ما زال الشهداء… يعلموننا: دراسة في الجانب الاستشرافي من كتابات غسان كنفاني، في الذكرى الخامسة والعشرين لاستشهاده، حلقة (7)، عادل سمارة

الفلاحون” عصب ثورة 36 ومقاومة 1967

أدرك غسان، وهذا ما اتضح في كتاب ثورة 36-39 ان الصراع مع الفلاحين يعكس الوجه القومي للصراع. ونعتقد أن غساناً كان يدرك أن تفكيك التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الفلسطينية يبدأ من تفكيك الفلاحين  تحديداً. وعليه، فقد كان محقاً حينما أكّد أن الصراع الأكثر شدة واحتداماً واستمرارية هو بين الفلاحين والاستيطان اليهودي. فالاستيطان في الأساس مشروع لاغتصاب الأرض سواء بالشراء أو التزوير أو الاحتلال القسري المباشر. وقد مر الفلاحون الفلسطينيون بهذه الدرجات من الصدام جميعاً، وان تم ذلك بالتتابع.

لم تكن الطبقة العاملة مرشحة لتصدر هذا الصراع، نظراً لطبيعة نمط الانتاج المهيمن، وتحديداً انه لم يكن نمط الانتاج الرأسمالي الذي يخلق من يخضعون له كي يستغلهم، ويتحولون إلى نقيضه أو خصمه على الأقل، أي الطبقة العاملة. بل كانت تجري اعاقة تطور هذا النمط واحتجاز نموه لصالح نمط الانتاج الرأسمالي الكولونيالي الاستيطاني اليهودي. اتخذت الرسملة هنا في علاقتها بالمسألة القومية شكلين يتناسبان مع الموقف الامبريالي البريطاني من اليهود ومن العرب. فالاستعمار البريطاني الذي اعتاد النهب من المستوطنات غير البيضاء لتمويل اقامة المستوطنات البيضاء، من الهند لأمريكا الشمالية مثلاً، هو نفسه الذي كان دوره “تقشيط” الفلسطينيين ما لديهم من فائض، وحتى تجريدهم من أرضهم لصالح اقامة نمط انتاج رأسمالي يهودي ولتوطين اليهود في فلسطين. 

يقول غسان: قادت بيوعات الأراضي التي قام بها كبار الملاك إلى طرد الفلاحين من الأرض لكنها لم تقد إلى تحولهم إلى طبقة عاملة حقيقية وذلك لأن نمو نمط الانتاج الرأسمالي في فلسطين لم يكن بنفس شدة وتسارع تجريد الفلاحين من الأرض ليجدوا بدائل عمل، ناهيك عن أن عملية التجريد من الأرض لم يكن مقصوداً بها الرسملة وبالتالي العمل على ايجاد بدائل. والحقيقة أن الاستعمار البريطاني لم يكن معنياً بفتح السبل لهذا النمو الرأسمالي حيث كان المخطط هو اقتلاع المجتمع نفسه، وليس مجرد “تحويله” من أنماط الانتاج الما قبل رأسمالية الى النمط الرأسمالي كما يدعي عادة الاقتصاديون الذين يبررون الاستعمار. وعليه، فإن القطع كان قد أصاب في الأساس المقدمة الموضوعية  للرسملة الا وهي “تمفصل” انماط الانتاج ما قبل الرأسمالية مع نمط الانتاج الرأسمالي الفلسطيني، كما أن هذا القطع قد أصاب في الوقت نفسه عملية التمفصل المحتمل بين نمط الانتاج الرأسمالي اليهودي وأنماط الانتاج الفلسطينية ما قبل الرأسمالية، وهو قطع مقصود ومخطط له.

وفي هذا الصدد، فإن النقد الذي يوجهه غسان إلى تقصير الحزب الشيوعي أو ضعفه أو كليهما، ربما ناتج في الأساس عن ضعف التحليل الاقتصادي والاجتماعي الطبقي لدى قيادات الحزب التي كانت دوماً مأخوذة بشهية تفجير الثورة البروليتارية، التي اتضح على صعيد عالمي انها وإن كانت الطريق الثوري الحقيقي، إلا أنها في كثير من المجتمعات والفترات قد تم تبنيها بشكل قصوي صادر الدور الحقيقي للفلاحين.

وفي علاقة الفلاحين بالثورة هناك مدخلان على الأقل، هناك مدخل تجنيد الفلاحين للثورة وذلك بالانتشار الحزبي بينهم وتوعيتهم بضرورتها (الحالة الصينية مثلاً)، وهناك قيام الحزب بتجنيد نفسه لمشاركة الفلاحين في الثورة، أي عندما يكون الفلاحون قد سبقوا الحزب في مقاومة العدو. كانت حالة فلسطين هي الثانية وليست الأولى. فقد فجر الفلاحون الثورة، أما الأحزاب الفلسطينية آنذاك فكانت أضعف بكثير حتى من اللحاق بمن صعدوا إلى الجبال. لذلك، يحمل ما كتبه المندوب السامي البريطاني معنى كبيراً حيث أدرك الهامش الواسع بين:

… صلابة القرويين الذين قاومونا ستة أشهر وهو يتلقون أجوراً ضئيلة ولا يقدمون على النهب، “وبين “ضعف أو انعدام الصفات القيادية العظيمة لدى أعضاء اللجنة العربية العليا العشرة”[1]

كان غسان أيضاً من أول من لاحظوا الطبيعة اللجوئية للمقاومة الفلسطينية بعد 1948 ولا سيما بعد 1967. ولا شك أن اللجوء هو حالة سياسية ديمغرافية لا يوجد لها مبنى خاص يحل محل التربية والثقافة والانتماء الطبقي للاجئ نفسه، الذي هو في الحالة الفلسطينية ذو طابع فلاحي غالب. الا أن ظروف اللجوء نفسها تدفع الغالبية الساحقة من اللاجئين إلى جيوش الطبقة إلى العمل المأجور، وفي حالات عدة إلى البطالة، وكلا الحالتين تؤصلان في أذهانهم الحنين إلى الأرض واستعادتها، وإذا كان يفترض أن حلم العمال، من أصل ريفي، الذين فقدوا الأرض بسبب التحولات الرأسمالية العادية في مجتمعاتهم هو استرجاعها بالعمل المأجور وتحصيل ثمنها، فإن من الطبيعي أن يكون حلم الفلسطيني هو استعادة أرضه المغتصبة.

ولم يفت غسان التطرق إلى دور البدو في الثورة أيضا، وهو تعاط ينم عن تناول دقيق وجاد للحراك الاجتماعي دون الانقياد للايديولوجيا التي  ترسم وعياً خاطئاً وخطياً في الوقت نفسه. فالايديولوجيا التحريفية التي نسبت الثورة للعمال فقط، لم يكن لها ان تنسب أي دور للبدو، بل ربما تنسب لهم خيانة الثورة. وعلى أية حال، ربما استفاد غسان في هذا الصدد من دور القبائل في جنوب اليمن إبان ثورة التحرير لا سيما ان غسان كان يعيش في بيروت مركز حركة القوميين العرب التي انتمى إليها في اﻷساس والتي انتمت إليها الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن.

يقتطف فيصل دراج من برقوق نيسان آخر كتابات غسان ” عندما جاء نيسان أخذت الأرض تتضرج بزهر البرقوق اﻷحمر، وكأنها بدن رجل شاسع، مثقب بالرصاص” يا لهول الصورة، ويا لهول التوحد بين أدب غسان وعقله وحلمه وبين صورة الفدائي الذي يستغرق كامل مساحة الوطن، بل كامل كوكب اﻷرض وقد رسم الرصاص على جسده المسجى مختلف عبارات الرفض والمقاومة التي لا يقوم بها إلا الفدائي. ويضيف فيصل مقتطفاً فرانز فانون بقوله ” ان التحرر بالكفاح لا يزيل الاستعمار فحسب، بل يزيل المستعمر أيضا” [2]

تحضر هنا جملة من اﻷمور المتعلقة من جهة والمتناقضة من جهة ثانية. أحدها متعلق بعمق الثورة، وبالتالي بالطبيعة التي سيؤول إليها وضع البلد بعد التحرير. هل سيسدل الستار على ماضي الاستعمار، وهل ستصبح الثورة ماضياً، أم سيشكل الواقع الجديد امتداداً ما لها وارتباطاً ما بها؟ ندخل هنا مأزق ثورات التحرر الوطني في بلدان المحيط، فهي ثورات وطنية وحسب، وحينما تنجز التحرر الوطني ترتبك، وتترنح فيعود الاستعمار نفسه، وهو الذي أثخن بالجراح ولكنه كان قد خبئ في أحد بيوت أهل الوطن أنفسهم. [3]

كانت بندقية غسان هي سيف قتيبة بن مسلم الذي قال :”العبرة ليست في السيف وإنما في الساعد الذي يحمله والغاية التي شهر من أجلها“. كان الرجل يستل سيف الإسلام لينشر أرقى ما وصل إليه إنسان ذلك العصر. وبندقية غسان كانت بندقية ماو الذي قال “تنطلق الثورة من فوهة البندقية“.كانت ثورة ماو ثورة مسلحة بالفكر والنظرية من جهة وبفهم الواقع والاقتراب منه كما قال تشي جيفارا من جهة ثانية. لذلك جاءت الصين وكوبا متميزتين عن ثورات العالم الثالث اﻷخرى.

وإذا كان يصل بنا تطرفنا في معالجة  اﻷمور حد الاعتراض على فرانز فانون  في الاكتفاء والتوقف عند قدرة التحرر على ازالة الاستعمار ومن خضع له، فما هو موقفنا من حالة غريبة هي عدم انجاز التحرر، وعدم إزالة الاستعمار!!

ربما يجوز لنا القول أن مشروع غسان الأديب هو إعادة تشكيل الهوية الوطنية عبر معركة رفض اللجوء. أما غسان المفكر الثوري، في كتاب ثورة 1936، فكان أقرب إلى ماو و فانون في رؤيتهما ان جيش الثورة في المجتمعات الزراعية هو الفلاحون. هنا يتضح تأثير النظرية في التحليل، وهو الأمر الذي أفقد الكثيرين بوصلة النضال لأن العمق النظري غائب. ولعل الاغتيال المبكر لغسان هو الذي حال دون أن يعطي تركيزاً كافياً لدور الريف الفلسطيني في المقاومة داخل الأرض المحتلة، ولا سيما سني الانتفاضة.

وعلى أية حال، فإن غسان هنا يكمّل غسان هناك. فاللاجئ الذي هب في أعقاب هزيمة 1967 هو نفسه الفلاح الذي ثار عام 1936 وفي أعوام كثيرة أخرى، وهو الذي أصبح لاجئاً، إضافة إلى أن اللجوء لم يكن أبداً هوية طبقية، لم يكن طبقة، وإن كان اللاجئون بغالبيتهم من الطبقات المسحوقة والشعبية.

لقد أدرك غسان أن الطبقات الشعبية لا تحقق استقلالها إلا إذا أنجزت ما يفصلها ويمايزها عن القوى التقليدية، ويجعل قيمها وأهدافها قادرة على الصمود في وجه القيم والأهداف المغايرة”

ربما لهذا السبب تحديداً، لم ترتق حركة المقاومة الفلسطينية إلى ثورة. فهي لم تقطع أبداً بينها وبين البرجوازية التابعة، لا بل ظلت قيادتها بيد هذه البرجوازية. وهذا ما استبدل مشروع التحرير بالتسوية، ومشروع الاستقلال بالاكتفاء بالحصول على الربح الأقصى. وانتهى إلى استدخال الهزيمة، وقبول اندماج الكيان الصهيوني في الوطن العربي اندماجاً مهيمناً. وهنا يأخذ معنى الاندماج لدى اليهود معنى آخر، إنه المعنى التوسعي الكولونيالي لا بل الامبريالي الرث.

لقد كان اكتشاف غسان لطبيعة قيادة منظمة التحرير مبكراً عندما لاحظ عجزها عن وضع استراتيجية لمعركة شعب فلسطين وآفاقها، واكتفت بالدعوة لبذل المال الرسمي للمنظمة[4].

وهكذا، لاحظ غسان بحسه المرهف كيف تقوم المقاومة باحتجاز تطورها إلى ثورة، وكيف تقيد نفسها بالمال العربي الرسمي لتقع في شرك الاحتواء وتنتهي إلى رأسمالية بروقراطية[5].

 

[1]  تاريخ فلسطين الحديث- الدكتور عبد الوهاب الكيالي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1970، ص174، وردت في كتاب غسان ثورة 36-39، مصدر سبق ذكره، ص89.

[2]  انظر فيصل دراج، بؤس الثقافة الفلسطينية 1996 ص130 -131، دون دار نشر.

[3]  لعل الكاتب الكيني محمد المزروعي مثال واضح على كاتب من العالم الثالث يدعون إلى عودة الاستعمار بعد فشل مشروع الثورة الوطنية في تنمية تلك البلدان.

[4]  الهدف، العدد 32، مقتطف في “بؤس الثقافة الفلسطينية”، فيصل دراج، مصدر سبق ذكره، ص 134.

[5]  انظر عادل سمارة: أزمة مالية سياسية 1993 

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.