استدعاء الموتى “إميل حبيبي” … لإحياء أحياء موتى، د.عادل سمارة

أن يُحي الله الموتى، الإحياء البيولوجي أمر خارج طاقة البشر. بل  حتى الروبوط لا يُعاد إلى شبه الحياة حين يُطاله الخراب. كافة السلع المعمرة تتآكل ولا تُعاد إلى السوق. ذلك لأنها في خدمة الإنسان الذي يستهلكها.

السلعة الثقافية الفكرية السياسية هي التي تُعمر بالمدى المديد حدود الألفيات. متعددة هي في ادوارها. وخطورتها لأنها ليست لنستهلكها بل هي التي قد تستهلكنا، تفرض نفسها، تتأستذ علينا وفي التحليل الأخير تقسمنا إلى فريقين:

  • فريق يتلقى فيقارب الحياة  كقطيع يلغُّ العلف ويُخرجه ويسمُن
  • وفريق ينتقد ويقاوم ويتعب ويجوع لكنه يؤكد إنسانيته

لكن الفيصل في نهاية النهايات هو أيهما التاريخي؟

تختلف وجهات النظر في التفريق بين الإنسان والحيوان هل هو: بالوعي  أم بالتاريخ؟ بالإنتاج أم بالتراكم  النقودي؟

الإنسان الحقيقي تاريخي، ومُنتج لأجل الحياة لا لأجل المال.

ولأن الإنسان تاريخي، أو هكذا أزعم، فمن التاريخية أن يُؤخذ المرء بتاريخه لا بلحظة مضيئة في تاريخ معتم بل بكلتيهما.

إن إسقاط اي تصرف حين تقييم امرىءٍ  وتغطية سقوطه ولو بمواقف إيجابية يعني خيانة التاريخ بقصد وقرار ووعي. ولذا قالت العرب: “رُبَّ كلمة تقول لصاحبها…دعني”.

وإذا كان لكلمة هذا المفعول المصيري فما بالك بكلمات وكلام ومواقف معلنة بخلاف المخفي.

على هذه الأرضية يمكن تمديد قامة عميد المطبعين إميل حبيبي للتقييم وهو الذي أخرج من تحت إبطه عديد السحرة الذين على نهجه جعلوا الخيانة افتخاراً.

يرد البعض جريمة الصهينة في الحزب الشيوعي الإسرائيلي (اقصد الفلسطينيين منه) إلى الغبش النظري في الاتحاد السوفييتي حيث بدا هؤلاء:

  • تلامذة للمستوطنين من شيوعيين صهاينة
  • ومُقرئين لما يرسله لهم أئمة الاتحاد السوفييتي، فقهاء الماركسية-اللينينية بعد ماركس ولينين طبعاً.

لكن الناس وصلت ومنذ عقود إلى فرص الرؤية والفهم والاطلاع بحيث لم يعد هناك من معنىً أو ستاراً أو التباساً. ولكن بقيت المواقف ملتبسة!

فالكيان استيطاني اقتلاعي  صهيوني عنصري معتدٍ دوما، إلا حين يُردع، راسمالي، متخصص في تجارة التسليح الأسود، مضاد لمختلف حركات الثورة في العالم، ويعلن وحدانية يهوديته. ومع ذلك يؤكد هؤلاء ولائهم له، إعجابهم به وتسويده على وطنهم!

إميل حبيبي حالة خطرة لا ملتبسة

أخطر ما خلق إميل حبيبي في دوره كصهيوني ملتزم بوعي، أنه حينما وخز بمهمازه  أحد حوارييه بكلمة “حمار” انطلق الأخير ليصبح عميد التطبيع في مجمل الوطن العربي ليثبت لمعلمه أنه حصاناً!

ولأن هناك من فتحوا مشروع “مغسلة التطبيع” صار لزاماً علينا ومن أجل الشفافية الوطنية والقومية والطبقية أن نعرض للناس بعضاً من تاريخ عميد التطبيع، وللناس أن تسمي التطبيع خيانة، عمالة ، تجسس، إبداع، تخلص من العروبة، بطولة…الخ، فاللغة مليئة بكلمات ذات محمول بهذا الاتجاه أو ذاك.

وحديثي هذا مقصود به الطيبين الذين لم يطيقوا نقدنا لفضائية الميادين. وأنا أصر على خطورتها، ولا ادعوا لمقاطعة مشاهدتها/ سماعها بل الانتباه منها. ولا أصر على البعض أن يقاطعها، ولكني اقول للطيبين، إحذروا  تطمين الطيبين الآخرين، بل وجهوهم/ن إلى الوعي النقدي.

فانتشال إميل حبيبي من الجدث وإعادة غسله بالماء والبرد إلى الفضائية يعني ان الفضائية، غدت مكان الحزب والنظرية، وهذا خطير. ولكن من هو هذا المُستدعى بفخامة وافتخار!

  • هو من أعلن بأنه إسرائيلي وعليه نال جائزة الدولة اليهودية من اصابع رابين الذي تفاخر ب “تكسير ايدي اطفال وشباب انتفاضة  الحجارة”
  • وهو من كتب بأن رقم بيان 38 للانتفاضة الأولى بمقاس نمرة حذائه ، بينما كل العالم حتى اليوم يرى في الانتفاضة مجدا شعبياً فلسطينياً، لا يُقرء  سياسيا وحسب بل يقوم منظرو الثورة العالمية باستخلاص الدروس منه.
  • وهو الذي رفض علانية دخول منزل أي شخص يؤمن بالكفاح المسلح (انظر ادناه)
  • وهو الذي دخل عضوية الكنيست وأقسم يمين الولاء للدولة اليهودية.
  • وكتب بأن الجيوش العربية التي دخلت فلسطين 1948 كانت تابعة للاستعمار! وهو طبعاً كان عضو مع الشيوعيين الصهاينة اليهود الذين “يناضلون ضد الاستعمار الإنجليزي والقيادة الفلسطينية الإقطاعية” وليس ضد المستوطنين! بينما كانت الجيوش العربية تقاتل بإخلاص عبر جنودها وقيادات مثل عبد الناصر/مصر وعبدالله التل/الأردن، وعبد الكريم قاسم/العراق وفوزي القاوقجي/ سوريا…الخ. ناهيك قبل ال1948 عن ثورة القسام السوري.
  • وهو الذي ابتلع خدعة السوفييت بأن المستوطنين سيقيموا دولة اشتراكية في فلسطين. ومع ذلك بعد عقود على اتضاح دور الكيان بقي على ولائه لهذه الدولة!! قد يقول البعض، هو “أديب” لا يفهم الاقتصاد ونظريات التبعية ومركز محيط والاستقطاب…الخ. ولكن اي طفل يدرك أن انتزاع تراب بيته هو جريمة!
  • يقول إميل حبيبي في فيلم “باق في حيفا”، (أنا تعلمت أن لا أضحي بنفسي بلا طائل)؟

طريف جدا! شيوعي يرى الوطن بمفهوم السوق ومقدار الربح، اي بالتراكم . هو يرى التضحية واجب العمال الفقراء وليس المثقف. ولكن لماذا تجرأ إميل على طرحه؟ ذلك لأن مؤسسة كالميادين تبارك له موقفه، وللقارىء أن يفكر: ولكن لماذا!

صحيح أن هناك في الخارج مهزومون يبحثون عن بطل من الأرض المحتلة: “ناصع البياض، خال من السواد نظيف خارق القوة” للاتكاء على “قدسية” الأرض المحتلة فلا يكون إثر ذلك نقدا!

  • لعل أصدق ما قاله الرجل ذلك الكلام الخبيث  بأن: ” الشعب الفلسطيني لن يمض في سبيل المغامرة، فالناس التي تريد أن تعمل وتعيش وتتوالد لا تقبل سبيل المغامرة؟”

 

لكن الشعب ليس كذلك ابداً، فهو يستبطن الشعب في شخصه وحزبه، ربما باستثناء المضطر منهم مثل توفيق زياد.

 

موقف حبيبي هنا موقف الفردي المتشرنق/ المنكمش على نفسه، يعممه على الشعب بأكمله. ولكن هذا إسقاط نفسي على واقع مغاير. وفي احسن الأحوال، هي الروح الحلقية للمثقف الانتهازي، بل للطابور السادس الثقافي.

 

بل إنه شيء معيب ان يصف الشعوب  بأنها (تعمل وتعيش وتتوالد) كأنها أميبيا. هنا العقل المتصهين، الذي يتمثل مزاعم رابين لا فاعلية الانتفاضة. ففي ملحق جروزالم بوست 25 آذار 1988 قال رابين: “انا استغرب كيف يرمي علينا الفلسطينيون الحجارة ونحن نشغلهم ونطعمهم”. والسؤال: من الذي قرأ على الآخر إميل أم رابين؟

 

  • إحدى القُطَب المخفية :كيف عاد إميل حبيبي إلى فلسطين بعد أن هرب عام 1948؟ فالهروب لم يكن صدفة بل قراراً، أو اضطراراً. وفي الحالتين، لا يعود من هرب ولا يعود المضطر إلا حاملا سلاحه. لكن إميل الذي عاد على حمار، ربما يحمل جميلا للحمار فوصف أحد نسله ب حمار، عاد علانية، فهل كان ذلك بلا ترتيب!

 

  • تكفي المقارنة بين أدب ومصير غسان كنفاني وإميل حبيبي:

 

يرى إميل حبيبي الوطن مثابة: إناء الغسيل؟ نداء بائعة اللبن؟ رنين جرس بائع الكاز…الخ.

 

ويرى غسان الوطن فلسطينيا عربيا، كفاح مسلح، نضال ضد الإمبريالية، نقد التحريفية السوفييتية. لذا  كان لا بد من اغتيال غسان أباديداً ومكافئة إميل بجائزة الدولة نفس يد الدولة التي قتلت غسان ليأتي قبل شهرين أحد نسل عزمي بشارة،  أي حفيد إميل حبيبي في التطبيع فيصف غسان ب “القتيل” . فأي افتئات حتى على حمولة اللغة.

 

الوطن عند إميل حبيبي هو مجرد مكان يستغله ويعيش منه ولا يضحي من أجله. مفهوم الوطن يتضمن التضحية وليس التعيُّش منه واستحلابه.

 

فقط في شخص إميل حبيبي تتلاقى التحريفية السوفييتية مع مدرسة فرانكفوت الثقافوية المضادة للثورة رغم ردائها النقدوي. وهنا يتلاقى/يتعانق  إدوارد سعيد مع إميل حبيبي فيما يخص “اللاوطن”. هذا مع أن سعيدا جاء للناصرة داعيا من على منابرها لعزمي بشارة بالخلافة أي للكنيست، بينما إميل واصل طرد /حرمان بشارة من “كنيسة” الشيوعيين!!

 

فسعيد مأخوذ بميخائيل ادورنو، اليهودي من مدرسة فرانكفورت الذي يقول لا ضرورة للوطن. بالنسبة لسعيد المحاضر في جامعة كولومبيا، نعم لا ضرورة للوطن. ولكن ماذا عن 6 مليون لاجىء. لذا سعيد يرى الوطن مجرد مكان. سعيد وإميل معا ينظرون للوطن بعقل البدوي، تخيل هؤلاء المتغربنين/المتخارجين المابعد حداثيين هم بعقل بدوي هههه  الذي يلاحق العشب والماء، يطوي الخيمة ويرحل.

وماذا عن العروبة؟

حفظ إميل من ستالين موقفه ضد القومية العربية وخاصة لغياب سوق موحدة للعرب،  وركَّبه مع موقف التروتسكيين والصهيونية من الأمة العربية، فاتخذ حتى رحل موقفا مطلقا ضد القومية العربية، فشتمها وهاجمها ووصف القوميين ب “الحمير القومجية”(انظر مقالة إميل حبيبي ضد ناجي العلي وضدي في جريدة الاتحاد –جريدة راكاح- يوم 17 تموز 1987، (قبل ايام من اغتيال ناجي العلي 22 تموز 1987) و ردي عليه: مع القومية وضد إميل حبيبي إذا كان مشروع التجزئة ممكنا فلماذا يكون مشروع الوحدة مستحيلا، جريدة العرب ، لندن 31 تموز 1987) ثم  رد إميل حبيبي في جريدة الاتحاد نفسها، 31 آب 1987،  والذي نشرته له جوقة مكونة من “جريدة الفجر في القدس المحتلة، وجريدة القدس في القدس المحتلة، ومجلة اليوم السابع في باريس لمحررها بلال  الحسن، وفلسطين الثورة في قبرص لمحررها أحمد عبد الرحمن) . كان ذلك في الجدل قبل وإثر اغتيال ناجي العلي.

لكنه اعتبر المستوطنين قومية ربما لأن للكيان سوقه الرأسمالية الموحدة، بل المجتلبة جاهزة من المركز الراسمالي! وهم مستجلبون كقطع غيار من مئة أمة!!!

  • أخطر ما في إميل حبيبي أنه: بدأ شيوعيا وضد القومية العربية وانتهى لبراليا وأمريكياً ومع نقد الثورات لصالح التغيير “الديمقراطي” التدريجي ، وبقي طبعا ضد القومية العربية أي ان الثابت فيه عدائه للقومية العربية فقط.

 

  • تمتع إميل حبيبي بالجهل الذي يعاني منه عرب مثل:  بأن إميل حبيبي امتنع عن دخول الضفة والقطاع بعد 1967 لكونهما تحت الاحتلال! عجيب هذا الجهل المتفاخر! ذلك لأنه كان يذرع الضفة وغزة المحتلتين 1967  بسيارته الفولكس فاجن الصفراء؟

 

 

حينما كنت أعمل في جريدة الفجر 1975 قبل ان تطردنا قيادة م.ت.ف عدت معه ومع فيليتسا لانجر الى رام الله بسيارته. وحين وصلنا بيتي قلت لهما انزلا، قال بدخلش بيت واحد مع الكفاح المسلح. تخيلته يمزح للأسف لم يكن يمزح!!! وفي عام 1989 جاء لمحاضرة في مدرسة الفرندز مع سهام داوود وكان هرما، وقفت اسئله عن وقوفه مع محمود درويش الذي قال بأن الفلسطينيين جاهزون للاعتراف بالكيان (مقابلة درويش مع حاييم هنجفي في يديعوت احرونوت ونشرتها مجلة المجلة السعودية في لندن برئاسة تحريرها أي صالح القلاب الذي منحه الله وزارة الإعلام الأردنية لاحقاً ، وقلت له: أنت ساهمت بموقفك في اغتيال ناجي العلي 22 تموز 1987.(طبعا هذا هام لأنه يكشف ان السعودية مع التطبيع أيضا منذ 1987 على الأقل)، فقال: يعني انت مش ناسي صراعنا ايام اغتيال ناجي العلي؟ قلت له وكيف انسى!

  • ما لم يدركه كثير من العرب، رغم أنه جوهري، أن إميل حبيبي على إخلاص وتماثل وتطابق مع الصهيونية، بينما هو وحزب راكاح قد تمكنوا فعلا من رشوة العرب برفضهم لاحتلال الضفة والقطاع. وهو موقف يمكن فهمه من متضامنين مع الشعب الفلسطيني لا يعرفون أن الصراع هو على المحتل 1948.

 

لذا، إميل في عمله “تموت الحمير وتحيا الزريبة”، (يقول الحرب لا تعود، الحرب تجيء)، حيث فصل بين حربي 1948م وحرب 1967م. اي اعتبر حرب 1948 هي حرب تحرير قام بها  اليهود ضد الإنجليز لإقامة دولة اليهود في “أرض الميعاد” ! اي ان فلسطين هي فقط الضفة والقطاع كما ينص  “تلمود – أوسلو”

 

يقول إميل حبيبي في حوار “أنا هو الطفل القتيل” أن التركيز على الشهادة في أسلوب منفصل عن النضال يعتبر شكل من أشكال الجنون الرمزي؟  لم يكن الكاميكازي الياباني جنونا؟ ولا  سليمان الحلبي ولا جول جمال.

 

هنا الخبث الذي ينم عن مراكمة خبرة بدأت مع أفعى الجنة وتواصلت مع المطبعين ذهنيا. فالعمليات الاستشهادية ليست خارج سياق النضال الوطني، ليست جنوناً. بل هي ابتكار افراد نادري العزيمة مشروعهم استعادة النضال الجماعي عبر حالات ليست فردية بل نضال الذات ممتدة في المجموع لاستنهاضه. وهي مثل العمليات المسلحة الفردية والإضرابات المديدة عن الطعام…الخ (انظر كتابنا :المثقف المشتبك والعمليات الفردية روافع لتجاوز الأزمة، رام الله  2017، وسيصدر نهاية هذا الشهر عن مكتبة بيسان بيروت).

 

يذكرني إميل حبيبي في هذا ببيان ال 55  الذي نشره مطبعون فلسطينيون في رام الله ضد العمليات الاستشهادية بتمويله كإعلان من الاتحاد الأوروبي (انظر عادل سمارة، مثقفون في خدمة الآخر، منشورات مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية-رام الله 2003).

 

نعم إميل حبيبي باق في حيفا، ك”مواطن إسرائيلي” يحترم الدولة ويعمل طبقاً لمشروعها الصهيوني” . ترى هل لهذا عاد محمود درويش وأبَّته بنواحٍ بليغ: “يا معلمي” !

 

أنظر” تأبين النص في نص التأبين:، بقلم أحمد حسين، نشرة “كنعان”، 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، على الرابط التالي:

https://kanaanonline.org/ar/2017/11/08/%d8%aa%d8%a3%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b5-%d9%81%d9%8a-%d9%86%d8%b5-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a3%d8%a8%d9%8a%d9%86%d8%8c-%d8%a7%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86/
_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية.