إندونيسيا، تطبيع “حلال“؟
قطعت معظم الدول الإفريقية والإسلامية علاقاتها مع الكيان الصهيوني (إن كانت لها علاقات) بفضل النشاط الدبلوماسي لبعض الأنظمة العربية، ودورها داخل منظمة الوحدة الإفريقية (قبل الإتحاد الإفريقي) ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ودورها أيضًا في مكافحة الإستعمار ونظام الميز العُنْصُرِي في جنوب إفريقيا، لكن مؤتمر مدريد (خلال العدوان الأمريكي على العراق سنة 1991) واتفاقيات أوسلو، فَضْلاً عن التطبيع الرسمي المصري والأردني، جعل عددًا من الدول تربط علاقات مع الكيان الصهيوني، ويُؤَكِّدُ المسؤولون الصينيون (على سبيل المثال) إن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية شَجّعتهم على ذلك، وكانت إندونيسيا (وبها أكبر عدد من السكان المسلمين) من أوائل الدول التي أعادت هذه العلاقات بشكل علني، دون إعلان علاقات دبلوماسية، وأدّى إسحاق رابين أول زيارة رسمية إلى أندونيسيا سنة 1993 تحت غطاء حضور مؤتمر اقتصادي دولي، وتتالت الزيارات العَلَنِية والإتفاقيات واجتماعات اللجان المُشْتَرَكَة (لجنة تجارية ولجنة تأمينات ولجنة علاقات خارجية ولجنة تطوير الإستثمارات…)، وتستورد دولة الإحتلال الصهيوني من أندونيسيا بعض المواد الخام، مثل البلاستيك والخشب والفحم والمنسوجات وزيت النخيل، فيما تصدر إلى إندونيسيا تجهيزات صناعات الطاقة والمياه والتكنولوجيا، وبلغت قيمة التجارة الثُّنائية نحو 500 مليون دولارا مُعْلَنَة سنة 2012 (لا تتضَمّن الأسلحة والعتاد العسْكري والأَمْنِي)، ويتجاوز المبلغ الحقيقي للمبادلات ما هو مُعْلَن، فمنذ سنة 2007، وقَّعَتْ شركة صهيونية عقدًا بقيمة 200 مليون دولار لتوريد الكهرباء لإندونيسيا لمدة ثلاثين عامًا، ومنذ العقد الأخير من القرن العشرين، يستضيف الكيان الصهيوني باستمرار على أرض فلسطين بعثات من الصحافيين و”قادة الرأي العام” الإندونيسيين، ورجال الأعمال، وتستقبل مجموعات أخرى في سفارتها في سنغافورة في ذكرى النّكبة من كل سنة، ومنذ 2013 تَطَوّر التطبيع ليطاول الوفود الإعلامية والجمعيات “الإسلامية” التي تزور القُدْس المُحْتَلّة، وتستغل بعض الشركات المحلية حرص بعض المسلمين والمسيحيين من أندونيسيا على زيارة القُدْس، ولو بتأشيرة صهيونية، لتكثيف الإشهار وتنظيم رحلات إلى القدس، جمعت سبعين ألف إندونيسي سنة 2017، من بينهم 45 ألف مسيحي، بينما شارك وفد من جمعية “نهضة العُلماء” التي تَدّعِي تمثيل “عُلماء الدّين الإندونيسيين” في احتفالات الكيان الصهيوني بالذكرى السبعين للنّكْبَة ومناسبة نقل أمريكا سفارتها من تل أبيب إلى القدس، وتؤكد الحكومة الإندونيسية في نفس الوقت “تأييد تطلعات الشعب الفلسطيني، ومعارضة ضَمِّ القدس…”، مع الإشارة إن الشعب الإندونيسي يُعَبِّرُ باستمرار عن تضامن ومساندة شعبية للفلسطينيين، وتُنَدِّدُ عديد الأحزاب والمُنَظّمات بالتعاون الحكومي والتبادل التجاري والثقافي والعلاقات الدبلوماسية مع دولة الإحتلال، خُصُوصًا بعد إعلان حكومة إندونيسيا “إزالة القُيود على دخول السائحين” الصهاينة، ورغم محاولات الحكومة ومحاولات الكيان الصهيوني بقي الموقف الشعبي الإندونيسي مناوئا للموقف الرسمي، ومتضامنًا مع القضية الفلسطينية، ويعارض 70% من الإندونيسيين العلاقات مع الصهاينة، فيما يُؤَيّدُها 12% وفق استطلاع للرأي، نشرته بعض الصحف والمواقع المَحلِّيّة، وشهدت العاصمة “جاكرتا” واحدًا من أكبر التّجمّعات ضد قرار ضم القدس، وكان معظم المشاركين من الشباب… ترجمات فلسطينية من مواقع صهيونية وإندونيسية بين 30 حزيران و 04 تموز 2018
الصين، من ثورة ماو تسي تونغ إلى رِدّة دنغ هسياو بينغ:
بعد الحرب العالمية الثانية، كان النّظام الصّيني خلال عقدين أو أكثر، من مُؤَسِّسِي مجموعة “عدم الإنحياز”، ومن داعِمِي حركات التّحَرّر الوطني، ونَصِيرًا للمقاومة الفلسطينية، ولكن تَغَيَّرَ الوضع “الجيوسياسي” في العالم وطَبَّعت أنظمة عربية علاقاتها مع الكيان الصهيوني، وافتتحت أخرى “مكاتب علاقات” (أو تحت عناوين أخرى مشابهة)، وبعد توقيع اتفاقيات أوسلو، طلبت منظمة التحرير الفلسطينية من الدول العربية ودول العالم إنهاء المُقَاطَعة وربط علاقات “طبيعية” مع الكيان الصهيوني الذي يَنْكُرُ وُجُود شعب فلسطيني وبلاد إسمها فلسطين، وتَذَرّع نظام الصّين بهذه الإتفاقيات ليُطَوِّرَ العلاقات في جميع المجالات مع الكيان الصّهيوني، ولتَبُثَّ التلفزة الوطنية مسلسلا يبُثُّ العقائد الصهيونية الأكثر رجعية والتي تُناقض التاريخ والمنطق، ونظمت الصين بمناسبة الذكرى 70 لإنشاء الكيان الصهيوني تظاهرات عديدة، ومنها تظاهرة في الشارع، مع لافتة كُتِبَ عليها بالإنغليزية (China loves Israel)، وتحملها صبايا صينيات مُبْتَسِمات يُلَوِّحْنَ بالأعلام الصينية والصهيونية، بينما يتساقط ضحايا القصف الصهيوني في غزة بالعشرات كل يوم، وحاولت الصين الإستفادة من التكنولوجيا المتطورة والأسلحة الأمريكية المُعَدّلَة، عبر الكيان الصهيوني الذي اجتذب بدوره استثمارات وشركات صينية (غير مهتمّة بحركة المقاطعة العالمية)، خصوصًا في مجالات البنية التحتية (الموانئ والطرقات وسكك الحديد) والتكنولوجيا المتطورة والزراعة والتكنولوجيا الحيوية، وارتفع حجم التبادل التجاري باستمرار طيلة 25 سنة، وبلغ حجم التّبادل التّجاري الثّنائِي المُعْلَن رسميا 11 مليار دولارا سنة 2017، واستحوذت شركة “برايت فودز” الصينية سنة 2014 على أكبر شركة صهيونية لمنتجات الألبان، لتشكل الصفقة أكبر استثمار صيني آنذاك في فلسطين المحتلة، وفي سنة 2018، اشترت شركة “فوسن” الصينية شركة “أهافا” الصهيونية التي تنهب ثروة البحر الميت لصناعة مستحضرات التجميل، والتي تُطالب حركة المقاطعة بعدم شراء إنتاجها وبعدم الإستثمار في رأسمالها، وأسّس الطّرفان “الشبكة الصينية-الإسرائيلية العالمية والقيادة الأكاديمية” التي أشارت في تقريرها السنوي لسنة 2017 “تُمثل الصين ثُلُثَ الاستثمار في التكنولوجيا الإسرائيلية المتقدمة”، وأَكّد نتن ياهو ذلك خلال زيارته بيكين سنة 2017، وَوَقَّعت حكومته مع الحكومة الصينية، خلال هذه الزيارة، عشْر اتفاقيات ثُنائية بقيمة 25 مليار دولارا، وكانت الصين قد استثمرت 16,5 مليار دولار في قطاع التكنولوجيا الصهيونية سنة 2016، أو عشرة أضعاف استثمارات سنة 2015، وأشار تقرير “معهد دراسات الأمن القومي” (الصهيوني) لسنة 2017 “تستثمر الصين في حفر أنفاق الكرمل في حيفا، وإقامة السكك الحديدية الخفيفة في تل أبيب، وتوسيع الموانئ البحرية في أشدود وحيفا، وبناء خط السكة الحديدية الرابط بينهما (عبر الأراضي المُصادرة بالقوة في النّقب)، وبناء العقارات…”، وافتتحت شركة على بابا مركز أبحاث في فلسطين المُحتلة منذ سنة 2017، ولم يُعْلَنْ عنه سوى خلال شهر حزيران 2018، إثر زيارة مؤسس الشركة ورئيسها التنفيذي، على رأس وفد تجاري صيني ضخم تكون من 35 مديرًا تنفيذيًا لشركات صينية…
هذه مُجَرَّد أمْثِلَة لتطوّر العلاقات التّجارية التي لم تحصل بين عشية وضُحاها، بل امتدت على طول ثلاثة عقود، وتعكس العلاقات التجارية تطور الموقف السياسي والعلاقات السياسية والعسكرية والدبلوماسية (مشاورات وتنسيق المواقف في الأمم المتحدة، على سبيل المثال) بين الطَّرَفَيْن، خصوصًا بعدما تمكن الكيان الصهيوني من تحسين العلاقات مع الهند، ولكن تطور العلاقات العسكرية والأمنية بين الكيان الصهيوني والصين التي كانت تَدّعِي تطبيق “دكتاتورية البروليتاريا” وريادة “العالم الثالث” في مواجهة “الإمبريالية”، يُثِيرُ مخاوف عديدة (مَشْرُعة) خصوصًا إثر تعزيز العلاقات بين القوات البحرية الصينية (التي أصبحت ترسو باستمرار في موانئ “حيفا” و”أشدود”) وجيش البحرية الصهيوني، وتَعْزيز التعاون العسكري، رغم الضغوطات الأمريكية، حيث أنْجَزَتْ شركة صناعات الطيران الصهيونية سنة 2004 تحديث نظام صواريخ “هاربي” (تكنولوجيا أمريكية مُعَدّلَة)، الذي اشترته الصين منها سنة 1994، مقابل 55 مليون دولار، رغم تحفّظات الحكومة الأمريكية (لأسباب أمْنِيّة)، وتشتري الصين مُعدّات قمع من الكيان الصهيوني، أظْهَرت نجاعتها عند استخدامها في قَتْلِ وجَرح الفلسطينيين، وارتفع عدد السائحين الصهاينة في فلسطين المُحتلّة إلى 100 ألف سنة 2017، ويَدْرُس في جامعة تل أبيب 200 طالب صيني، وخَصَّصَت حكومة الصين سنة 2013 منحة بقيمة 130 مليون دولارا لبرنامج تعاون بين جامعة “تخنيون” (حيفا) وجامعة “شانتو” الصينية، وإنشاء فرع لهذه الكُلِّية التقنية الصهيونية في الصين بقيمة 147 مليون دولارا تُسَدِّدُهُ الهيئة المحلِّية الصينية (المُقاطَعَة) واتخذت الحكومة الصينية من طاقم جامعة “حيفا” مستشارًا رسميا لبناء مختبر في جامعة “نورمال تشاينا” في شنغهاي لبحوث علم البيئة والبيانات والطب الحيوي والبيولوجيا العصبية، وتتعاون جامعة “تل أبيب” منذ سنة 2014 مع جامعة بكين لبناء مركز لبحوث تطوير التكنولوجيا الحيوية، والطاقة الشمسية، والمياه، والبيئة، بالتوازي مع تأسيس أقسام دراسات آسياوية في الجامعات الصهيونية… وتُعَدُّ مثل هذه البرامج من أخْطَرِ خطوات التّطبيع لأنها تُنْشِئ جيلاً مُطَبِّعًا لا يهتم بمصير الشعب الفلسطيني، بل يُمَجِّدُ قاتِلِيه وناهبي وطَنِهِ… عن “جيروزاليم بوست” 12/07/18 + موقع “مجلس العلاقات الخارجية” (الأمريكية)
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.