معنی أن تكون ديمقراطياً في حديقة الإمبريالية، وائل إدريس

مقال كتبته عن تشيلي – جزء منه سبق وإن نقلته – لكي أنشره العام الماضي في ذكری مقتل سلفادور أليندي 11 سبتمبر ، و كنت أود نشره في صحيفة ميسلون ، لكن حال الظرف دون ذلك ، وأنشره هنا اليوم في ذكری إنتخابه عضو في البرلمان التشيلي عام 1969

***

منذ مبدأ مونرو ، وسياسة الولايات المتحدة تعبر عن نفسها كسلطة مهيمنة في الفناء الخلفي “أمريكا اللاتينية” حيث ممنوع علی أي دولة أجنبية الإقتراب منها أو التعرض لها ، هذا الأمر كان يجري سابقاً بتدخلات علنية من قبل الإمبراطورية الأمريكية ، حتی الحرب العالمية الثانية ، وظهور السوفييت كقوة عظمی في العالم ، جعل من المخابرات الأمريكية هي المكلفة تغيير الأنظمة المناهضة لمصالحها ، ومنذ إنهيار حكم باتيستا ، ووصول كاسترو للحكم تضاعف الشعور بالخطر عند الإدارة الأمريكية من وصول عدوی الأفكار الإشتراكية لسدة الحكم هناك ، حيث أجتاحت موجة يسارية مؤيدة من قبل الشعب اللاتيني ، ساهمت أنظمة العسكرتارية اليمينية المرتبطة بأمريكا في إزياد مشاعر الكراهية تجاه الغرب وأكثر تقربا من اليسار الجانح لتحقيق إستقلالات الشعوب المحلية.

عملت أمريكا في الخمسينات والستينات علی تنفيذ آلية خلق البديل السياسي التي طرحها جون كينيدي بدعم أحزاب الوسط واليمين بصفتها “الإصلاحية” حيث الأحزاب القريبة من أمريكا ومصالحها الإقتصادية والسياسية في المنطقة ، مما قد يخلق نزاعا داخل اليسار بين المنادين بالحلول الجذرية أو السائرين خلف الحلول التدريجية.

في تشيلي التي كانت تعبر عن نموذج ديمقراطي تقليدي ، قامت وكالة المخابرات الأمريكية ببذل جهد كبير لوصول زعيم الحزب المسيحي الديمقراطي ” أدواردو فراي ” للسلطة في إنتخابات عام 1964 ، حيث إبتداءا من إبريل عام 1962 إلی نجاح الإنقلاب عام 1973 ، وبتوجيه من البيت الأبيض ، أسست ثلاثة لجان علی التوالي للعمل بين مجلس الوزراء ووكالة المخابرات المركزية في تمويل كل الأنشطة السياسية في تشيلي ، حيث تم رصد حملة ضخمة لصالح “فراي” تمثلت بعشرات الآلاف من الملصقات السياسية ، والحملات الدعائية في الصحف والتلفزيون ، فضلا عن شن حملة مناهضة للشيوعية داخل تشيلي وترهيب الشعب من وصولهم للحكم ، ودعم الأحزاب الأخری في إنتخابات البرلمان طيلة هذه السنوات. 

فوز فراي بالأغلبية المطلقة ، وتقويضها للديمقراطية لم يكن كافياً لأمريكا لضمان هيمنتها داخل تشيلي ، بل قدمت دعم لا محدود لسلطة فراي المترنحة ، بلغت 1.2 مليار دولار كمنح وقروض والتي كانت تراها ضرورة لمنع وصول أليندي الذي تتزايد شعبيته داخل تشيلي ، خصوصاً بعد وعوده بتأميم صناعة النحاس التي تستحوذ عليها شركتيها (أناكوندا) و(كينوكوت) ، وتحتكر سوق الإتصالات بواسطة شركة ITT ، بالإضافة لتأميم الإستثمارات الأمريكية الأخری ، والتي تقدر الخسائر الفورية لها بقيمة 750 مليون دولار ، وكذلك مصالح الطبقة الثرية التشيلية التي تعتبر الوكيل الجيد لنفوذ اليانكي الأمريكي.

 

نجاح الإنقلاب و موت أليندي

 

في شهر أغسطس من عام 1970 أدركت وكالة المخابرات الأمريكية إن فوز أليندي في الإنتخابات أمر حتمي ، وإن عليها أن تنظم مسارين لمنع تحقيق ذلك.
“المسار السياسي” الذي يعمل علی إيصال خصمه خورخي أليساندري (الذي أستطاع أن يمنع الأغلبية المطلقة عن أليندي حيث كانت النسبة متقاربة بينهم وبالتالي تحتاج للتحالفات من داخل البرلمان) أو الإبقاء علی معارضة قوية نشطة داخل البرلمان ، مع ضرب الإقتصاد التشيلي ، وتعطيل عجلة العمل هناك.

“المسار العسكري” عبر الوكلاء المحليين في تشيلي أو العملاء من داخل الجيش والذين تربطهم علاقة قديمة بالجيش الأمريكي – خمسة قيادات عسكرية شاركت في الإنقلاب العسكري لاحقاً كانت قد تلقت تعليمها في الكلية العسكرية الأمريكية في بنما – لكن كانت هناك العديد من الصعوبات في وجود القائد العام للجيش “رينيه شنايدر” الذي كان متعدا بحماية الدستور ، والحفاظ علی تاريخ الديمقراطية في تشيلي ، ورئيسها المنتخب اليساري أليندي ، لهذا تعاونت الوكالة مع الجنرال المتقاعد “روبرت فيوكس” في عملية قتل الجنرال العام شنايدر بعد محاولة لخطفه ، إذ وصف سفير الولايات المتحدة في تشيلي آنذاك، إدوارد كوري، شنايدر بأنه “الحاجز الرئيسي أمام جميع الخطط العسكرية لتولي الحكومة”، وأنه بحاجة إلى “تحييده، عن طريق إزاحته إذا لزم الأمر”.

حيث تم التأكيد لاحقاً عن وجود دعم مالي لمجموعة فيوكس ، لتنفيذ العملية ، [سبق أن أعلن إبن الجنرال الراحل شنايدر من علی شاشة التلفزيون أنه يريد الحقيقة وليس الإنتقام ، والآن ترفع عائلته دعوی قضائية علی الحكومة الأميركية وهنري كيسنجر تحديداً] أعتقدت الحكومة الأمريكية ان عملية الإغتيال قد تؤدي إلی ضرب الشيوعيين في تشيلي من قبل الجيش ، وحل البرلمان الذي من المفترض أن يصوت بعد شهر من الإغتيال علی إعلان سلفادور أليندي رئيساً علی تشيلي ، لكن ردة فعل الجيش كانت بإتجاه أكثر تأييداً للدستور والعملية الديمقراطية ، بعد وصول كارلوس براتس المقرب من شنايدر ، والذي ألتزم بذات المبدأ وفشلت الخطة.

 

عندما تم إنتخاب اليساري سلفادور أليندي للحكم في تشيلي خرج هنري كيسنجر وزير خارجية نيكسون قائلاً : ((لا أفهم لماذا يجب علينا الوقوفُ مكتوفي الأيدي ونحنُ نُشاهدُ دولةً تتحوَّل إلى الشيوعية، بسبب انعدام مسؤولية أهلها)).

الأمر لم يكن سياسيا تماماً ، بعد أسبوعين من وصول أليندي للسلطة ألتقی كيسنجر برئيس مجلس إدارة بنك تشيس مانهاتن ” ديفيد روكفلر ، ورئيس شركة بيبسي كولا ، لكيفية تخريب الديمقراطية التشيلية ، لأجل مصالحهم هناك. علی مدی ثلاثة سنوات الجماعات الإرهابية المدعومة من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية دمرت خطوط السكك الحديدية الحكومية ومحطات توليد الكهرباء وشرايين الطرق السريعة الرئيسية لخلق الفوضى ووقفت البلاد عن العمل. وكان الهدف هو “جعل الاقتصاد يصرخ” مثلما أمر نيكسون ، كما شاركت شركات أمريكية مثل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الجهود الرامية إلى زعزعة استقرار البلاد.

في خضم هذا الكفاح من أجل السيطرة على تشيلي، أصر أليندي، بعناد تقريبا، على الحفاظ على المؤسسات الديمقراطية في البلاد. وكان يتمتع بدعم شعبي ، لكن الدور الذي لعبته المخابرات الأمريكية في الضغط علی القائد العام “براتس” (الذي تمت تصفيته في بلد المنفی الأرجنتين عبر سيارة مفخخة ، رفقة زوجته ، بعد عام واحد من الإستقالة ، علی يد عميل الشرطة السرية لحكومة بيونشيه ” ميخائيل تاونلي” والذي أعترف بقتل وزير خارجية أليندي ” أورلاندو ليتيلير” أيضاً بعد دخوله في برنامج حماية الشهود في أمريكا) للتنحي وتقديم إستقالته ، بعد أن فقد ثقة الضباط العسكريين ، وتعيين بيونشيه الذي كان من ضمن المجموعة القريبة من القائد السابق شنايدر في أغسطس 1973 ، كان إيذاناً ببدأ الفصل الأخير في سقوط حكم أليندي. 
أرسلت المخابرات الأمريكية أربعة من ضباطها للتواصل سرا مع قيادات الجيش والشرطة ووصلت رسالة بيونشيه للمخابرات الأمريكية ، أنه لن يعارض الإنقلاب علی أليندي ، وتم تنفيذ الإنقلاب وسقط الزعيم أليندي بعد إقتحام قصره ، وبقي حيا في ذاكرة الشعوب المناهضة للإمبريالية ، وكل فقراء العالم الذين تمثلهم هذه القيادات ، التي تری في نفسها أبا مخلصاً لمجتمعاتها حتی في ساعاتها الأخيرة.

بعد ذلك أعدم بيونتشيه اكثر من عشرة ألاف مواطن من النقابات والعمال والمثقفين اليساريين في ملعب سانتياغو – الملعب الذي رفض المنتخب السوفييتي اللعب فيه بعد المجزرة بشهرين والخروج من تصفيات كأس العالم وسجل فيه التشيليين هدفا مسرحيا – بتصفيق أمريكا ، لتبدأ مرحلة جديدة من حياة الشعب التشيلي.

 

هل حدثت فعلاً أعجوبة إقتصادية

 

بدأت حكاية الإقتصاد التشيلي – كما يسردها ” غريغ بالاست” محرر صحيفة الغارديان البريطانية – مع مجموعة فتيان شيكاغو الإقتصادية والتي جعلت من نظرية ميلتون فريدمان الإقتصادية فأر مصانع في تشيلي وواضعا لتشيلي تحت الإختبار.

تحمس الجنرال التشيلي للنظرية فألغی الحد الأدنى للأجور وحظر علی النقابات حقوق عقد الصفقات وخصخص نظام المعاش التقاعدي وأبطل كل الضرائب علی فوائد التجارة، والثروات وخفض التوظيف العام بشكل كبير وخصخص 212 صناعة حكومية و 66 مصرفا . سار الجنرال بشعبه طريق الليبرالية الجديدة .. السوق الحرة ، ولكن ما الذي حدث فعلا في تشيلي بعد تحررها من الضرائب والقوانين النقابية ، قفزت البلاد قفزة عملاقة إلی الأمام…. ولكن نحو الإفلاس.
بعد تسعة سنوات من الإجراءات الإقتصادية حسب طريقة فتيان شيكاغو هوی الإقتصاد التشيلي ومات.

في عامي 1982 و 1983 أنخفض الناتج الإجمالي المحلي 19% ((هذا يعتبر كسادا)) . ثبت بطلان تجربة سوق الحرة وتناثرت أنابيب الإختبار وتبعثر الدم فوق أرض المختبر.

الحقائق تقول في عام 1973 في السنة التي أستولی فيها الجنرال علی الحكم كان معدل البطالة في تشيلي 4.3%.

في العام 1983 وبعد 10 سنوات من تحديث الأسواق الحرة وصل معدل البطالة الی 22% وتدنت الأجور الحقيقية بنسبة 40% تحت الحكم العسكري.

في العام 1970 قبل إستيلاء بيونتشيه علی السلطة كان 20% من سكان تشيلي يعيشون تحت خط الفقر. 

وفي العام الذي غادر فيه الرئيس بيونتشيه مكتبه تضاعف هذا الرقم ليصبح 40%.
ماذا حدث للأعجوبة التشيلية التي أصمَّت أذاننا ؟ ببساطة لم تكن هناك أعجوبة ، وأنما دعاية من ذلك النوع من معاجين الأسنان ، التي تجعلك تری الأسنان أشبه بالحليب ، لتشتريه في نهاية الأمر.

بدأت خرافة الأعجوبة التشيلية عندما أقنع فتيان شيكاغو عصبة الإنقلاب بأن إزالة القيود على مصارف البلاد سيجعلها حرة في إجتذاب رأس المال الأجنبي لتمويل التوسع الإقتصادي ، بعد عقد من الزمان سيصبح تحرير سوق رأس المال شرطا ضرورياً للعولمة .

 
إعتماداً علی هذه النصيحة باع بيونشيه المصارف الحكومية بحسم 40% من القيمة الحقيقية ، ووقعت علی الفور في أيدي إمبراطوريتين متكتلتين يسيطر عليهما المضاربين التجاريين ((خافيير فيال ، ومانويل كروزات)).

سحبا “فيال وكروزات” المال من بنكيهما المقيدين من أجل شراء الشركات الصناعية ، ثم دعما هذه الملكيات بقروض من مستثمرين أجانب ، متشوقين للحصول علی قطعة من الهبات الحكومية المجانية.

وأمتلئت إحتياطات البنوك بالسندات المالية الزائفة من الشركات التجارية المتضامنة.
قام بيونشيه بفرش الطريق بالورود أمام المضاربين التجاريين ، لقد تم إقناعه بأن الحكومات يجب ان لا تعيق منطق السوق.

وبحلول عام 1982 كانت اللعبة المالية للهرم التشيلي قد أكتملت.

عجزت المجموعات التجارية لكل من فيال وكروزات عن الإيفاء بديونها ، أغلقت الأنشطة الصناعية ، وأصبحت المعاشات التقاعدية الخاصة بلا أي قيمة تذكر ، وتلاشت قيمة العملة تدريجياً.

أرغمت أعمال الشغب والإضطرابات ، التي قام بها الشعب الجائع واليائس لدرجة أنه لم يعد يخاف من الطلقات النارية بيونشيه “علی عكس وجهة سيره” بالقيام بطرد أحبائه من علماء شيكاغو التجريبيين.
أعاد الجنرال مكرها الحد الأدنى للأجو

ر ، وحقوق عقد الصفقات للنقابات ، وأمر بوضع برنامج لإحداث 500 ألف فرصة عمل ، حتی ان عصبة الإنقلاب ، قامت بتأسيس القانون الذي مازال حتی يومنا هذا ، القانون الوحيد في أمريكا الجنوبية الذي يحد من تدفق رأس المال الأجنبي.

أنقذت التكتيكات الجديدة تشيلي من الذعر المالي الذي حصل في العام 1983 ولكن معافاة البلاد علی المدی الطويل والنمو الإقتصادي منذ ذلك الوقت هو نتيجة ((سدوا أذان الليبراليين الآن)) جرعة كبيرة من الإشتراكية ، إنقاذا لنظام المعاش التقاعدي للأمة ، أمم بيونتشيه البنوك والصناعة الوطنية بشكل لم يتخيله “ليندي الاشتراكي” فصادر الملكيات الخاصة حسب الرغبة بتعويض قليل أو بدونه.

رغم إعادة الخصخصة في معظم هذه المشاريع من جديد مع تغيير في السياسات الاقتصادية علی غير السوق المفتوح وفرض الضرائب وإنفاق الدولة علی الصحة والتعليم وان كان بشكل نسبي مما تسبب في إستمرار الأمراض المعدية والوبائية.
إلا ان الدولة أحتفظت بأهم صناعة قائم عليها الإقتصاد التشيلي وهو النحاس تحت شركة CODELCO المملوكة للحكومة والذي تبلغ صادراته آخر سنة من 50% إلى 60% حسب المصادر من قيمة الصادرات التشيلية.

حيث تقول خبيرة المعادن في جامعة مونتانا الدكتورة ((جانيت فين)) من السخف وصف أمة بأنها معجزة التجارة الحرة عندما يبقی المحرك الإقتصادي في قبضة الحكومة ، لقد أمن النحاس حوالي من 30% الی 70% من ارباح التصدير.

هذه هي العملة الصعبة التي بنت تشيلي التي نراها اليوم ، عائدات المناجم التي أستردت من أناكوندا وكينيكوت في العام 1973 《هبة سلفادور أليندي لأمته بعد وفاته》حسب تعبير غريغ بالاست.

الصناعة الزراعية هي المحرك الثاني للنمو الإقتصادي التشيلي ، وهذا أيضاً من ميراث سنوات (أليندي) ، إستناداً لأراء البروفيسور “أرتورو فاسكيز” من جامعة جورج تاون ان قوانين أليندي الخاصة بالإصلاح الزراعي أي توزيع الملكيات الزراعية ((الأمر الذي لم يستطع بيونتشيه من تغييره كلياً)) قد أنشأ طبقة جديدة من الفلاحين الملاكين المنتجين ، إلی جانب أيضاً عمال متعاونين ومتحدين يكسبون البلاد الآن موردا ثابتاً من عوائل تصدير النحاس المنافس. (( للحصول علی معجزة إقتصادية)) يقول الدكتور فاسكيز ربما انت في حاجة أولاً : لحكومة اشتراكية من اجل القيام بإصلاح زراعي.

 

المصادر :

Peter Kornbluh : The Pinochet files
وثائق ملفات المخابرات الأمريكية التي تم الإفراج عليها.
David F. Schmitz : The United States and Right-wing Dictatorships, 1965-1989. 
Grace Livingstone : America’s Backyard: The United States and Latin America from the Monroe Doctrine to the War on Terror. 
Greg Palast : The Best Democracy Money Can Buy.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية.