يفرّق غسان بين التكتيك والانحراف مبقياً على مرونة معينة للتكتيك، ولكن محذراً في نفس الوقت من تحويل المرونة إلى تغيير في الموقف فيقول:
“إن الانحراف اﻷساسي يبدأ في النقطة التي نتنازل فيها عن استراتيجيتنا التحررية لحساب استراتيجية العدو. إن الخلاف هنا ليس في كمية التنازل، ولكن على نوعية هذا الانتقال من الصمود إلى الاستسلام لإرادة العدو”.[1]
واضح هنا انه ليس المقصود تغير في الدرجة، وإنما في النوع. ولا شك أن هناك صعوبة ما لدى كثيرين في ضبط العلاقة والحفاظ على فواصل حقيقية وضوابط صارمة تحول دون سقوط المرونة إلى موقع الانحراف. من هنا كان مطمح غسان هو دور الشعوب وليس دور اﻷنظمة. “ان البديل الوحيد لقمة اﻷنظمة هو قمة الجماهير”[2].
وهكذا لم يخف على غسان مبكرا، ان الرسمي العربي لا يمثل الشعبي العربي، حتى في تلك الفترة التي عاشها غسان حيث كانت هناك فرصة لبعض اﻷنظمة كي تتلون بلون يناسب طموحات ومصالح الطبقات الشعبية. لعل المفارقة كامنة في ما يدور اليوم. فرغم تخلف اﻷنظمة العربية في كل المجالات، حتى عن أنظمة العالم الثالث،الا ان عدد المثقفين والكتاب الفلسطينيين والعرب الذين يكيلون المديح ويعيدون بنشاط تشكيل الوعي الشعبي لصالح هذه اﻷنظمة. ففي حين تحاول أنظمة في العالم الثالث تصنيع بلدانها، وتطوير الزراعة فيها، والتعامل مع الديمقراطية كعلاقة بين السلطة والشعب، وتحاول إقامة تجمعات اقتصادية اقليمية كشكل من أشكال الدفاع الذاتي (ضمن النظام العالمي بالطبع)، فإن اﻷنظمة العربية تذهب في طريق مغاير. فهي تكرس التجزئة، وتحول دون أي تطبيق ديمقراطي ملموس، وتعمق التبعية على حساب التنمية، وتحتكر السلطة في يد طبقة كمبرادورية تتخارج مصلحياً وثقافياً وربما حياتياً بشكل مستمر، من هنا يصبح ما يقوله غسان أكثر ملحاحية وهو مشروع الجماهير وليس مشروع اﻷنظمة، ولا نقصد هنا ما يخص فلسطين وحدها ولكن الوطن العربي بأكمله. ..
على أن الحلقة التي يجب أن لا تغيب عنا، إذا غابت عن غسان، هي الحلقة الوسطى ما بين الطبقات الشعبية وبين السلطة. وهي الحركة السياسية. والحركة السياسية هنا شقان أيضا.
شق مع الشعب وشق مع السلطة. وما نقصده بالغياب هنا هو الشق الذي مع الشعب. لا أراني أجانب الحقيقة هنا إن قلت، ان أحد العوامل التي مكنت أنظمة الكمبرادور من الإمعان في ما هي فيه وعليه، هو الموقف المساوم الذي اتخذته قيادات معظم الحركة الوطنية/ القومية/ الماركسية العربية في العقود الثلاثة اﻷخيرة. صحيح ان بعض المثقفين والمفكرين اﻷفراد قد لعبوا دوراً في تجميل وجه الامبريالية واﻷنظمة العربية، وصحيح ان هؤلاء قد وصلوا إلى تجميل وجه الصهيونية. مثلا المرحوم اميل حبيبي الذي قبل جائزة الدولة اليهودية من اسحق رابين الذي كان يفتخر فيما يفتخر به بتحطيم عظام صبية وشباب الانتفاضة؟ ولكن الخلل الحقيقي هو تدهور الحركات السياسية لدرجة أصبح معها بعض الكتاب اﻷفراد من حاملي لواء التسوية أو الأسرلة قادرين على المزايدة على حركة سياسية بأكملها. لقد اتضح تدهور وضع حركة التحرر الوطني والاجتماعي الطبقي العربية إبان العدوان الثلاثيني على العراق بعد تحريره الكويت. لم يكن غريباً ان لايقف (حقا) أي نظام عربي مع العراق، ولم يكن غريباً أن تشارك جيوش عربية في العدوان على الكويت والعراق، إذا وضعنا بالاعتبار أننا نقرأ خريطة المصالح الطبقية للطبقات المتخارجة وطنياً وقومياً، ولكن كان غريبا ذلك “الموات” الكبير الذي أصاب القوى السياسية العربية حيث أنها كانت الآلية الوحيدة التي يمكنها اشعال فتيل التصدي الجماهيري. [3]
نتحدث هنا عن مشروع كمبرادوري عربي يهدف إلى جر الطبقات الشعبية للتطبيع ليس مع الصهيونية وحسب، بل مع النظام الرأسمالي العالمي لتقبل اﻷمة العربية . بدور وضيع في قاع السلم البشري. أي تخلف اقتصادي، تخلف اجتماعي تخلف حرياتي، شعور دوني واقتناع بأن هذه قسمتها اﻷبدية.
معرفة ما هي الصهيونية تحتاج إلى مشروع ثقافي
يقول غسان في مقدمة كتابه في اﻷدب الصهيوني:” وكل ما تطمح إليه هذه الدراسة هو أن تلقي ضوءاً آخر على الشعار الصعب: اعرف عدوك”.
لا أعتقد أن الخطر اﻷساسي كامن في ما عملت الصهيونية على تعميمه أي الكره الإنساني التاريخي لليهود. ولكنه كامن في القرار الصهيوني مع سبق اﻹصرار بخلق اليهودي الآخر اللا-إنساني، أي الصهيوني، كخطوة أولى لتحويل كل يهودي إلى صهيوني[4]. فحتى النازية التي هي عنصرية بشكل عام وعنصرية إبادية ضد اليهود بشكل خاص، إلا أنها لم تكن لتتصف بما تتصف به الصهيونية الا وهو ان اليهودي وحده اﻹنسان المكتمل والمميز والحقيقي والقريب من … الله. ومن هنا تنقلب المعادلة لتصبح ان الصهيوني ليس إنسانا، وبهذا المعنى يصبح اليهودي عندما يتصهين في موقف قتالي مع كل العالم مما يخلق حالة من الانشطار العدواني المتسلسل.
الصهيونية تخون اليهود
لم تتورع الصهيونية عن التضحية باليهودي وغير اليهودي في سبيل مشروعها العدواني في فلسطين. ولعل الكتابات الجديدة التي عالجت هذا اﻷمر، قد جعلت اثبات هذا الحكم سهلاً، ولا سيما الكتابات التي تثبت كيف قامت الصهيونية بقتل وإرهاب يهود الأقطار العربية للهجرة إلى فلسطين[5]، وبالطبع عندما وجدتهم ضروريين لها. فقد كان هدفها في السابق جعل إسرائيل مستوطنة يهودية بيضاء. لعل مسرحية الهلاك The Perdition للكاتب البريطاني Jim Allen مثال نموذجي في هذا الصدد أيضاً.[6]
أما آخر ما كشف عنه النقاب في هذا الصدد، فهي مسألة ودائع يهود صفتهم النازية في البنوك السويسرية، يقول شارجا:
“لا تزال قضية كاستنر حية في إسرائيل، فهناك أكثر من ظل من الشك على تعاون
الصهيونية مع النازيين لتدمير يهود هنجاريا. هناك تقليد طويل عن قيام الصهيونية بسوء استخدام معاناة يهود أوروبا ﻷهداف سياسية واقتصادية… ان رودلف كستنر هو ممثل الوكالة اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية والمتهم بغض النظر عن تصفية يهود هنجاريا من أجل تنفيذ صفقة تسهيل هجرة مجموعة مختارة من القيادات الصهيونية إلى فلسطين. وعندما كشفت هذه المسألة في الخمسينات أحدثت ضجة كبيرة ضد حزب العمال الحاكم”.[7]
[1] مجلة الهدف، العدد 58، مقتطف في فيصل دراج، غسان كنفاني رمز الثقافة الوطنية، منشورات دار المبتدأ للطباعة والنشر، دمشق 1992، ص 24-25.
[2] مجلة الهدف، العدد 22، مقتطف في فيصل دراج، 1992، ص25
[3]انظر بهذا الصدد عادل سمارة: البريسترويكا، حرب الخليج والعلاقات العربية السوفييتية، منشورات مركز إحياء التراث العربي- الطيبة، 1991.
[4] يمكن ادراك ذلك بمتابعة التحولات الجارية على منظمات اليسار الاسرائيلي وأعضائها حبث تفتت هذه المنظمات وتصهين الكثير من أعضائها وكوادرها، وخاصة منظمة ماتسبين الاسرائيلية اليسارية، التي التي ما ان عقد مؤتمر مدريد حتى تفتت كليا حيث سيطر الاتجاه التصفوي بقيادة ميشيل فارشافسكي الذي أيد اتفاقات مدريد- أوسلو، وأنهى وجود المنظمة نفسها، وبدأ بالعمل من خلال مؤسسات أقامتها أحزاب اليسار الصهيوني نثل ميرتس، وبدأ بالدعوة الى دولة ثنائية القومية يتساوى فيها الفلسطينيون مع اليهود فيما يخص الحقوق المدنية بينما تظل الأرض كليا بيد اليهود في المناطق المحتلة 1948 وكذلك معظم المناطق المحتلة عام 1967. والشيء نفسه حتى بالنسبة لليهود المتدينين الارثوذكس (الحريديم) الذين كانوا يعتبرون انفسهم ضد الصهيونية وضد دولة اسرائيل، فقد اتجهت دوائر في مراتبهم القيادية للتحالف مع اريئيل شارون اليميني المتطرف انظر بهذا الصدد:
Yohanan Lorwin : Judaism and Zionism – an interview with Daniel Boyarin, in News From Within. Vol XII no 9 September 1996: 22-24
[5]See Abbas Shiblak, The Lure of Zion: The case of the Iraqi Jews, Alson Books, London, 1986
[6]كتب جيم ألن، الكاتب المسرحي البريطاني مسرحية الهلاك، وهي مسرحية تحكي أن الصهيونية تعاونت مع النازية ليس لتخليص نصف مليون يهودي هنجاري بل لتدميرهم، (انظر 1987 – 1- 22 Daily Telegraph) قامت فرقة مسرحية في مانشستر في بريطانيا بتمثيل هذه المسرحية، الا أن ادارة المسرح الملكي البريطاني في لندن منعت عرضها قبل 48 ساعة من بدء العرض. وعندما مارس المسرحيون البريطانيون ضغطاً على ادارة المسرح اخبرتهم الادراة أن ادارة المسرح الامريكي ترفض عرض المسرحية، وانها سوف تتوقف عن دعمهم المالي اذا عرضت المسرحية.
[7]See Shrega Elam, Zionism and the Judeocide “ The state of the Natzi Assets in Swisserland. In News From Within , July 1997
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.