غزة والصمود…ومنجزان يعض عليهما بالنواجذ، عبداللطيف مهنا

خلال الاثني عام الأخيرة خاضت غزة مُستفرداً بها وواجهت وظهرها إلى الحائط أربع حروبٍ عدوانية تدميرية توالت عليها، تخللتها فصول عدوانية توصل ما بينها، هي إن تبدو أقل من أن توصف بالحرب فهي نوع من تواصل تلك الحروب ذاتها. أي أنها كانت في حالة من مواجهة دائمة مع عدوها…قاومت، وصمدت، ولا تزال، ما يعني أنها انتصرت، إذ افشلت جوهر استهدافات العدوانية الاحتلالية، ذلك حين تمسَّكت ببندقيتها وظلت تشرعها في وجه عدوها ولم تزل.
لكن هذه الحروب التدميرية الأربع، وما بينهما من اعتداءات دموية لم تتوقف، وعلى فظاعاتها، قد لا تقاس مجتمعة بوحشية وهمجية وكارثية حرب خامسة كبرى موازية لها ظلت تشن على غزة طيلة هذه السنوات الاثنى عشر. إنها الحصار الإجرامي المفرط في لا إنسانيته والمزدوج بطرفيه الاحتلالي والعربي، معززين بثالثهما الأوسلوي، ورابعهما الدولي، والمستمر مضروباً عليها طيلة هذه الأعوام.
لذا، اعطى صمود مليوني فلسطيني في القطاع المقاوم وتضحياتهم الدائمة لهذه الملحمة النضالية الفلسطينية الغزيّة في مواجهة كل هاته الحروب مجتمعة اسطوريتها الفريدة، هذه التي يقف حتى اعدائها مذهولين أمام بطوليّتها غير المسبوقة ولا يكتمون نقمتهم وحيرتهم ازائها، وذاك ما تحفل به ادبياتهم، ويعترف به سياسيوهم، ويسبقهم عسكريوهم، بل هو الآن شغلهم الشاغل، والمسعّر لفوبياهم الوجودية المستحكمة في كيانهم ذي الهشاشة القاتلة، على الرغم من امتلاكه لكافة أسباب القوة العدوانية الغاشمة المعضَّد والمرعي فجورها من قبل عرَّابه الغرب الاستعماري.
حقق عناد وعبقرية الصمود النضالي الغزيّ للنضال الفلسطيني، حتى الآن، منجزين ذا بعدين استراتيجيين يفترض أن يكون لهما ما بعدها، وعليه، فإن أولى الأولويات الآن هي الحفاظ عليهما عضاً بالنواجذ والبناء عليهما، وهما: الأول، مسيرات العودة بابتكاراتها النضالية الرائعة المثبتة للكون كله أن الكف بمستطاعة مواجهة المخرز وحتى كسر أنفه. والثاني، إرغام العدو على التعامل من الآن فصاعداً مع قواعد اشتباك تفرضها المقاومة وعليه قبولها أو ضرب رأسه بالحائط.
هذان هما الأمران الكامنان الأن وراء كل هذا الجنون الذي يلتاث هذا العدو قيادةً وقوىً وكياناً، والدافعان المحركان وراء راهن جلبة الوساطات والمبادرات التهدوية المنثالة ضغطاً على غزة. وهما أيضاً، من يطلقان، بالتوازي، صفَّارة وساطات راهن الدبيب التصالحي التكاذبي الفلسطيني الفلسطيني إياه، والذي كالعادة نسمع عنه كل يوم خبراً مسرباً يجب سابقه. إطلاق استبشار زائف يتلوه انكشاف تعثر مزمن، لاستحالة ما يجمع بين مساوم ومقاوم، أو جديد الساحة القديم ومعهودها.
يكفي دليلاً، انعقاد ما لا زال يدعى المجلس المركزي في رام الله وسط مقاطعة فصائل المقاومة جميعها، ومنها بعض الفصائل التي كانت فيما مضى تتهم أول من علقوا الجرس في مواجهة بوادر الجنوح التسووي بالعدمية، وباتت اليوم تتهم سلطة رام الله بأنها قد “تحوّلت إلى نظام رئاسي سلطوي محض، يحكم بالمراسيم تحت سقف الاحتلال”!
أما رئيسها فابلغ، ومن على منبر مجلسه هذا، كل من يهمه الأمر، تمسُّكه بمفهومة التمكيني إياه للمصالحة، وزاد مؤكداً، “وبدون ميليشيات”! هذا لا يعني أننا قد لا نشهد احتفالية تصالحية يحشر المتوسّطون فيها متصالحيها متشابكي الأذرع، لكن ليس هناك ثمة مما يدعو لأن يؤمل بأن يكون مصيرها سيأتي المختلف عن مسلسل ما سبقنها من احتفاليات. 
وعود إلى ما هو الأهم. وضعت غزة حتى الآن عدوها بين مطرقة عدم قبوله بتآكل ما يسميه الردع، وتفويت ما يطلق عليه ترميمه، وسندان عدم احتماله ظهور المقاومة الفلسطينية في غزة بمظهر المنتصر في هذه الجولة، بمعنى الممتلكة للقدرة على تحديد مآلات المواجهة فيها وفرضها على ما انتهت إليه، لاسيما وأن كيانه يشهد تعاظماً لتطرُّف غير مسبوق يضرب سعاره بين اطناب تجمُّعه الاستعماري الاستيطاني، هذا المزداد غلواً أكثر فأكثر يغذّيه تردي الحال العربية وانعدام ما يردع غلوُّه، الأمر الذي تبيّنه لنا متوالية تصاعده استطلاعات الرأي التي تنشرها وسائل اعلامه. هو يجد نفسه قد تكبَّد جملةً من الخسائر التكتيكية والاستراتيجية على جبهة غزة يتحسَّب لانعكاساتها على مجمل الصراع، لاسيما في مرحلة هو فيها مثقل بهواجس ما ستأتيه بها متغيّرات ما بعد انتصارات محور المقاومة في سورية، وهذه بالذات باتت عنده الأولوية التي يضعها على رأس موجبات قلقه الذي لا يكتمه.
حتى الآن، ووفق ما توافقت عليه فصائل المقاومة، لم تُجدِ التهديدات الاحتلالية بتفعيل سياسات الإغتيالات، وقابلت غزة التلويح بحرب طاحنة عليها بإبلاغ الوسطاء بجهوزيتها ل”اغراق تل ابيب بالصواريخ”، ورفضها إيقاف “مسيرات العودة”، وقالت لهم إن ما يعرض علينا هو “أقل من الحد الأدنى الذي يمكن قبوله للتهدئة”، والتي لن تكون دونما رفع كامل للحصار بالتزامن مع بدء بحث صفقة تبادل للأسرى”.
…أعظم درس يجود به راهن هذه المرحلة المصيرية الأخطر في تاريخ أمتنا المقهورة، هو أن من يصمد ويواجه لينتصر، هو وحده المزداد قوةً والمراكم منعة. ووحدهما، تهادنية العجزة، ودونيّة متهافتي التبعية، المسؤولتان عن كل هذا الخراب.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.