إن من ” يرفض ” صفقة العصر، التي تهدف إلى تنفيذ ملحقات وتفاصيل الاتفاقيات المركزية السابقة – أي الاتفاقيات ” الأم ” – والتي كانت مؤجلة لأسباب موضوعية، دون رفض الأساس الذي جاءت منه وقامت عليه، أي اتفاقيات “كامب ديفيد” وأخواتها هو في الحقيقة يداعبها ويعمل على تمهيد الطريق لتمريرها ويٌقطٌع الوقت لصالحها مهما لعنها ولعن أصحابها.
منذ مجيء الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض، يزداد الحديث عن استعداد الإدارة الأمريكية لطرح ” خطة شاملة لإنهاء النزاعات في المنطقة، تضمن مصالح الولايات المتحدة و”إسرائيل” وتأخذ بعين الاعتبار مصالح الأطراف الأخرى المتورطة في هذه النزاعات “. وأُطلق اسم ” صفقة العصر ” على هذا المخطط الامبريالي الأمريكي – الصهيوني ” الاسرائيلي ” للتدليل على شموليته جغرافياً وسياسياً، لما يُسمى الشرق الأوسط الجديد الذي هو قيد التشكيل.
للوهلة الأولى، يعتقد أن المحرك الأساسي للصفقة هي ” اسرائيل ” وهي أكثر المستفيدين منها اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وقانونياً، ويحاول البعض أن يظهر الإدارة الأمريكية وكأنها خادم للسياسات والمشاريع الصهيونية ومنفذ لها بحجة أن اللوبي الصهيوني يتحكم بالسياسة الخارجية الأمريكية.
في الواقع، مثل هكذا اعتقاد، يشوه الحقيقة وبالتالي يؤدي إلى تشويه الواقع ولا يسمح بقراءته بشكل موضوعي، وبالنتيجة، عدم تحديد أولويات المواجهة والحلقة المركزية في الصراع مع الكيان الصهيوني وحاضنته الإمبريالية العالمية وخاصة الأمريكية، لأن السياسة الإمبريالية الأمريكية أشمل وأعمق وأكثر اتساعاً من السياسة ” الإسرائيلية”، التي تنحصر أساساً في شؤون المنطقة، وتعتبر جزءاً من السياسة الإمبريالية وشأناً من شؤونها .
الرئيس “ترامب” لم يأتِ من الفراغ ولم يصل إلى البيت الأبيض بأصوات كائنات فضائية، لقد جاء من قلب وصلب المجتمع الأمريكي وبأصوات الأمريكيين، في وقت تشتد فيه الأزمة الرأسمالية، العامة والشاملة، التي أسهمت في إحداث تبدّلات جوهرية في البنيتين التحتية والفوقية للمجتمعات الرأسمالية بسبب التمركز الهائل لرؤوس الأموال وازدياد المعاناة والبطالة كنتيجة لهبوط معدلات النمو وتخيم شبح الكساد وازدياد اعتماد أسواق الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من أي وقت مضى على الاستيراد، وخاصة من الصين واليابان وانخفاض حصتها من الانتاج الصناعي العالمي بشكل مقلق، مما حدا بالرئيس “ترامب” إلى ضرب مبدأ حرية التجارة الذي طالما تغنت به الولايات المتحدة، عندما يكون مفيد لاقتصادها، وفرض ضرائب على الاستيراد من الدول الأوروبية وغيرها مما فجر أزمة بينه وبين هذه الدول سيكون لها تداعيات وتأثير في مجالات مختلفة .
في الواقع الخلافات بين أقطاب المعسكر الرأسمالي، ليست خلافات ثانوية بل أساسية أدت في الماضي لحربين عالميتين في صراع دموي مدمر من أجل ترتيب العالم وتقاسم مناطق النفوذ الاستراتيجية عسكرياً واقتصادياً وتأمين الأسواق الضرورية وتقاسمها لتصريف فائض انتاجهم وتجديد قواهم الإنتاجية بما يحقق للاحتكارات أعلى درجات من الربح والفائدة، هكذا عندما تبرز بينهم خلافات وتباينات سياسية حيال قضايا ” التوتر ” في العالم تكون أسبابها اقتصادية وعسكرية، ومنطقتنا خير مثال على ذلك، فاختلاف موقف الدول الأوروبية مع الأمريكان حول صفقة العصر ليس حباً وتعاطفاً مع الفلسطينيين والعرب بقدر ما يعكس قلقهم على مستقبل مصالحهم ونفوذهم في إحدى أهم المناطق الاستراتيجية من العالم بسبب شراسة وشره وتغول زميلتهم الإمبريالية الأمريكية .
العالم العربي، وما يُسمى منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها منطقة الخليج العربي ـــ نجد والحجاز واليمن وعمان وباقي الامارات والمشيخات ـــ وكذلك إيران تعتبرها الإمبريالية الأمريكية، منذ بداية سبعينيات القرن الماضي ، مناطق ” نفوذ استراتيجية وحيوية للأمن القومي الأمريكي، وتعتبر أيضاً وجود ” اسرائيل ” في هذه البقعة من العالم مصلحة أمريكية قومية وأمنية وعسكرية استراتيجية لخدمة مصالح اقتصادية تعتبر شريان حياة للوجود الرأسمالي الامبريالي نفسه، لهذا تعمل باستمرار على تفكيك وضرب كل عوامل ومصادر تهديد مصالحها، ومن بينها ” اسرائيل “، في هذه المنطقة وخاصة حركات المقاومة المسلحة وفي مقدمتها المقاومة الفلسطينية وضرب وتخريب بيئتها الحاضنة، وتحطيم الأنظمة الداعمة والمؤيدة للمقاومة والتي تشّكل العمق الاستراتيجي والحيوي لاستمراها وانتصارها .
إن الحرب على ليبيا وسوريا وكل الوطن العربي وتصاعد التهديدات للنظام المعادي للصهيونية وللولايات المتحدة في إيران، تأتي في هذا السياق. إن الثنائي الامبريالي الصهيوني يحاول زج آل سعود في حرب عدوانية ضد إيران بالوكالة، للاستمرار في استنزف طاقات هذه المملكة النفطية في حروب عدوانية ليس لشعوب شبه الجزيرة العربية فيها لا ناقة ولا جمل. الحملة على إيران ومحاولات ضربها عسكرياً ليس بسبب “شيعيتها ” ونصرة ” لسنية ” آخرين، بل بسبب تخلصها من التبعية الاقتصادية والتكنلوجية للغرب وخاصة للولايات المتحدة الأمريكية وتأكيد استقلالها وسيادتها على أحد أهم مناطق المواد الخام والنفط في العالم، وما يزيد من قلق الإمبريالية والصهيونية دعمها الجدي ومن مركز قوه لحركات المقاومة العربية والفلسطينية بكافة الوسائل بما فيها العسكرية بل والمشاركة في بعض الأحيان واستعداد الشعب الإيراني لتحّمل أعباء المواجهة مما ساهم في تعرية وفضح الأنظمة والقوى الرجعية العربية المتواطئة والعميلة والمعادية لمجمل معسكر المقاومة وخاصة الفلسطينية .
ففي أعقاب حرب كتوبر عام 1973 من القرن الماضي، وبسبب قرار الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز قطع النفط عن الولايات المتحدة وأوروبا تضامناً مع مصر وسوريا خلال هذه الحرب، تنبهت الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت (إدارة نيكسون) لخطورة هذا القرار، وللأهمية الاستراتيجية للنفط الإيراني الذي وبقرار من الشاه عوض فوراً الاحتياجات الأمريكية والغربية، هذه التطورات دفعت تلك الإدارة لاتخاذ قرار بالسيطرة على منابع النفط والطاقة في العالم عند الضرورة ووضعت منذ ذلك التاريخ الخطط العسكرية والسياسية لتحقيق هذه الغاية.
رمى الأمريكان بكل ثقلهم من أجل استثمار نتائج تلك الحرب واستعداد الرئيس المصري السابق أنور السادات، صاحب مقولة أن 99% من أوراق الحل بيد أمريكا، للتعاطي الكامل مع الرؤية الأمريكية والمشاريع الأمريكية المعدة ” لحل النزاعات ” في المنطقة وتحقيق ” الاستقرار ” فيها، مما أدى إلى اقدام السادات على خيانة قومية ووطنية بتوقيعه اتفاقيات “كامب ديفيد” التي سُميت زوراً باتفاقيات ” السلام والازدهار ” بين مصر و” اسرائيل ” التي أرست أسس ومبادئ الحلول ” للنزاع العربي الاسرائيلي ” على أساس أن أسباب هذا الصراع هي نفسية، وأن زيارة السادات إلى القدس قد كسرت هذا الحاجز النفسي ! !.
السادات لم يتصرف لوحده وبمفرده كما يبدو للوهلة الأولى، فالكاتب الراحل محمد حسنين هيكل يؤكد في كتابه “خريف الغضب”، أن السادات حصل على تأييد ومباركة السعوديين لقراره بزيارة فلسطين المحتلة وإلقاء خطاب في الكنيست الصهيوني، والآن يريد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن يجعل من نفسه ساداتاً آخراً وعلى نفس الطريق لحصد نتائج حروب ما يُسمي الربيع العربي.
إن ما حدث في تلك الفترة وما تبعه من اتفاقيات فلسطينية (أوسلو) وأردنية( وادي عربة) في منتصف تسعينيات القرن الماضي أكبر بكثير وأهم بكثير من ما يسُمى اليوم ” صفقة العصر “، حيث من خلال تلك الاتفاقيات تم تثبيت الكيان الصهيوني ( كدولة) من دول المنطقة وتم الاعتراف بشرعيته عربياً وفلسطينياً، عملياً على كل الأراضي الفلسطينية، دون أن يجبر هذا الكيان على تقديم أي تنازل جوهري للأطراف المعنية أو أي تعهد يمكن أن يلزمه بشيء في المستقبل وبقي حراً، أما الأطراف الأخرى العربية، والفلسطينية بشكل خاص، أضحت، بسبب حجم ما تعهدت به من التزامات، مكبلة بسلاسل وقيود حديدية، لا يمكن التخلص منها إلا بثورات وحروب تخوضها الجماهير العربية ضمن استراتيجية شاملة لتحرير العالم العربي من هذه الاتفاقيات والأنظمة التي وقعتها، لأنها ضربت أسس وركائز المصلحة القومية العليا وفتحت الأبواب على مصراعيها لانتهاك واستباحة الأمن القومي العربي الاستراتيجي، مما يطيل أمد النفوذ الامبريالي وبالنتيجة الصهيوني في المنطقة .
إن ما يريده “ترامب”، هو تحقيق المرحلة التالية لتلك الاتفاقيات التي توصل لها أسلافه أي تنفيذ بعض تفاصيل تلك الاتفاقيات التي كانت مؤجله بقرار أمريكي استراتيجي لأسباب موضوعية، حدد معالمها “هنري كيسنجر” في إطار ما أسماه استراتيجية “الخطوة خطوه والقضم والهضم” التي تعلم بها الأطراف التي وقعت على ” كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة” .
خلال كافة المفاوضات، التي جرت في ظل موازين قوى تميل بالكامل لصالح معسكر الأعداء، منذ السادات حتى الآن، كان الطرفين الأمريكي والصهيوني يرفضان مبدأ طرح ” الانسحاب أو عودة المهجرين إلى ديارهم أو الحدود أو القدس أو المياه أي التسليم بمبدأ الحق في الوطن والسيادة”، ورغم ذلك استمر الطرف الفلسطيني اليميني، ممثل البرجوازية، في المساومة مبدياً استعداده للقبول بشروط اللعبة السياسية الصهيوأمريكية ومن ثم توقيع اتفاق أوسلو ووثيقة الاعتراف بالكيان وكافة ملحقاتها الاقتصادية والأمنية التي منحت الاحتلال سيادة مطلقة على الأرض، والتي كان أيضاً أحد أهم نتائجها تدمير حركة التحرر الوطني الفلسطينية التاريخية على مذبح مصالح طبقية ضيقة وحفنة من الدولارات أنهت، مؤقتاً – على الأقل – مشروع التحرير وحّولته إلى مشروع تحسين أوضاع معيشية ومدنية يتحكم به الطرفان الأمريكي الصهيوني وما يسُمى الدول المانحة.
إن المطلوب ليس فقط رفض اعتراف الأمريكان بالقدس عاصمة” لإسرائيل ” أو محاولاتهم ” فصل غزة عن الضفة” لأن هذا ” يقوض مقومات الدولة الفلسطينية” المفترضة كما يزعمون، نعم، القبول أو العمل على فصل القطاع عن الضفة هو جريمة وخيانة وطنية لكن الجريمة الأكبر والخيانة الأعظم هو القبول بفصل المناطق الفلسطينية المحتلة والمستعمرة منذ العام 1948 والتي أقامت عليها الإمبريالية والصهيونية كيانهم الحربي الاستعماري، والتي تشّكل حوالي 80 % من ترابنا الوطني ، عن المناطق التي احتلت عام 1967.
إن من قبل بذلك لا يمكن أن يكون صادقاً ومبدئياً في رفضه لفصل قطاع غزه عن الضفة الفلسطينية المحتلة الذي يشّكل 1,3% من ترابنا الوطني .
لهذا تتطلب المرحلة الراهنة التأكيد من جديد على تعريف القضية الفلسطينية، بأنها قضية شعب اغتصبت أرضه وشرد منها أغلب سكانها الأصلين إلى دول المحيط والجوار وغيرها من بقاع العالم، يناضلون لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل إقامة هذا الكيان وعودة كافة المهجرين ونسلهم إلى ديارهم الأصلية، وإعادة بنائها لأن الاستعمار الصهيوني أزالها عن وجه الأرض، مما يعني ليس فقط رفض ضفقة العصر بل رفض مبدأ الاعتراف بشرعية هذا الكيان وتمزيق كافة الاتفاقيات التي وقعت معه كمقدمه لإزالته وإنهاء وجوده الاستعماري، إنها مرحلة التأكيد على الهدف الاستراتيجي للنضال – أي مواجهة الاستراتيجية المعادية باستراتيجية ثورية وليس بتكتيكات هزيلة وبائسة.
إن هذه ليست مهمة القوى الطبقية الأوسلوية والمدافعين عنها والمتورطين في تعاون وتنسيق أمني تجاوز كافة الحدود لأن دورهم القيادي التاريخي في عملية التحرير قد انتهى إلى الاستسلام والفشل، بل أعتقد أنه مضيعة للوقت، دعوتهم كي يخرجوا من هذا النفق أو سحب تواقيعهم وإلغاء ما وقعوا عليه من اتفاقيات قبل عقود، لأن في ذلك إلغاء لذاتهم وهم لن يفعلوا هذا، إنها مهمة القوي الثورية والوطنية الحقيقية التي تجهر بعدائها للإمبريالية والصهيونية والرجعية ولديها الاستعداد لخوض نضال طويل المدى ومتعدد الاشكال والتهيؤ لخوض حروب تحرير حقيقية مع الجماهير العربية وقواها المناضلة، وهذا يتطلب القطع التام والشامل مع القوى الطبقية العربية والأوسلوية، لأن أي تحالف معها تجيره لصالح برامجها ومصالحها الفئوية وليس للمصلحتين القومية والوطنية.
إن الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، يريدون استثمار واستغلال نتائج حروبهم التدميرية في الوطن العربي وعليه، بإشاعة الوهم بأنهم يريدون إقامة دوله فلسطينية في قطاع غزه أو في القطاع وجزء من سيناء والحقيقة أنهم لا يريدون دوله فلسطينية أو دولة للفلسطينيين في أي بقعة من المنطقة لا في الأراضي المحتلة عام 67 ولا في غزة ولا في سيناء، وبرنامجهم الوحيد والفعلي هو عرقلة وتدمير كل مكونات وعوامل التحرير وحرف الأنظار عن المشاريع الحقيقية وهدر الطاقات في معارك وهمية مهلكة.
إن أقصر الطرق هو إغلاق الأبواب في وجوه المخططين والمروجين والمداعبين والمتواطئين مع ما يطلقون عليه ” صفقة القرن ” التي هي في الحقيقة ” صفقة الوهم ” أي مقاومة المشاريع الإمبريالية والصهيونية وفضح ومحاربة عملائهم وأذنابهم المنفذين في المنطقة والاستمرار في تجهيز الخنادق الثورية لما هو قادم، فلنكن في كامل قوانا واستعداداتنا بما يمكننا من الانتقال من سياسة الدفاع إلى سياسة الهجوم .
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.