أهملت الحركات التّقَدّمية، بشكل عام، بعض القضايا التي تَتَطَلّب اهتمامًا أوسعَ وأشمَلَ مما حظيت، بهدف البحث عن حُلُولٍ تكون ضمن برنامج تحرير الأرض والإنسان، وفي خدمة الأجيال القادمة، ومن هذه القضايا مسألة البيئة أو المُحيط الذي تتأثر به حياتنا اليومية، بسبب ارتباط سلامة البيئة بجودة الماء والهواء والغذاء والمسكن وغير ذلك من أسباب الحياة، واستحوذت فئات من البرجوازية الصغيرة، في البلدان الرأسمالية المتطورة، على قضايا البيئة والمُحيط، لتحشرها ضمن برنامج إصلاح الرأسمالية، وأصبح تيار “الخُضْر” في بعض دول أوروبا الغربية رديفًا للأحزاب “الإشتراكية الديمقراطية”، وبديلاً للأحزاب “الشيوعية” (التّحْرِيفية) التي انقَرَضت أو كادت، أو مُنِعَ وجودها، كما في ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، أو في بعض بلدان أوروبا الوُسْطى والشرقية، بعد انهيار الإتحاد السُّوفييتي… وهي في معظمها تستخدم خطاب “الوَعْظ” الشبيه ب”الإرشاد” الدّيني، ونبذ العمل الجماعي والمُنَظّم (لأن البرجوازية الصّغيرة في معظمها تُفَضِّلُ العمل الفردي ) ونبذ مبدأ التخطيط و”مَشْرَكَة” وسائل الإنتاج والتّسْوِيق، لأن ليبرالية “الخُضْر” تفترض التخفيض من تدخّل جهاز الدّولة في كافة جوانب الحياة، بما في ذلك التّدخل لوضع حدّ لهيمنة رأس المال على حياتنا اليومية… لكن لو اهتم التّقَدّميون بهذا الجانب، الذي يتأثر به الفقراء أكثر من الأثرياء، لما وجَدَ هؤلاء ثَغْرَةً يسْتَغِلّونها…
تحتوي معظم أعداد “نشرة الإقتصاد السياسي” الأسبوعية فقرات عن البيئة ومُحيط الإنسان، في إطار تحديد المسؤولين عن التّلوث الذي أصبح مُضِرًّا بصحة المواطنين (بل قاتلاً أحيانًا) في مدن مثل القاهرة أو أثينا أو بكين أو مكسيكو، وعن الغذاء المُعَدّل وراثيّا وعن تلويث الأرض والمياه والغذاء والهواء بمبيدات الحشرات، إضافة إلى دخان المصانع والمناجم والسيارات وغيرها، وأصبح التلوث جريمة يرتكبها رأس المال ضد المواطنين، (وخاصة الفقراء منهم )، وفي الفقرات الموالية نماذج من أخْطار التّلوث على صحة الإنسان وعلى التّحصيل الدّراسي للأطفال (قد تَهُم هذه الفقرة الأولياء والمُدَرِّسين، وهم من مُتابعي هذه النّشرة)، كما أوردنا فقرة عن مخاطر النفايات التي “تتبرع” بها الشركات متعددة الجنسية للبلدان الفقيرة، عبر الحواسيب والهواتف المحمولة القديمة، وفقرات عن المُبِيدات الحشرية، وما يكمُنُ وراءها من فرض نمط زراعي وغذاء رديء وخطير على صحة الإنسان والأرض والمياه، وعن استخدام المال لفَرْضِ مواصلة نَشْرِ هذه السّموم، وهي ممارسات خطيرة ومفروضة على كل مناطق العالم، مما يفرض ضرورة التّصَدِّي لها كشكل من أشكال هيمنة رأس المال في عصر الإمبريالية، والإمبريالية هي عولَمَة رأسمالية بطبيعتها…
*****
بيئة: تُعَرِّفُ الأمم المتحدة النفايات بأنها “مجمل مخلفات الأنشطة الإنسانية في كافة مجالات الإنتاج الصناعي والزراعي وكذلك المُخَلّفات المنزلية، وكل ما يتخلّى عنه الإنسان أو يتركُهُ في مكان عمومي، في البر أو في البحر، ويُخَلِّف كل مواطن في أوروبا ما يعادل 500 كيلوغرام وفي الولايات المتحدة 750 كيلوغرام من النفايات سنويا، ويؤَدِّي تراكم هذه النّفايات إلى تهديد صحة الإنسان وإلى الإساءة لصحة وسلامة المناخ والهواء والمحيط”… هناك مخلفات يمكن التّخَلّص منها بطريقة آمنة، عبر إعادة استخدامها كليا أو جزئيا (ما يُسَمَّى “تَدْوِير” أو “إعادة التّدْوِير”، لتتحول هذه النفايات من جديد إلى مواد صالحة للتصنيع أو للاستخدام)، وأُخرى صلبة (معادن) أو سائلة أو في شكل غازات أو بُخار (عبر مداخن المصانع)، أو إشعاعات، سواء من المخلفات الصناعية أو الزراعية (مواد كيماوية كالمبيدات)، من شأنها أن تخلق مشاكل بيئية خطيرة… يتَسَبَّبُ النّشاط البَشَرِي في إنتاج ملايين الأطنان من الغبار والأتربة (أشغال البنية التحتية والإنشاء) وذَرّات المعادن والجُسَيْمات والغازات (ثاني أُكْسِيد الكربون أو الكبريت…) وفضلات الزيوت المستخدمة ومياه الصّرف الصحي، ويُلقَى بمعظمها في المَكبّات أو تَنْفُثُها مداخن المصانع في الهواء أو يُلْقَى بها في المصبّات المائية (الأنهار والبحار)، ممّا يتسبب في تلوث الهواء والمياه والتّربة، وما ينتج عن ذلك من انتشار أمراض القلب والجهاز التّنَفُّسِي، وتسمم مياه البحر والكائنات البحرية كالأسماك التي يستهلكها الإنسان…
انتشرت خلال العقود الأخيرة ظاهرة تراكم نفايات الأجهزة الإلكترونية، وهي نفايات صَلْبَة خطيرة على صحة الإنسان وعلى التُّرْبَة بسبب صعوبة انحلالها وبسبب الإشعاعات التي تحتويها، ولذلك تتخلص منها الدول الغنية بإرسالها إلى الدول الفقيرة تحت عنوان “مُساعدات”، و”إهدائها” إلى مدارس أو مراكز ثقافة وترفيه، بذريعة إعادة استخدامها من قِبَلِ أبناء الفُقَراء، ويُرَوِّجُ إعلام الدول الغنية إن هذه التجهيزات (حواسيب أو هواتف محمولة…) تحتوي على كميات من الذهب والفضة والنّحاس والمعادن الثّمينة، ولكن مجمل الدّراسات (ومنها الدّراسات الصِّينِيّة) تستنتج إن استخراجها غير مُجْدٍ اقتصادِيًّا، إضافة إلى التّلَوث الخَطِير الذي تُحْدِثُهُ هذه الأجهزة، ولذلك تُرْسِلُ أوروبا أو كندا أو اليابان سُفُنًا مُحَمّلَة بهذه النّفايات (في شكل أجهزة إلكترونية) إلى إفريقيا أو بعض بلدان آسيا، وقَدّرت الأمم المتحدة حجم النفايات الإلكترونية بنحو أربعين مليون طنا سنة 2010.
بيئة، تأثيرات كَارِثِيّة: أظهرت دراسات عديدة بدأت قبل أكثر من عقدَيْن، ونُشرت بشكل دَوْرِي منذ سنة 2010 في بلدان عديدة، تأثيرات التّلَوّث على صحة الصغار والكبار، ولم تكن العلاقة محل اهتمام في السّابق، ومن بين هذه التأثيرات تراجع القيمة الغذائية لأنواع من الحبوب والخضار والفواكه، كلما ارتفع منسوب ثاني أُكْسِيد الكَرْبُون في الهواء، مما يُؤَدّي إلى نقص “البروتينات” والحديد والزنك في غذاء مئات ملايين البشر الإضافيين للنقص الموجود حاليا، لأسباب أُخْرَى، وللتوضيح، نُذَكِّرُ إن نقص الزنك في الغذاء يؤثر على مناعة الإنسان، وخصوصًا لدى الأطفال الذين قد يَتَعَرّضُون لخطر لإصابة بأمراض تنفسية والملاريا والإسهال، أما نقص الحديد فقد يُسَبِّبُ فقر الدّم وزيادة وفيات الأطفال عند الولادة…
يشكل الفقراء أكثر الفئات عرضة للتلوث وللأمراض، لأنهم يسكنون في ضواحي المدن القريبة من الطرقات ومن المصانع المُلَوِّثَة للبيئة، ولأن الحبوب والخضار تُشكل الغذاء الرئيسي واليومي للفُقراء… أَظْهَرت دراسة أخرى، أجراها فريق مشترك من الباحثين الأمريكيين واليابانيين، أن تلوث الهواء يُسَبِّبُ تأثيرات مدمرة على المخ، فيما استنتجت دراسة صينية (أكّدتها فيما بعد دراسة أمريكية) أن تلوث الهواء قد يُسَبِّبُ انكماش المادة البيضاء في المخ، ويؤثر بالتالي على القدرات العقلية، للأطفال وكذلك للمُسِنِّين، الذين يعيشون في مدن ومناطق مُلَوّثة (أي الفُقراء بشكل أساسي)، وتأكد الأمر لما فحص القائمون على الدراسة الصينية أداء أكثر من 25 ألف شخص في اختبارات الرياضيات واللغة بين سنتَيْ 2010 و2014، وأظْهرت دراسة قام بها باحثون من جامعة “كولومبيا” في الولايات المتحدة أن تلوث الهواء (إلى جانب الفَقْر) في الأحياء والمناطق الحضَرِيّة، يرفع احتمال نقص مستوى الذكاء للأطفال في سن الخامسة، وكذلك في سن السّابعة، ثم في سن السابعة عشر، مقارنة بالأطفال الذين وُلِدوا وتَرَبّوا في مناطق أقل تلوثا وبمستوى اقتصادي أعلى، بالإضافة إلى تَسَبُّب التلوث في زيادة أَعْراض نقص الإنتباه والإصابة بالإكتئات والقلق والمخاوف لدى هؤلاء الأطفال الفُقراء الذين يتعرّضُون لتلَوُّثِ المُحيط والفَقْر، ويتسبب تلوّث المحيط في إلحاق الضّرر بالأداء الإدراكي لدى المُتَعَلِّمِين في المدارس، مما يُفَسِّرُ ترحيل الدول الرأسمالية المتقدمة للصناعات المُلَوِّثَة نحو البلدان الفقيرة، ومن بينها صناعات النسيج والمواد الكيماوية وبعض الصناعات الإلتكرونيك والتجهيزات المنزلية…
أظهرت الإحصاءات الرسمية التي تنشر دورياً، والتي تجمعها وتنشرها منظمة الصحة العالمية، إن تلوّث الهواء يتسبب بحدوث ما لا يقل عن سبعة ملايين حالة وفاة مبكرة سنوياً، وربطت الدراسات الأخيرة (منذ أقل من عشر سنوات) بين التلوث والعيش بالقرب من الطرقات المزدحمة والمناطق الصناعية أو المناجم المُلَوِّثَة، وانخفاض القدرات العقلية للأفراد، والإصابة بالخرف، وارتفاع نسبة الوفيات المبكرة، مما يُلْحؤقُ أضرارًا كبيرة بمجتمعات بلدان ما يُسَمّى اصْطِلاَحًا “الجنوب”، أي البلدان الفقيرة والواقعة تحت هيمنة الإمبريالية وصندوق النقد الدولي، التي تلهث وراء “الإستثمار الأجنبي المُباشر” في قطاعات اقتصادية مُلَوِّثَة وضارّة بصحة الإنسان وبالمُحيط والنبات، ولم تَعُد مرغوبة في أوروبا وأمريكا وحتى في الصين… عن وكالة “بلومبرغ” + صحيفة “غارديان” + أ.ف.ب (بتصرف) 28/08/18
بيئة – رأس المال ضد المُحيط السّليم وضد الحياة: ساعدت الحكومات شركات صناعة المُبِيدات على إلحاق أضرار كبيرة بكوكب الأرض، شبيهة بالأضْرَار التي ألحَقَتْها صناعة التّبغ بالصحة، وسمحت لها قوانين الدول الرأسمالية الكُبْرَى – تحت ذريعة “الأمن الغذائي” وزيادة الإنتاجية – بتسميم المحيط وبفرض بذورها وطرق إنتاجها، وبتغيير نمط الإنتاج الزراعي ونوعية غذاء البشر، رغم الدّلائل العديدة التي تُشير إلى ضَرَرِها، وذلك منذ قرابة خمسة عُقُود، مما ألحق أضْرَرًا جسيمة بصحة العاملين بقطاع الفلاحة وبالمستهلكين، أي كافة سُكّان العالم. استخدم مُزارِعُو العالم 8,6 مليار كيلوغرام من مبيد “غليفوسات” خلال حوالي 45 سنة، وهي كمية ضخمة من السّموم التي انتشرت في التربة والهواء والماء والطعام، لتكون سبَبًا في وفاة 200 ألف شخص سنويا وفي زيادة حالات السرطان والعُقْم، وغيرها من الأمراض الخطيرة، وقَضَت هذه المبيدات على أنواع من الأسماك والثّدْيِيّات وأنواع من الحشرات التي كانت تقوم بمهمة تلقيح النبات والأشجار، وقَضَتْ على 44% من الطيور التي كانت موجودة في المزارع، خلال عقدين من الزمن، وفق تقرير للأمم المتحدة، بينما بلغت إيرادات مبيعات صناعة المبيدات حوالي 45 مليار دولارا سنويًّا، وخصّصت شركات المبيدات، وفي طليعتها الشركة الأمريكية “مونسانتو” (اشترتها شركة “باير” الألمانية مُؤَخّرًا) مبالغ من أرباحها لشراء ذمم الباحثين والعُلَماء والقُضاة والصحافيين ونواب البرلمانات والسياسيين، لِتُواصِل جني الأرباح الضّخمة من نَشْر الموت في العالم، ومن التمتع بالحصانة، رغم تراكم الأدِلّة على خَطَرِ مُنْتجاتها من المُبِيدات السّامّة التي انتشرت في جميع أنحاء العالم إما مباشرة كَمُبِيدات أو عبر الإنتاج الزراعي الأمريكي ثم الأرجنتيني والبرازيلي والصيني وغيرها من المنتجات المُعالَجَة بالمبيدات و (أو) المُعَدَّلَة وراثيا، وفي مقدمتها الذرة وفول الصُّويا، وأكثر من نصف الإنتاج الغذائي العالمي، رغم التزام العديد من الدول، منذ 1992 بتقييد استخدام المبيدات وخفض حجمها في قطاع الفلاحة وفي المُحيط، لكن كانت الغَلَبَة (لحد الآن) لمنطق قانون السّوق، ضد صحة الإنسان وضد سلامة المُحِيط… عن تقرير لمنظمة الصحة العالمية – حزيران 2018 + مقالَيْن جماعيَّيْن نشرتهما الصحيفة الكَنَدية ( Le Devoir ) 15/03 و 25/08/18
بيئة- رأس المال ضد صحة الإنسان: يُعْتَبَرُ مُبِيد “غليفوسات” (من تصنيع شركة “مونسانتو”) من أكثر المبيدات الفعالة المستخدمة للقضاء على الأعشاب الضارة، وتُسَوِّقُهُ “مونسانتو” تحت الإسم التّجاري “رونداب”، وتُعَرِّفُ الشركة المُصَنِّعَة “غليفوسات” كالتالي: هو عبارة عن مادة كيماوية تدخل في تركيب المبيدات التي تقضي على الأعشاب الضارة فقط دون التأثير على المحاصيل”، وأدّت هذه الخدْعَة في التعريف والإشهار المُكَثّف إلى استخدام هذا المُبِيد بشكل واسع منذ سبعينات القرن العشرين، ولكن تَقِلُّ فعالية المُبِيد – مع الاستخدام المكثف- ضد بعض الأعشاب التي تصبح مقاومة له ولا تتأثر به، ممَّا يدفع المزارعين إلى زيادة كمية المبيد، وهو ما يزيد من مخاطره الصحية على البشر وعلى النّبات والمحاصيل الزراعية، وأشارت نتائج دراسات عديدة إلى “مخاطر احتمال إصابة الإنسان بمرض السّرطان”، ومن بينها دراسة أجرتها وكالة دراسات السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية (الأمم المتحدة)، واستنادًا إلى هذه الدراسات، صَنّفت منظمة الصحة العالمية (في نشرتها الصادرة في آذار/مارس 2015) مادة “غليفوسات” ضمن المبيدات المسببة للسرطان، وأفادت تقارير حديثة اكتشاف مادة غليفوسات في 14 نوع من الجعة (البيرة) في ألمانيا، وفي عدة أنواع من النبيذ الذي تم إنتاجه في كاليفورنيا، بما فيها النبيذ المنتج من عنب “كروم حيوية” يفترض أنها لا تستخدم أسمدة ومَوَاداً كيماوية، بحسب موقع “ايكو ووتش” الأمريكي، وقد تصل هذه المادّة الخطيرة إلى جسم الإنسان عبر مياه الشُّرْب والمواد الغذائية أو العمل في المَزَارِع، وتتسرب هذه الالآثار السلبية إلى الجسم بِبُطْءٍ، ويستمر تَرَاكُمُها على مدى أشهر وسنوات، وتؤثر بشكل مباشر على البكتيريا الموجودة في الأمعاء، بحسب دراسة نشرتها مؤسسة “هاينريش بول” الألمانية…
تأسست شركة “مونسانتو” في بداية القرن العشرين بالولايات المتحدة، وتُشَغِّلُ أكثر من 23,3 ألف عامل وباحث وموظف، وتفوق عائداتها السنوية 15 مليار دولارا، واستحوذت عليها الشركة الألمانية “باير” للعقاقير والكيماويات في حزيران/يونيو 2018 مقابل 63 مليار دولارا، وشركة “مونسانتو” شركة ضخمة ومتعددة الجنسية (ذات مَنْشَأ أمريكي) ولها من المال ومن الخبرات والعلاقات ما يُطِيحُ بحكومة، فما بالك بتقرير يُصْدِرُهُ عُلماء في مختبر أو منظمة، ولو كانت هذه المنظمة عالمية وتُسمى منظمة الصحة العالمية… خَصَّصَت “مونسانتو” مبالغ هامّة لشراء ذمم عُلماء مَشْهُورين وَقُّعُوا تقارير علمية أعدتْها مونسانتو، للتشكيك في نتائج الدراسات التي تُظْهِرُ مَخاطر مادة “غليفوسات”، وشَهَّرَتْ “مونسانتو” ببعض العُلماء والباحثين، وتسببت في طَرْدِ بعضهم من العمل في الجامعات ومراكز البحث العلمي، وتمكنت من التفاوض مع مراكز بُحُوث وجامعات عديدة بهدف إصدار تقارير تدعو إلى “التّريّث” وتُؤَكّد “الحاجة إلى المزيد من الدراسات والأبحاث لتأكيد ما توصلت إليه الدراسات السابقة، عن مخاطر غليفوسات وتسببه في مرض السرطان”، وبلغ عدد البحوث والدراسات التي تُشَكِّكُ في صحة الأخطار التي يسببها على النبات والمياه والمُحيط وعلى صحة الإنسان حوالي 800 بحث مدفوعة الأجر، على مدى أربعة عقود، ينجزها في العديد من الحالات موظفو مُخْتَبَرات الشركة ويُوقّعُها علماء بأسمائهم، مقابل مبلغ بمعدل 25 ألف دولار عن التقرير الواحد…
أكّد بحث صدر في دورية ( Entropy ) وجوده مُبيد “غليفوسات” في العديد من الأغذية، كما أَكّد إمكانية تأثيره على الأمراض المزمنة والحديثة عبر تثبيطه عمل “إنزيم” يُسَمّى عند الإختصاصيِّين ( Cytochrome P450 )، ولكن الشركة شَكّكَتْ بنتائج هذا البحث بتهمة “التحيز والتمييز”، وبلغت القوة بالشركة (ذات الذراع الطويل) حَدَّ التَّشْكِيك في نتائج بحوث منظمة الصحة العالمية، لكن تَكاثرت وتراكمت الحُجَج العلمية التي تُدِين مُنْتجات الشركة، حتى في الولايات المتحدة، مما اضطر إدارة الأغذية والعقاقير ( FDA ) إلى تنفيذ حملة واسعة لفحص المنتجات الغذائية، والتّثَبُّت من إمكانية احتواء العديد من المبيدات ومنها “غليفوسات”، على مواد مُضِرّة بالصحة أو مُسَرْطَنَة، ولكن نُفُوذ شركة “مونسانتو” كان أقوى وأكبر من نفوذ الوكالة الحكومية التي اضطرت لوقف الحملة التي بدأت (وتوقّفت بسرعة) بعد أربعة عُقُود من التّرَدُّد العِلْمي وبعد مراكمة “مونسانتو” عشرات المليارات من الأرباح الصافية من بيع هذه السُّمُوم…
تُواجه شركة “مونسانتو”، منذ بداية شهر تموز/يوليو 2018، مئات الدعاوى القضائية في الولايات المتحدة (منها شكوى أكثر من 400 مُزارع) بعد أن أعطى القضاء الأمريكي الضوء الأخضر لقبول الدعاوى، بعد أسابيع من الدراسة وسنوات من النزاع القضائي، ويَدَّعِي مُقَدِّمو الشكاوى “إن مونسانتو على علم منذ مدة طويلة بأن المبيد يسبب سرطان الغدد الليمفاوية (لاهودجكن)، ولكنها لم تحذر المستخدمين”، بل بقيت تُرَكِّزُ على السعر الرخيص وعلى فعالية المُبِيد في القضاء على الأعشاب الضارة دون الإضرار بالمحاصيل الزراعية، وأقرت محكمة أمريكية بمدينة “سان فرنسيسكو” يوم الجمعة 10 آب/أغسطس 2018، وذلك لأول مرة، وبعد ثلاث سنوات من التّحَرِّي، بمسؤولية مبيد “غليفوسات” المستخدم في الزراعة، في إصابة البستاني الأمريكي، السيد “ديواين جونسون” بالسرطان (وعمره 46 سنة)، وقضت بتسديد الشركة المصنعة “مونسانتو” 290 مليون دولار كتعويض للضحية، بسبب إخفاء خطورة المبيدات التي تصنعها على صحة الإنسان، مما جعل السيد جونسون يُصاب بسرطان يصيب الجهاز اللمفاوي ولا ينفع معه علاج، وقد يفتح هذا الحكم الباب أمام آلاف الملفات الجديدة المشابهة، وأصدرت الشركة بلاغًا ذكرت فيه أنها ستستأنف الحكم، وأكدت أن مبيد “غليفوسات ليس مسرطنًا أبدًا، وغير مسؤول عن مرض المدعي”… وردت معظم المعلومات من أ.ف.ب + رويترز + موقع مجلة “دير شبيغل” الألمانية من 2016 إلى 11/08/18
بيئة – “مونسانتو” وصناعة الموت: أشرنا في عدد سابق إلى حُكم قضائي تاريخي صادر في أمريكا ضد شركة “مونسانتو” ومبيداتها الضّارة بالحشرات والنبات وبالمحيط والمناخ، وخاصة بالإنسان، لأنها تُسَبِّب أمراضًا خطيرة عديدة، أهمُّها السّرَطان، ويتلخص حكم محكمة “سان فرنسيسكو” يوم العاشر من آب/أغسطس 2018 في فرض غرامة على شركة “مونسانتو” (التي اشترتها مجموعة “باير” الألمانية مقابل 63 مليار دولارا) بقيمة 289 مليون دولارا لفائدة المُزارع “دواين لي جونسون” الذي أُصِيبَ بالسّرطان (غير القابل للعلاج) جراء استخدامه مادّة “غليفوسات” الضارة (أحدى مكونات مُبيد الحشرات “رونداب”، أكثر المُبِيدات مَبيعًا في العالم)، ووافق القضاء الأمريكي على النّظر في دعوى جماعية قَدّمَها 350 مُتَضَرِّر، ثم بلغ عدد الشّكاوى ثمانية آلاف، بسبب عدم إعلام الشركة للمستخدمين الأمريكيين عن خطر استخدام المُبيدات التي تُنتجها (“رونداب” بشكل خاص، الذي يحتوي مادة “غليفوسات”)، رغم علمها بذلك، لكن هذه المادة الخطيرة لا زالت تُباع وتُسْتَخْدَمُ من قِبَلِ مُزارِعِي أوروبا، أما في بلدان “الجنوب” فإن حياة المُزارِعين لا تُساوي شيئًا، ولا تهتم الحكومات والنّقابات بذلك… انخفضت قيمة أسهم شركة “باير” (التي اشترت مونسانتو) في بورصة “فرنكفورت” بألمانيا، بنسبة 20% منذ بداية سنة 2018 إلى يوم 23/08/2018، وخسرت شركة “باير” حوالي عشرة مليارات يورو من قيمة أسهُمِها في البورصة، بعد ساعات قليلة من إعلان قرار محكمة “سان فرنسيسكو” يوم العاشر من آب/أغسطس 2018، مما أجبر شركة “باير” على تنظيم حملة إعلامية تدعو مُعارضي استخدام المُبيدات الضّارّة إلى الحوار، في محاولة لإقناع مسؤولي المنظمات المدافعة عن البيئة بحصول تغيير في سلوك هذه الشركة الإحتكارية…
زاد استخدام المبيدات والمواد الكيماوية الضّارّة في قطاع الفلاحة، مع استحواذ رؤوس الأموال على الأراضي الزراعية، لاستغلالها في زيادة الإنتاج واحتكار شبكات التّوزيع والتّسويق للإنتاج الزراعي العالمي، وأنشأت الشركات الإحتكارية، سواء في مجالات الزراعة أو الصناعات الكيماوية، “مجموعات ضَغْط”، تتمثل مُهِمّتُها في شِراء ذِمَمِ العُلماء والباحثين والصحافيين والسياسِيِّين من النواب أو أعضاء ومُسْتَشَارِي حكومات العالم، والتزمت بعض الحكومات الأوروبية، قبل عشر سنوات، بخفض استخدام المُبيدات والمواد الكيماوية الضارة بنسبة 50%، وبعد عشر سنوات، ازداد استخدامها بنسبة فاقت 20%، وفق مراكز البحوث، وبعض البيانات الحكومية القليلة… عن أ.ف.ب 23/08/18
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.