مات أحمد سعيد… مات صوت مرحلة من التاريخ المعاصر، أسعد أبو خليل

ظُلمَ أحمد سعيد. تحوّلَ اسمُه إلى عنوان لسخرية أو لهجاء. أمعنَ في الإساءة إليه كل الذين تضرّروا من المرحلة الناصريّة. أبواق وكتبة دعائيّون لأنظمة الاستبداد النفطي تمرّسوا في الثأر من عبد الناصر في مماته بعدما أذلّهم في حياته. لم يقووا على الرد على عبد الناصر الذي شقّ أسرَهم الحاكمة، فكرّسوا عقوداً بعد وفاته للردّ عليه ولمحو أثره من الثقافة السياسيّة العربيّة. في هذا الموسم الرمضاني بالذات، عرضت محطة سعوديّة مشهد حرق صورته: تلك الصورة التي حملها ملايين العرب مجاناً، وكانت تزيّن دكاكين وأكواخاً في أفريقيا أيضاً. مشكلة عبد الناصر أنه ـــ خلافاً لملوك النفط وسلاطينه ـــ كانت شعبيّته مجانيّة عفويّة تلقائيّة، ولم يُنفق في تعميمها ونشرها فلس واحد. وأحمد سعيد كان ركناً من جهاز الإعلام الناصري، وبرع فيه إلى أن سقط سقطة مدويّة في هزيمة ١٩٦٧.

لم يكن أحمد سعيد مسؤولاً عن البيانات العسكريّة التي كانت ترد في الساعات والأيّام الأولى من الهزيمة، لكن لوْمَ رجلٍ واحد كان أسهل من لومِ قيادات سياسيّة وعسكريّة مسؤولة عن الهزيمة. والإعلام الكاذب ليس سمة حصريّة بالنظام الناصري، إذ شارك فيها في تلك الأيّام النظام السوري والأردني على حدّ سواء. ثم هل إن خبراء الدعاية الكاذبة في الإعلام السعودي هم حجّة في الإعلام الصادق والصحافة المهنيّة كي يحكموا على أحمد سعيد؟ سعيد كان خلافاً لأبواق المرحلة السعوديّة: هو عمل بصدق وإخلاص ولم يكن مرتهناً لغير عقيدة آمن بها. لم يكن من الذين يتجوّلون بين الأنظمة والأمراء وينقلبون بين البعثيّة العراقيّة والمرحلة الناصريّة، ثم المرحلة السعوديّة، على غرار بعض كتَبَة صحيفة «الشرق الأوسط». لم يكن مثل هؤلاء الكتاب اللبنانيّين الذين يلتحقون بحاشية هذا الأمير أو ذاك طمعاً بمنصب أو بمكرمة أو ظهور. عاش وعمل بتواضع وكان ـــ بالرغم من صورته التي تشوّهت ـــ ماهراً وبارعاً في ما قام به. إذاعة «صوت العرب» ـــ وبإمكانات محدودة ـــ تفوّقت على الدعاية السياسيّة للعدوّ الإسرائيلي، وعلى أجهزة الدعاية المعادية في أميركا وبريطانيا وفرنسا آنذاك. «صوت العرب» دخلت كل بيت عربي ومن دون رشى أو فرض، وكان العدوّ يرصدها قبل المُناصر. 
تحادثتُ مع أحمد سعيد هاتفيّاً قبل بضع سنوات بطلب من قريب لي كان يحاول مساعدته في جمع أرشيف المرحلة الصحافيّة الناصريّة في لبنان. وذهلتُ أن صوت الرجل الثمانيني كان لا يزال هادراً وقويّاً وثائراً. تحادثنا في مرحلة الإعلام الخليجي السائدة وكان كأنه لا يزال يعيش في مرحلة لم ينفصل عنها، ولم يتأثّر بأفولها. حاولتُ أن أطرح عليه بلطف شديد مسألة إعلام الهزيمة في ١٩٦٧ فوجدتُ أنه لا يزال متأثّراً بها، فما استطردتُ في الطرح. وافقَ على أنه لم يقرأ سوى ما ورد من بيانات عسكريّة، لم يكن هو مسؤولاً عن صياغتها. حملتُ في نفسي احتراماً له لأنه ـــ خلافاً لكتّاب المرحلة السعوديّة وإعلاميّيها ـــ كان حامل عقيدة، لا حامل «شنطة» يدور بها على الأمراء والشيوخ. أحمد سعيد هو ينتمي إلى مرحلة بادت تقريباً: هي مرحلة الصحافة الملتزمة بالمجّان. هي مرحلة كان يتطوّع فيها كتّاب وصحافيّون من أجل خدمة قضيّة غير شخصيّة، وكان طموحها تحرير فلسطين والوحدة العربيّة ـــ وليس اقتناء منزل منيف في ضاحية بورجوازيّة في لندن. 
مات أحمد سعيد ولم يترك خلفه ثروة أو أوسمة من أنظمة خدمها. مات قبل هذا الأسبوع: مات عندما ماتت مرحلة نذر نفسه لقضيّتها. وبموت أحمد سعيد، تكتمل حلقة الثأر الصهيوني والسعودي من مرحلة عبد الناصر. لكن تجربة سعيد الإذاعيّة يجب ان تُدرَّس. استطاع بإمكانات محدودة أن يجابه كل أجهزة الدعاية المعادية ـــ الغربيّة منها والعربيّة. أي أن أحمد سعيد هو عنوانُ نصر لا عنوان هزيمة لم يكن هو مسؤولاً عنها.

:::::

“الأخبار”

www.al-akhbar.com/Opinion/251741

 

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.