقة بالمخابرات الأمريكية”. هكذا تحول دعي “اليسار” و”العروبة” عضو الكنيست الاسرائيلي الى “عرّاب للخراب”،  وبعد تحاليل سابقة ومستفيضة عن الرجعيات الخادمة للمشروع الغربي الأمريكي، صار بشارة أحد أهم وأخطر الأبواق الأكاديمية للمشاريع المريبة في المنطقة. بل صار يحظى بامتيازات من الديوان الأميري القطري “لا يحلم بها حتى أمراء قطر…”
كان مهينا أن يُنعت دكتور الفلسفة خريج جامعتي حيفا وهومبلوت ببرلين، بـ “أفلاطون الدوحة وصبي الموساد” على حدّ تعبير “بوابة افريقيا الاخبارية”، لقد صارت رائحة تبييض الوهابية تلاحقه في كل الملفات، حتى أن تقارير إعلامية، أشارت الى دور أكاديمي قذر لعبه في الملف الليبي حين قدم استشارات لأمراء قطر تستنهض النعرات القبلية لتفتيت الوحدة الوطنية الليبية، وكانت “اليوم السابع” المصرية قد نشرت مقتطفات من هذه المراسلات التي تحتوي على تحديد لأماكن تمركز القبائل الليبية الموالية للقذافي، كما تتضمن طلبات لأمير قطر السابق بأن يطالب هيلاري كلينتون بضرورة حسم الصراع في ليبيا وتقديم العون اللازم لليبيين لما أسماه بـ “تحرير أنفسهم…”، ولا تكفي مئات الصفحات للتنقيب عن “التراث الفضائحي” لمن باع القضية القومية التي لهج بها، بمكان مدفوع الأجر داخل منظومة تسويق الوهابية وتبييض الإرهاب… ولعلك حين ترى الثمرة الملغومة لاستشاراته “الاستراتيجية” على الأرض الليبية، ستدرك أن هذا “الديمقراطي” المزيف، قد ترك بصمة قاتلة، على ساحة اشتعلت بالكامل تحت ضربات التكفيريين والإخوان المدعومين من أسياده وأولياء نعمته…
لقد ذهب البعض إلى حد التشكيك أصلا في تضاده المعلن مع السياسات الصهيونية، لأن دوره الخطير في التنظير لتقسيم المنطقة العربية، كان يتماهى بالكامل مع رغبة “إسرائيل” في تفتيت كيان الدولة الوطنية العربية للاستئثار بالمكان الأول في ميزان القوة بالشرق الأوسط… وهذا حديث يطول غير أن رجع صداه سيظل شاهدا على سقوط نخبوي مزلزل للحزام “الثقافي” لمنظومة الربيع العربي، وانجذابه بسهولة الى “بيت العنكبوت” حيث الآلة الإعلامية والمالية لبيدق “الفوضى الخلاقة”، أي “الدوحة”.

برهان غليون… قصة انحدار مزلزل

لأستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السربون، مؤلف الكتب المحركة لأسئلة الوجود العربي، منها “اغتيال العقل” و”مجتمع النخبة”، كيف حملت أعاصير المرحلة برهان غليون الى مثل ذلك المكان الضئيل، في ذيل أجندة “الربيع العربي”؟ كيف حملته الى رئاسة قصيرة ومدمرة لما أسمي بـ “المجلس الوطني السوري” المعارض؟
هل خانت الفطنة الاستراتيجية الأكاديمي المعروف، حين تحدث في آب/أغسطس 2012 عن “سقوط حتمي قريب لنظام الأسد”؟ هل خانه تحليل المعطيات الواقعية غير القابلة للدحض، حين فسر أكبر موجة لتدفق التكفيريين الى سوريا في التاريخ العربي المعاصر بـ “ثورة ديمقراطية على وشك الانتصار”؟
وكيف لرجل يهيكل تسلسل المعاني استنادا لسلطة العقل أن يتحدث عن “بناء هيكلية لكتائب الجيش الحرّ”؟ وعن أي حرية يتحدّث وقد أخذه الإخوان المسلمون إلى حيث يريدون، ثم تركوه حيث لم يُرِدْ، معزولا من “الزعامة”، موصوما بالمشاركة في مسرحية “ديمقراطية” أسدل ستارها سريعا لتبدأ لعبة النفط مقابل الدّم؟
كان يُطَمْئِنُ “المجتمع الدولي” سنة 2012 على مرحلة “ما بعد السّقوط”، فسقط برهان غليون بعد أشهر من رئاسة المعارضة واستمر نظام بلاده إلى يوم الناس هذا، بل حقق انتصارا عسكريا ساحقا على مخطط أَخْوَنَةِ المنطقة العربية…

لقد سقط المفكر “تحت عبء الخطاب التعبوي”، وليت التعبئة كانت فعلا لاستنبات حالة ديمقراطية حقيقية، لقد كانت محض منتوج رخيص لـ”مصنع الجزيرة” للأحقاد والنكبات… كانت فخّا لاستدراج نخبة متشظية الى ساحة حرب قذرة… وحصل ما حصل، لقد اغتال صاحب “اغتيال العقل” جدليّة الجمل والأفكار، وبحث عن موقع وهمي في سراب “الوعد الربيعي”…

المرزوقي… الأقل أهمية والأكثر ولاء

أحللنا المنصف المرزوقي في المرتبة الثالثة ضمن نماذج “نخبة الانقسام”، وربّما كان ذلك لداع منهجيّ يجعل من الصعب تصنيفه داخل “النخبة” بمفهوم الانتاج المعرفي لا الشهائد العلميّة.
فالواقع أنّنا رغم كمّ الكتب التي نشرها المرزوقي، لا نجد له بصمة فكرية ذات بال، أو حتى نسقا خاصا يؤطّره ضمن فئة صناع الرّأي.
لقد دخل المرزوقي ساحة التسابق على محصول “الربيع العربي” بمحض “مظلومية حقوقية” اصطنعها بنفسه ثم روّجها في “الدول الشقيقة والصديقة”، ولم يكن يوما وهو الذي ترأس لبرهة رابطة حقوق الانسان بتونس محلّ مقبولية داخل الطيف الحقوقي ذاته، اذ عرف عنه نزوع غريب الى الاستئثار بدافع من تورّم الأنا.

لقد كان “انقساميّا” بامتياز في كلّ قول وموقف وحركة: كان انقساميا كـ”حقوقي” حين فرّق شمل رابطة حقوق الانسان، كان انقساميا كمعارض سياسيّ حين ابتدع حزب “المؤتمر” الذي لا تلتقي فيه فكرة مع فكرة، ولا مرجعية مع مرجعية، إن هو إلا توليف اعتباطي بين إسلاميين طامعين و”علمانيين” ضلّوا الطريق… كان انقساميا كرجل سلطة، حين ترجم صفقته مع الإخوان إلى تصنيف ثنائي للتونسيين على أساس سياسي (ثوريون وأزلام) وعلى أساس مناطقي (شمال وجنوب)… كان انقساميا في السياسة الخارجية حين كرّس إيثارا لدولة قطر وأشهر العداء في وجه كل معارضيها، وكان على ذلك كلّه أكثر “النخب الممسوخة” ولاء لمنظومة الإخوان المسلمين من محمد مرسي المعزول في مصر، إلى رجب طيب أوردوغان، هذا فضلا عن رئاسة لم يبلغ فيها من المآثر غير المجاراة الإمتثالية لتغوّل حركة النهضة في تونس خلال سنتي 2012 و2013….

فعل كل شيء ليقسّم المنطقة العربية، قطع العلاقات مع سوريا، افتعل المشاكل مع الإمارات العربية المتحدة، تدخل في الشأن المصري الدّاخلي خلال مداخلة باسم تونس في الجمعية العامة للأمم المتحدة…
فعل كل شيء ليقسّم تونس بعد أن أزاحه الشعب ديمقراطيا من السلطة، كشف بزيف أسرارا داخلية للدولة في برنامج “شاهد على العصر” بقناة الجزيرة القطرية، عارض بعدميّة وفوضى أوصلته هذه الأيام الى ارتماء هيستيري في مصطلح “الثورة الثانية” و”الجنوب الثائر”…
فعل كلّ شيء، ليعود أصلا كما كان قبل “احتفائية” الربيع الكاذب، منزويا في ركن ضئيل من المشهد السياسي التونسي، بحزب فقد تماما “هيئة أركانه”… وليس من باب الصدفة ان لا يبقى للرّجل إلاّ “أبوية مريضة” لجسوم ميليشوية مريضة، كـ”روابط حماية الثورة” المنحلّة…
من مثّقفين الى “حراس معبد”…

 

من الفلسفة الى علم الاجتماع الى الطّب… اختصاصات تغري بتوقّع عقلانية وافرة في زمن فقد عقله، لكنّ الذي حصل هو أن النماذج الثلاثة لـ”نخبة” الانقسام جانبت تماما روحية المثقف، وارتمت بالكامل في محرقة السياسي… ولم تكن ارتماءتها هذه ارتقاء بالسياسة الى علياء الثقافة، بل نزولا بالثقافة الى مزاد السياسة، ولقد كان مزادا بخسا ثمنه وحدة الأوطان، كان مزادا عابقا برائحة المجزرة الظلامية التي جزّأت وقسمت وهجّرت وفقرت وعصفت بدم الأبرياء…
سنوات بعد المحرقة تكفي الآن لاستجلاء خيبة “المثقف المدجّن” الذي انقاد مطواعا الى حيث حتف الثقافة…
كانت كلّ الدّلائل، والرسائل المتبادلة بين الإدارة الأمريكية ووكلائها الخليجيين تشير الى ان ريع “ثورات” الربيع، سيعود رأسا وحصرا الى منظومة الاسلام السياسي، وكلّ المسألة ان جهات التخطيط الاستراتيجي للتحوّلات الشرق أوسطية، قد انتقت نماذج “مدنيّة” مهمّتها التنظير الإيهامي لـ”ثورة” عنوانها الحريّات… وسقطت “هامات” في المستنقع، سقطت لتترك مكانها بسرعة، لكتائب “الجهاد” التكفيري، وتتالت الدمارات على بلدان المنطقة العربية تباعا، بلد مقسّم الى شظايا طائفية، وآخر محترق بحرب أهلية، والمحظوظ من هذه الكوكبة من كان نصيبه الفقر والإفلاس…
كتب الخبير والمحلّل الاستراتيجي “الطيب بيتي” عن “ربيع المغفلين… النهاية المنهجة للعرب في جيوستراتيجية حكومة العالم الجديدة”، مصدّرا كتابه بجملة لمفكرّ اسمه طاليران “لابدّ من خضخضة الشعوب لتهييجها قبل استخدامها” وقد كان هذا تحديدا دور الكومبارس الأكاديمي و”الحقوقي” الذي تحدثنا عنه، الخضخضة للتهييج، وما بعد ذلك كان دور المستخدمين الأساسيين للعبة اعادة تشكيل الشرق الأوسط أي الإسلاميين… وانتهت المسرحية…
يقول الكاتب “تسمية الربيع العربي لم تسقط من النيازك العليا بين عشية وضحاها…بل طبخ المشروع والناس نيام في الأوكار المعتّمة للمخابرات الأمريكية في العهد البوشي” ثم نُفّذ المشروع مع أوباما “فأطاحت الإمبراوطورية بأولئك الذين أمْتُصّ رحيقهم وأنْهِيَت مهماتهم، وتم الحفاظ على المتبقين من سلاطين العربان ومشايخ الخلجان، الى أن يتم عصرهم مثل البرتقالة… ثم سيجزون جزاء سنمار…”
في هذا الاطار اللّاسيادي المهين اشتغل عزمي بشارة وبرهان غليون والمنصف المرزوقي، واشتغل معهم عديدون وعديدات لا تتسّع الورقة لذكرهم، تاجروا بحقوق البشر، في أسوإ مزاد لاصطفاء الظلاميين كسدنة لمعبد “الحريّات الموؤودة”…

فأي دور هذا الذي لعبته “نخبة” الانقسام في خدمة الظلام؟

:::::

موقع صحيفة “الصحافة” 08/10/2017

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية.