إيلان بابيه صهيوني: بين أسد لم يوقع والميادين التي وَقَعت ووقَّعت، الحلقة الرابعة، د. عادل سمارة

حل الدولتين لغة خشبية و”طوبى” للدولة الواحدة

لم يتأخر الرجل كثيرا وراء فرق التطبيع الفلسطينية سواء في المحتل أو الشتات ليصل إلى الحل الذي ثرثر فيه مختلف رسميي العالم من اليسار واليمين ومضى عليه قرابة قرن ولم يتقدم بوصة واحدة أي حل الدولة الواحدة. ورغم العمر الطويل لهذا الحل إلا أن بعض العرب والفلسطينيين ينبهرون بهذا الرجل، إيلان بابيه،  وكأنه مخترع هذا الحل، وليس هذا سوى خنوع البحث عن نبيٍّ/خواجا من خارج جلدتهم/ن.

يقتطف أحدهم التالي من محاضرة لإيلان بابيه في جامعة أكسفورد:

“…هل ما زال العالم يصغي إلينا، نحن الذين نتكلم عن فلسطين؟”. بهذا السؤال المفصلي، افتتح المؤرخ الإسرائيلي الشهير إيلان بابيه محاضرته التي ألقاها ضمن فاعليات «أسبوع مكافحة الأبارتايد (الفصل العنصري) الإسرائيلي» في جامعة أكسفورد البريطانية، بحضور عدد كبير من الطلاب والناشطين والأكاديميين المرموقين. ويُعدّ البروفسور بابيه أحد الأصوات الأكثر ارتفاعاً في مناصرة القضية الفلسطينية، ومن الناشطين القلائل المؤمنين بما يعرف بـ “حل الدولة الواحدة”

وجدتُ من المناسب تناول مسالة الدولة الواحدة من مقترب الحيز، سحق الحيز، تدمير الحيز، وإعادة تشكيلة لأن الدولة لا تقوم إلا في الحيِّز. وأقصد بالحيز هنا الوطن، الأرض الجغرافيا أي الأساس الوحيد للوجود وحق البقاء الأبدي. وليس الوطن كمكان عابر كخيمة اللجوء أو خيمة البدو بما هنَّ كلتيهما عابرتين يستخدمهما متنقلين رُحًّلاُ.

يجادل  هنري لوفيفر بأن أطراف الإنتاج الثلاثة هي راس المال والدولة ومستعملو الحيز. وهذا معيار قراءة البلد القومي المستقل وصاحب القرار حيث يتموضع القرار سياسيا وطبقياً في يد السلطة/الدولة وراس المال وتمفصلات الطبقة الراسمالية. في هذه الحالة يجري الشغل على الحيز وسحقه وإعادة تركيبه بقرار ذاتي.

في حالتنا فإن الاستعمار يستخدم العنف لسحق الحيز وليس فقط للسيطرة عليه والتحكم به فقط. فالدولة هنا استعماراستيطاني  وهذا مختلف عن الأطروحة او الوضع الطبيعي لأطروحة لوفيفر في ديمومة إنتاج الدولة للحيز. وإعادة إنتاج متواصلة  للحيز على ارضية التحول للأعلى.

 الحالة الفلسطينية مختلفة فالحيز جرى سحقه باغتصابه، سحق غير شرعي ابداً،  ليكون المستوطن هو المتحكم بالحيز وتفريغه من أهله ليُقيم عليه دولته وحده. وبما أن هذا الكيان هو تصنيع معولم قبل ان يكون يهوديا/صهيونياً، فإن سحق الحيز الفلسطيني هو سحق معولم.

وهذا يطرح السؤال العملي قبل ان يكون المنطقي: لو كان صناع الكيان مع دولة واحدة حقاً، فلماذا لم يفعلوا؟ أم أن حل الدولة الواحدة هو مورفين معولم؟  هل ما قام ويقوم به الكيان هو احتقار لمن صاغوا هذا الحل، أم أن المسألة تواطؤ مشترك أخذ يطفو على السطح بوضوح كطفح الجدري؟

 لننظر التالي”…إذا كان الحيز يُبنى ويُنتج، وإذا كان الحيز الاجتماعي يبنى وينتج، حيزيا كذلك، إذن يمكن أن يدمر حيزيا واجتماعيا” ص 310 من مفيد (Lefebvre, 1991: 27  مثقف للعرقية ميسيMassey 1992:70, 19994:254, Harvل ey 1990: 418) .

لكن هذا ايضاً في حالة المجتمع الطبيعي على أرضه، لكن في فلسطين بدا سحق الحيز من خارج أهله منذ ستينات فثمانينات القرن التاسع عشر إلى أن وصل قرابة قمته عام 1948 حيث تم تفتيت الحيز الفلسطيني بهدف نفي مطلق للوجود الاجتماعي الفلسطيني وتواصل ذلك أي سحق الحيز حتى حينه..

لكن اكتمال المأساة في دخول عرب وفلسطينيين في سحق الحيز نفسه لصالح المستوطنين أي تذويت – من تبني ذاتي- لسحق حيزهم نفسه بدءاً من هزيمة 1967 ودخول هذا النظام العربي أو ذاك دائرة التسوية وصولا إلى التصفية عبر التطبيع والاعتراف وحصر المطالبة بدولة في الضفة والقطاع وحتى بالتوازي مع مواصلة الكيان التهام أرض الضفة والقطاع نفسيهما. هذا ما قصدت به المشاركة العربية والفلسطينية في سحق الحيز. وهو الأمر الذي إتَّسع عولمياً، سواء بقرار 242 أو 338 من ما تسمى الأمم المتحدة مما يؤكد أن هذه الأمم قد لعقت/لحست، خبثاً أو وقاحة أو خنوعاً،  قرار حل الدولة الواحدة الذي ثرثرت به وعنه، وكل هذا وصولاً إلى سحق متواصل أكثر للحيز في قطاع غزة بدءاً بالحصار الذي يسحق الوجود الإنساني هناك وليس انتهاء ب “صفقة القرن” بغض النظر عن شطفها وإعادة إخراجها وعن التجهيز لوطنين بديلين:

  • الأردن
  • سيناء ومدينة نيوم  لأوغاد السعودية الوهابية.

خلاصة القول هنا، إن سحق الحيِّز على يد المستوطنين لا رجعة عنه بعكس البلد الطبيعي إذ يمكن سحقه اجتماعيا بل إنسانيا  لإعادة إخراجه  بغض النظر بشكل أفضل أم لا . لذا، فإن حل الدولة الواحدة ليس سوى أكذوبة لإحباط اي شكل من المقاومة وتحويل شعبنا إلى الإيمان بدين جديد هو الانتظار إلى أن يتعطَّف عليه قاتله.

في البلد الطبيعي تتم ” تتضمن السيادة “الحيز” بل وأكثر تتضمن حيزا والذي يُتوِّجه العنف ضد أو يمارس عليه كمونا أو وضوحا- الحيز يُبنى ويشرعن بالعنف”. لكن في حالة الاستيطان الاقتلاعي، يُشرعن بانتزاع الأرض كل الأرض مباشرة أو بالتمسك بنفس الهدف  وتحقيق ما امكن انتزاعه طبقاً لقدرة القوة وتوفر الكثافة البشرية من المستوطنين مقترناً طبعاً بالنفي المطلق لأصحاب الحيز.

لماذا النفي الوجودي المطلق لأهل/أصحاب  الحيز؟

هنا لا بد من كلمة في الاقتصاد السياسي والإنتاج خاصة.  صحيح ان الوجود المادي سابق على الإنسان ومؤثر فيه، ولكن الإنسان، وجود الإنسان في الواقع المادي هو ما يعطي هذا الواقع المادي حياته  وحيويته  وتغيراته  فالإنسان خالق الزمان الذي عبر عملية الإنتاج  مرتقية الى نمط الإنتاج. وعليه، فالوجود الإنساني العامل الفاعل هو الذي في صراعه مع الطبيعة يسحق الحيز ويمتطيه ، وفي صراعه الاجتماعي الطبقي يخلق الاقتصاد السياسي . ومن هنا قرار المستوطن اقتلاع الوطني تماماً حتى لو تدرَّج ذلك بتصفية مواقع الإنتاج المادي اي رقعة الأرض، او حتى بالتبادل اللامتكافىء المسلح.

الزمان والحيز يكتسبان بوجود الإنسان حالة مخلوقين من المجتمع، من خلق المجتمع ، وهذا يشتمل على إعادة الإنتاج الاجتماعي، وكل مجتمع يعيد إنتاج نفسه عبر أدواته اي نمط الإنتاج المهيمن. لذا يقرر المستوطن اقتلاع المجتمع كي لا يقوم بإعادة إنتاج نفسه حتى بيولوجيا إن أمكن.

بقي أن نضيف بأن الشعب الفلسطيني في عقل ومخطط الكيان الصهيوني هو منفي خارج فلسطين طالما العدو هذا يحتل كامل الوطن الفلسطيني وهذا يقتضي من أهل حل الدولة الواحدة  الإجابة:

اية دولة واحدة للطرفين طالما الطرف الغاصب ينفي ويؤكد تمسكه بنفي الطرف الأصيل؟

سيجيب عباقرة المرحلة: لا يا متخشب، سيتخلى الغاصب عن صهيونيته، ولا باس لو بقي غاصباً! شكرا، “رُفعت الأقلام وجفت الصحف”  لا بل جفت العقول. ؟

ما يصفه إيلان بابيه ب التطهير العرقي هو نتاج طبيعي لتدمير الحيز، وهذا ينفي أية إمكانية لدولة واحدة مما يؤكد أن وصوله إلى المطالبة باستخدام خطاب جديد يتحدث عن : التطهير العرقي، الأبرثايد، الاستعمار الاستيطاني…وصولا إلى حل الدولة الواحدة”، ليسن سوى بلاغة مصطلحية بلا أرضية خدمة للهدف الذي يصبو إليه إيلان بابيه في التحليل الأخير وهو: الإقرار بأن “إسرائيل” باقية وبعد الإقرار ببقائها كما يكون الحديث عن اي أمر آخر من ضمنه مطالبتها بل إستجدائها  بضم بقايا الفلسطينيين في دولة واحدة على “ارض إسرائيل”.

وهنا يكون أحد التساؤلات، هل يقود/يؤدي تخلي المستوطنين عن العقيدة الصهيونية إلى استعادة الحيز؟ أم أن هذا التخلي المُتخيَّل لا يعني سوى بقاء الحيز بيد المستوطنين؟. وهذا يبيِّن بأن تبني فلسطينيين لحل الدولة أو الدولتين هو تذويت فلسطيني لسحق الحيز لأن كل الأمر بيد المستوطنين والمتروبول المعولم، بينما يُدبِّج هؤلاء ومعهم أمثال إيلان بابيه العرائض والصرخات والشروحات!

وفي تبنيه لحل الدولة الواحدة ينعت إيلان بابيه فريق حل الدولتين بأصحاب العقلية الخشبية:

“… يعتقد بابيه أن فلسطين اليوم في قلب الأحداث، إذا قاربنا المواضيع التي تشغل عالمنا المعاصر: تفكّك الدولة القومية، و«اهتزاز» معاهدة سايكس بيكو والاتفاقات الكولونيالية…هذه القضايا الشائكة والأحداث المعقدة يمكن ربطها بالقضية الفلسطينية، لكن ذلك مرهون بالتخلّي عمّا يسمّيه بابيه «اللغة الخشبية» لمصلحة لغةٍ جديدة، معاصرة ومرتبطة أكثر بقضايا اليوم. ويوضح بابيه فكرته هذه بسوق أمثلة عدة عن تلك اللغة الخشبية، والتي لا تخرج عن كونها تكراراً مملاً لمفاهيم قديمة مثل: مفهوم حلّ الدولتين، عملية السلام في الشرق الأوسط، صراع التيارات القومية في المنطقة، اقتراب تحقيق معاهدة السلام، عدم وجود قادة فلسطينيين يمكن التفاوض معهم، … وغيرها من المصطلحات التي تنكر «حلّ الدول الواحدة» الذي، كما يعتقد بابيه، هو المفهوم الوحيد الضامن لأحقية القضية الفلسطينية، مقابل «حل الدولتين» الذي يحمل في طياته قبولاً لفكرة إسرائيل ولطبيعة الحركة الصهيونية والدولة اليهودية.”

لا يتسع المجال لمناقشة كل هذه النقاط. ولكن، كيف جعل بابيه تفكك الدولة القومية مسألة مطلقة الحصول؟ علماً بأن الجدل في هذا الأمر بدأ على الأقل منذ اربعين عاما ولم يتوقف ولم يُحسم.  فهل ينطبق هذا على الدول الأوروبية التي تتفلَّت من الاتحاد الأوروبي؟ أم على روسيا، والصين والهند، والبرازيل وحتى على المستوطنة الكبرى اي الولايات المتحدة؟ أم هو مشروع راسمالي في مرحلة الإمبريالية لتفتيت المحيط وتركيز المركز؟ أم هو أيضاً أمنية وثرثرة التحريفية السوفييتية و التروتسكية ضد القومية كما أشرنا في مقال سابق؟ هدف هذين الطرفين خاصة، قطع الطريق على اية علاقة عروبية لفلسطين.

وبالمناسبة، قبل عشرين سنة دعى البعض نفس إيلان بابيه إلى النادي الأرثوذكسي في رام الله ليُحاضر عليهم، وكان السؤال الوحيد الذي لم يُجب عليه هو: ما موقفك من كون فلسطين جزء من الوطن العربي وبان الحل من هذا المدخل!

وهل سايكس-بيكو في لحظة الزوال أم يتم رفع إلى قوة (أُسٍْ) أعلى؟ تماما مثل اتفاق اوسلو الذي ينتقل من مرحلة إلى أخرى أخطر بعكس ما يزعم كثيرون بان أوسلو إنتهى!!!

بعد أن كان مرشحا لعضوية الكنيست في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، اي مع حل الدولتين والاعتراف المتبادل، غادر إيلان بابيه “اللغة الخشبية- أي حل الدولتين” وانتقل إلى اللغة الإفتراضية اي حل الدولة الواحدة.

وهنا يتقاطع مع كثير من الفلسطينيين، فاللغة الخشبية هي طبعة أخرى من ما كتبه إدوارد سعيد : “إن على الفلسطينيين إنتاج تفكير جديد”.  وهذا يفرض السؤال: ما هو التفكير الجديد لشعب تم اغتصاب وطنه وتدمير مختلف بُناه ولا يُعرض عليه سوى النفي التام بدءاً بالطرد 1948 ثم الإزاحة بعد 1967 وصولاً إلى توصيله قرار الإنزياح الذاتي اي تذويت ترك الحيز نهائياً.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.