تأتي هذه المقالة بعد الاطلاع على مقالة الكاتب فايز رشيد “المُصطلحات وأهميتها في الصراع العربي – الصهيوني”، واستطرادًا لها.
كتب فايز رشيد عن مُصطلحات تتعلق بالصراع مع الصهيونية، وما لحق بها من تحريف وتشويه، مثل: الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بدلًا من الصراع العربي – الإسرائيلي، والنزاع بدلاً من الصراع، والدولة العبرية، والشعب اليهودي، الخ.
أمّا هذه المقالة فتذهب الى مُصطلحات مُتداولة عن “إسرائيل” مع أنها لا تنطبق عليها، ومن شأنها، في الوقت ذاته، أن تؤثِّر في وعي الفلسطينيين، وفي نظرتهم الى طبيعة “إسرائيل” وتداعيات وجودها في فلسطين؛ وهي بذلك تمسُّ الثوابت الوطنية الفلسطينية على نحو خطير. والمقصود بالثوابت هنا، ما ثَبُتَ بالتاريخ والتجربة الحياتيّة، ورسخ في الوجدان الشعبيّ وأصبح مبادئ تلتزم به الأجيال الفلسطينية؛ ومن أبرزها ما حفظته وثيقة الميثاق القومي الذي صدر عن المؤتمر الفلسطيني الأول (القدس،1964) ومنها: فلسطين عربية ووطن الشعب الفلسطيني، والكفاح واجبٌ وطنيٌّ لتحريرها، والعودة اليها حقٌّ لكل أبنائها.
إنّ مُصطلحات مثل الاستعمار، والاحتلال، والاستقلال، مُصطلحاتٌ عامة في الفكر السياسي؛ ولكن لا ينبغي أن تؤخذ على عِلاّتها عند استخدامها في الصراع مع “إسرائيل”. ولذا وجب التوقُّف والتنبُّه بعدما شاع استخدامها لدى مثقفين وكتّاب وقادة فصائل من بينهم قياديِّين في الجبهة الشعبية التي ينتمي اليها فايز رشيد. وتخصيص الجبهة بالذكر مقصود لكونها الوجهَ الفلسطيني لحركة القوميين العرب التي تميَّزت بتحديد الصراع على أنه صراعٌ وجودي مع الصهيونية في فلسطين، وما كتبتْ كلمة إسرائيل إلاّ بين مزدوجين “اسرائيل”، ولم تنشأ الحركة أو الجبهة لتدعو الى تقاسم فلسطين مع “إسرائيل”. أمّا الآن، فيحرص قياديّو الجبهة على ترديد عبارات، مثل: أينما يوجد احتلال توجد مقاومة، وفي ظنِّهم أنّ هذه شهادة على موقفهم من المقاومة؛ ويُحيون ذكرى ما يُسمّى استقلال فلسطين، وربَّما يظنون أنّ تلك شهادة على الوطنية؛ مع أنّ إعلان الاستقلال في البلدان التي خضعت للاستعمار يكون يوم جلاء القوات الأجنبية عن الوطن.
ولهذا، تأتي هذه المقالة لبيان مخاطر الاستخدامات الخاطئة لهذه المُصطلحات.
من تعريفات المُصطلح أنه اتفاق على تسمية شيء باسم ما وإعطاء اللفظ معنًى دلاليًا لبيان المراد، أي إنّ المُصطلح ليس من دون مضامين ومحدِّدات، وإنما يعبِّر عن مفهوم متفق عليه بين أهل حقل معيّن، وبذلك يؤسِّس لمواقفَ يتخذها مستخدموه.
ومصطلحات الاستعمار والاحتلال والاستقلال، موضوع هذه المقالة، مصطلحات سياسية يعبِّر كلٌ منها عن مفهوم مُستخلَص من التجربة التاريخيّة، كما يتبيّن في ما يلي:
الاستعمار بمعنى الكولونياليةcolonialism هو سيطرة عسكرية وسياسية واقتصادية تفرضها دولة على بلد أو بلدان أخرى. ومن أشهر الدول الاستعمارية في الغرب؛ بريطانيا، وفرنسا، وإسبانيا، التي فرضت استعمارها على بلدان في آسيا، وإفريقيا، وأميركا اللاتينيّة. وفي الشرق كانت اليابان عنوانَ الاستعمار خصوصًا فيما بين الحربين العالميِّتين، إذ استعمرت بلدانًا في الهند الصينيّة، والشرق الأقصى، وأجزاءَ من الصين.
ويرتبط بمصطلح الاستعمار مصطلح التحرير أو الاستقلال، وذلك حين تنهض قُوى وطنيّة في البلد الخاضع للاستعمار وتخوض مواجهة مع الدولة المستعمِرة، غالبًا بالمقاومة بأنواعها المختلفة، للتخلُّص من السيطرة الأجنبية؛ وتنتهي المقاومة بجلاء القوات العسكرية للدولة المستعمِرة وإنهاء إدارتها للبلاد، ويكون يوم جلاء الأجنبي هو يوم الاستقلال الوطني، وتصبح الدولة المستقلة حرَّة ذات سيادة على إقليمها.
غير أنّ الاحتلال لا يكون على الدوام احتلالاً استعماريًا بقصد السيطرة والاستغلال. فقد يكون نتيجة خلافات وانتصار طرف على آخر في حروب لأسباب مختلفة، مثل النزاع على الحدود، أو التنافس على مناطق النفوذ، وغيرها. وينتهي هذا الاحتلال بتسوية وليس باستقلال الطرف الخاسر. فنحن نتحدث مثلًا، عن استقلال الجزائر عن فرنسا أو تحرّر الجزائر من الاستعمار الفرنسي، وعن استقلال الهند عن بريطانيا؛ ولكننا لا نتحدث عن استقلال اليابان عن الولايات المتحدة التي احتلتها في الحرب العالمية الثانية، ولا عن استقلال ألمانيا عن الحلفاء الذين احتلوها في الحرب نفسها.
هذا في ما يتعلّق بالمُصطلحات المذكورة على المستوى النظري؛ أمّا على المستوى السياسي والاجتماعي وخصوصًا عند الشعوب التي تحرَّرت من نير الاستعمار، فيكون لكلمات مثل الاحتلال والاستقلال معاني أبعد وأعمق من التعريفات الأكاديميّة؛ فذكرُها يُلامسُ وجدان أبناء الوطن إذ يُحيي في أذهانهم صور الاعتداءات وصنوف الإهانة والإذلال التي تعرَّضوا لها على يد قوات الاحتلال، ويستحضر في الوقت ذاته آياتِ النضال والبطولة والتضحياتِ التي قدَّمها الشعب في سبيل حريته واستقلاله، وصورَ القادة والشهداء الذين قضوا في مسيرة الحرية واستحقّوا ما يُكنِّه لهم الشعب من الإعزاز والتمجيد.
والآن، أين “إسرائيل” وفلسطين من هذا كله؟ “إسرائيل” لا ينطبق عليها احتلال الاستعمار ولا احتلال النزاعات والحروب، ذلك أنَّ هذا الاحتلال أو ذاك جرى على أيدي دول، وبانتهاء الاحتلال عادت القوات المحتلة الى بلدانها. أمّا في فلسطين فالسيطرة كانت سابقة على الدولة، والذي سيطر لم يكن دولة وإنما جماعات من الغزاة والقتلة واللصوص، وحَّدَهم المشروع الصهيوني، ونجحوا في السيطرة على البلاد وطردوا أهلها منها واستولوا على أراضيهم وممتلكاتهم، وأقاموا فيها كيانًا صهيونيًا أسموه دولة إسرائيل. وهذا الاسم لا يغيِّر من حقيقة المُسمَّى الذي يجب أن يظلَّ “الكيان الصهيوني” الى أن ينتهي وجوده. ثمَّ كيف يكون الاستقلال الفلسطيني إن لم يكن بالتخلُّص من هذه الجماعات وطردها من البلاد.
ومع ذلك؛ مع وجود هذا الفارق الجوهري بين حالة “إسرائيل” والدول الاستعمارية، يمضي مثقَّفون وكتَّأب وقادة فصائل فلسطينية في إطلاق المصطلحات إيّاها على “إسرائيل” وفلسطين، مع ما لهذا، وهذا هو الأهمّ، من تأثيرات سلبيّة على القضية الفلسطينية، وفي الوعي الفلسطيني ورؤية الحركة الوطنية وتوجُّهاتِها.
فهناك من يتحدث عن الاستعمار الإسرائيلي، ويُسهب في الأوصاف فينعته بالكولونياليّة وبأنه آخر الاحتلال أو الاستعمار في العالم. ومنهم من يصفه بالاستعمار الاستيطاني تشبيهًا باستعمار فرنسا للجزائر، أو استعمار بريطانيا لجنوب أفريقيا وما رافقه من تمييز عنصري. ومنهم من يرى الفاشيِّة والاستبداد من أسوأ سمات هذه “الدولة”؛ حتى إنَّ أحدهم استنكر على حزب الله وقوفه الى جانب الدولة في الأزمة السورية الحالية، إذ كيف – بنظره – للحزب أن يقاتل مع نظام فاشي (يقصد الحكم في سورية)، وهو حزب لمقاومة الفاشيّة الإسرائيلية، فالفاشيّة واحدة!
هذه المقارنات خاطئة منهجيًا وتاريخيًا؛ فهي تضع “إسرائيل” في صف دول الاستعمار المعروفة في التاريخ، مثل بريطانيا وفرنسا، من دون أن تذكر شيئًا عن وجود مستعمراتٍ إسرائيلية، ولا تصف الضفة الغربية بالمستَعمَرةَ.
ويرتبط بمصطلح الاستعمار الإسرائيلي مصطلحا الاحتلال الإسرائيلي والاستقلال الفلسطيني اللَّذان أصبحا على كلِّ لسان. وبالتدقيق في فحوى الكلام يتبيّن أنَّ المقصود أولاً وأخيرًا هو الضفة الغربية وطروحات سلطة أوسلو هناك. وهذه كلُّها تنطلق من أنَّ “إسرائيل” دولةً شرعيَّةً ثابتة في التاريخ؛ وكأنَّ المشكلة معها في صفات حكامها وليس في وجودها، وهنا مكمن الخطر. فلم تعد المُصطلحات مفردات لُغويَّة بتعريفات قاموسيَّة وحقائق تاريخيَّة، بل أصبحت غطاءً لمعانيَ ومفاهيمَ ومواقفَ تمسُّ في حدِّها الأدنى الثوابت الوطنيّة بما في ذلك حقوق الشعب الفلسطيني في وطنه وأرضه وممتلكاته، وفي بُعدها الأخلاقي تُعدُّ إهانةٌ لنضال هذا الشعب وتضحياته في سبيل قضيَّته.
لقد صدق من قال (وأظُنُّه سيف دعنا) إنَّ “أوسلو” عقيدة. فالاتفاق لم يأتِ نتيجة خسارات عسكريّة وسياسيّة فقط؛ وإنما كان في الوقت ذاته تطبيقًا لقناعات ورؤى جديدة لكلِّ ما يتعلق بفلسطين والقضية الفلسطينية، تَتخفَّى بمصطلحات ومُسميَّات تحمل في ظاهرها عاطفة وطنية، مثلَ الوطن، والاحتلال، والاستقلال، وفي باطنها سعيٌ لصناعة فلسطين جديدة مغايرة لما حفظه التاريخ، واحتضنته الجغرافيا، ووعته العقول، وعشقته القلوب.
وقد كَثُر الذين يستخدمون هذه المُصطلحات من خارج “أوسلو”، في مؤشِّرٍآخر على خطورتها. لقد أثمر أوسلو في بثِّ بواطن عقيدته عن طريق هذه المُصطلحات، وغيرها. فقد عمل أهلُ أوسلو على تغيير تفكير الفلسطينيين ورؤيتهم لقضيّتهم، وتكوين وعيٍ جديد لديهم يفي بأغراض الجماعة، وقبول ما آلَت اليه أوسلو وطروحاتها.
يطلق على هذه العمليّة كيُّ الوعي وهندستُه. ويُعزى مُصطلح كيِّ الوعي الى قائد عسكري إسرائيلي في أثناء الانتفاضة الثانية، وقصد به توجيه ضربات قويّة الى الفلسطينيين لجعلهم يقتنعون بعجزهم عن مقاومة “إسرائيل”. ووجد جماعة أوسلو في ذلك ذريعةً لترويج فكرة عبثيّة المقاومة التي كانت لديهم منذ كان الاتفاق. ففي أثناء العدوان الإسرائيلي على غزّة (2008 – 2009) ظهر المُستشار السياسيُّ لرئيس سلطة أوسلو، وهو يحمل صورة طفلة من غزّة ملطّخة بالدماء وقد قًضتْ بالقصف الإسرائيلي، ليقول “نحن لا نريد لأطفالنا هذا المصير”، أي إنّ المقاومة لا تجلب إلّا الموت والدمار.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 بعد اقتحامات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى، قال الناطق باسم حركة فتح، وهو يعلِّق على الاقتحامات وتخاذل السُلطة تجاهها، “إن الاقتحامات مخطّط إسرائيلي لاستدراج القيادة الى العنف حيث ميزان القوى لصالح “إسرائيل”، ولكنَّ القيادة بحكمتها نقلت المعركة الى ميدان الأمم المتحدة حيث ميزان القوى لصالحنا”.
أمّا مصطلح هندسة الوعي، فقد أضافه خليل هندي الى كيِّ الوعي، وقد لاحظ أنَّ جمهرة الناس (في الضفة الغربية) قد استَبطَنتْ فكرة ديمومة الوضع الحالي (= تُضمِر قبولَه في نفسها) فأصبحت، على سبيل المثال، تنفر من ذكر الانتفاضة، وتستجيب لدعوة التحرُّكات المطلبيّة الفئويّة.
وعودٌ على بَدء، فإنّ المُصطلحات السياسية في ما يتعلق ب”إسرائيل” ، والصراع العربي – الإسرائيلي لا تؤخذ على عِلّاتها، وكذلك “مصطلحات أوسلو” عن الوطن والاحتلال والاستقلال. فليس من شأننا الانشغال بأن تكون “إسرائيل” كولونياليّة أو فاشيّة؛ فهي كانت وستظل “الكيان الصهيوني” للغزاة، الى أن ينتهي وجوده. وتبقى فلسطين، الوطن والشعب والقضيّة، كما استقرَّت في وعي الأجيال الفلسطينية ووجدانها، الى أن تعود سيرتها الأولى. فالوطن كما وصفه الشيخ محمد رشيد قباني، مفتي لبنان السابق، ببلاغة وإيجاز، ملك أجيال لا يملك أيٌ منها التنازلَ عنه أو عن جزءِ منه.
*كاتب فلسطيني
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.