أدّى إعلان الحرب التجارية الأمريكية ضد كافة دول العالم، ومن بينها الدّول الحليفة للولايات المتحدة، إلى إعادة أوروبا والصين وكندا واليابان النظر في علاقاتها الإقتصادية فيما بينها، ومع بقية دول العالم، وظهرت عدة مُؤشِّرات خلال شهر تموز/يوليو 2018 (شهر العُطل الصيفية والرّاحة عادَةً) تُؤَكِّدُ إعادة تشكيل القُوى والتحالفات التجارية بين آسيا وأوروبا، وأَقَرّت القمة السّنوية العشرون بين قادة الإتحاد الأوروبي والصين (الإثنين 16 تموز 2018) “دعم التجارة الحرة”، ونبْذ التّفَرّد بالقرار، مع التّحْذِير من عواقب “الحرب التّجارِيّة التي قد تتحوّل إلى صراعات ساخنة”، وفق تعبير “دونالد توسك” رئيس المجلس الأوروبي، وكانت أوروبا قد اصطَفّت في السابق وراء الولايات المتحدة ضد الصّين، ثاني أكبر شريك تجاري للإتحاد الأوروبي، وفَرَضَتْ رُسُومًا جمركية إضافية على بعض السلع والتّجْهِيزات الصينية، وكانت هذه القمّة فُرْصَةً لإعادة قادة أوروبا النّظر في العلاقات الإقتصادية والتجارية ودعوة الصين وروسيا إلى التّركيز على “إصلاح منظمة التجارة العالمية”، وللتذكير فإن أوروبا تُصَدِّرُ سلعًا وخدمات إلى الصين بقيمة 230 مليار دولارا وتستورد منها سلعًا وخدمات بقيمة 370 مليار دولارا، وكتبت صحيفة “فايننشال تايمز” (الإثنين 16/07/2018) إن الصّين اضطرت لتقديم تنازلات لأوروبا، كثمنٍ لتحالُف الطّرَفَيْن لمواجهة الحرب التجارية الأمريكية، ومن خلال تحليل مقالات الصحف الصينية، توقّع مُحَرِّر الصحيفة أن “تَتَهَاوَنَ” القيادة الصينية في تطبيق سياسة “صنع في الصين 2025” بهدف اجتذاب الإستثمارات الأوروبية في القطاعات التي استهدفها مُخَطّط “صنع في الصين 2025″، إذْ كانت حكومة الصّين تعتزم تخصيص قطاعات التكنولوجيا الطّبّية والحيوية وأشباه الموصلات وتقنية تصنيع الإنسان الآلي (الرُّوبُو) للشركات الصينية، خلال الفترة من 2015 إلى 2025، وبَذَلت القيادة الصّينية جُهْدًا كبيرًا لطمأنة الحكومات والشركات الأوروبية (والأجنبية بشكل عام) بشأن انفتاح الصّين على العالم…
اتجه القادة الأوروبيون إلى طوكيو (بعد بيكين) لتوقيع اتفاقية للتبادل التّجارِي الحُر “جيفتا” (يوم الثلاثاء 17 تموز 2018)، واتّفَقت الصحف اليابانية والأوروبية على وصف الإتفاقية ب “التاريخية”، واعتبرته الصحف الأوروبية “أهم اتفاقية فاوض عليها الاتحاد الأوروبي حتى الآن” (بدأت المفاوضات سنة 2013)، واعتبرتها وسائل إعلام عديدة في العالم “رَدًّا على الحرب التجارية وعلى السياسة الحِمائِيّة الأمريكية”، مما يوَسِّعُ رُقْعَة التّحالُفات الإقتصادية والتِّجارية، بدون مُشاركة الولايات المتّحِدَة، بل في مُواجَهَتِها، وأعلن رئيس الوزراء الياباني المُحافظ جِدًّا رغبته في التّحرّر من الهيمنة الإقتصادية الأمريكية والتّحالف (الإقتصادي) مع الإتحاد الأوروبي “لرفع راية التجارة الحرة في العالم”، وهو الشّعار الذي كانت ترْفَعُهُ أمريكا باستمرار في مواجهة خُصُومِها، ثم تنكّرَ له الرئيس “دونالد ترامب” (والجهات التي تَدْعَمُهُ) برفْعِ شعار “أمريكا أوّلاً” وإعلان “الحرب التّجاريّة”، وتتجسّد الإتفاقية بين الإتحاد الأوروبي واليابان في إقامة “منطقة تبادل حر تُمثِّل ثُلُثَ الاقتصادي العالمي، وتَشْمَلُ كافة القطاعات، من الزراعة والصناعات الغذائية إلى صناعة السّيّارات”…
نشرت بعض مراكز البحث (وكذلك بعض وسائل الإعلام) الأمريكية توقُّعات مُتشائمة بشأن نتائج الحرب التّجارية التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد جميع دول العالم، وخاصة ضد الحُلَفاء (كندا واليابان والإتحاد الأوروبي…)، وورد في دراسة لمؤسسة مورغان ستانلي “إن الولايات المتحدة بِصَدَدِ خسارة هذه الحرب التجارية التي بادَرَتْ بإعْلانِها”، لأن أمريكا بذلت ما في وسْعِها لإغْضاب الحُلَفاء، عبر الدّخول في نزاعات تجارية مع كل من كندا والمكسيك (الجيران المباشرين) ومع الإتحاد الأوروبي، ومع اليابان، فضْلاً عن الصّين التي استوردَتْ منها أمريكا بضائع بقيمة 505 مليارات دولارا، وصَدّرت نحوها بضائع وخدمات بقيمة 130 مليار دولارا، سنة 2017، وتُشَكِّلُ الصين مَصْدَرًا للبضائع منخفضة الثمن، يشتريها فُقَراء وعُمّال أمريكا، ذَوُو الأجور المُنْخَفِضة، كما تملك الصين الجُزْءَ الأكبر من سندات الخزينة الأمريكية التي تبيعها لسد العجز في الميزانية الأمريكية، والبالغ نحو 1,9 تريليون دولارا… أما دُونالد ترامب فقد اعتبر الحُرُوب التّجارية “جيدة للإقتصاد الأمريكي، وسنفوز بها بسهولة”…
هل يمكن اعتبار هذه الخلافات “تناقُضًا بين القُوى الإمبريالية”؟ ومهما كانت الإجابة، ومهما كان توْصِيف هذه الخلافات، فإن ما يَهُمُّنا كمُضْطَهَدِين وقع احتلال أراضينا مع قتْلِ وجَرْح وتهجير الملايين منا، هو مدى إمكانية الإستفادة من هذه الخلافات، لكي نَدْحَرَ الغُزاة المُحْتَلِّين ونُحَرِّرَ أراضينا ولكي يَعُود اللاجئون الفلسطينيون إلى وطَنِهِم، ولكي يَتَحَرَّرَ العُمّال والمُنْتِجُون من استغلال رأس المال والشركات الرأسمالية الإحتكارية… لكن لتحقيق ذلك وجب توفير الشّروط الضّرورية للتحرير الوطني والقومي والطّبَقِي والإجتماعي، ولئن كانت “الظّروف المَوْضُوعِيّة” مُتَوَفِّرَة وزيادة، فإن الظروف “الذّاتية” أو أدوات التّحَرّر تُمَثِّلُ الحلقة المَفْقُودة…
البيانات والأرقام مُقتَبَسَة عن “فايننشال تايمز + شبكة “سي أن بي سي” + أ.ف.ب 16 و 17 و 18/07/18
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.