علي قادري: التنمية تحت تهديد الحرب في العالم العربي (الجزء الأول)، ترجمة أسامة غاوجي

نُشرت هذه المادّة (الأصل الإنكليزي) ضمن العدد السادس الذي خصّصته مجلة Viewpoint، لـ”الإمبرياليّة” في فبراير/ شباط 2018. وعلي قادري، الباحث الرئيسيّ في الجامعة الوطنيّة في سنغافورة، كان زائراً في قسم التنمية الدوليّة في كليّة لندن للعلوم الاقتصاديّة والسياسيّة، ورئيساً لقسم “البحوث المتقدّمة” في قسم “تحليل الاقتصاد العالمي” في المكتب الإقليمي للأمم المتحدة لغرب آسيا. صدر له: “تفكيك الاشتراكيّة العربيّة” (2016)، و”تحديات التنمية وحلولها بعد الربيع العربي” (2015)، و”التنمية العربيّة المحتجزة” (2014).

“إنّ الدولة الواقعة في قبضة الاستعمار الجديد ليست سيّدة مصيرها الخاصّ. وهذا العامل هو ما يجعل الاستعمار الجديد خطراً يُهدّد السلام العالمي”

كوامي نكروما (الاستعمار الجديد: آخر مراحل الإمبرياليّة، 1965)

أيّاً كانت المؤشّرات التي قد يروق للمرء استعمالها، سواء أكانت تنتمي إلى التيار السائد أو إلى الخيارات البديلة عنه، فإنّها تُشير إلى وجود أزمة حقيقيّة في التنمية في العالم العربي.

علينا أن نفهم هذه الأزمة باعتبارها نتاجاً للكيفيّة التي تنخرط بها هذه المنطقة في الاقتصاد العالمي. فاقتصادات النفط والحرب، والجانب المدمِّر والمُبدّد المُهدَر من تراكم رأس المال، هي القنوات الرئيسيّة التي تتمفصل بها هذه المنطقة وتتموضع في السوق العالمي. تشكّل العسكرة والتبذير العناصرَ الأساسيّة في نظام التراكم الذي يُنتج القيمة عبر الاستهلاك، لا قيمة القوّة العاملة وحسب، بل القيمة المتأصّلة في حيوات البشر أيضاً. فالتراكم عبر التبديد والهدر، الذي نراه بوضوح في الحروب العدوانيّة وتراجع الوضع البيئي، هو عنصر ثابت في ظلّ الرأسماليّة.

لا تعني الرأسماليّة، كمرحلة تاريخيّة، مجرّد إنتاج سلعٍ مثل البناطيل وأجهزة الكومبيوتر المحمول وأنواع العلكة، والتي يُلبّي استهلاكُها مجموعةً من الاحتياجات الاجتماعيّة،  فالرأسماليّة، بدرجة كبيرة، تنتج الكثير من الهدر والأشياء المضرّة كالقنابل. تختلف الرأسماليّة عن أشكال الإنتاج السابقة. فهي بالأساس اقتصاد سوق، ومن ثمّ فإنّ إنتاج المخلّفات المُهدرة هي حاجة جوهريّة لرأس المال، وهو في الآن ذاته أمرٌ خارج عن السيطرة الاجتماعيّة. فالتبديد، جانب الحرب من الرأسماليّة، لا يؤدّي وظيفةً تحلّ مشكلة تواجهها المجتمعات، بل يخدم غايته الخاصّة، كما أنّه هو نفسه إحدى نطاقات تراكم رأس المال. هذا الديالكتيك السلبي هو ما يُثبّت معدّل تراكم رأس المال، ليس فقط لأنّه يؤيّض Metabolizes وقت العمل الاجتماعي الضروري على معدّل أعلى، بل أيضاً لأنّه يستعيد توازن القوى الواقعيّة والأيديولوجيّة على مستوى عمليّة العمل وعلى مستوى الدولة، التي تعيد بدورها تأكيد حكم وهيمنة رأس المال.

لقد بدأ هذا الديالكتيك السلبيّ، الجانب البربري من الرأسماليّة، منذ اللحظة التي تم فيها بيع القوة العاملة كسلعة (وهي النقطة التي يُقال بأنّها أعظم كشوفات ماركس). إنّ إعادة إنتاج هذه السلعة (القوّة العاملة)، والتي هي قيمة بنفسها، يتضمّن استهلاك مصدر القيمة نفسه أو تنحيته جانباً. فالبشر هم مصدر القيمة المخزّنة في قوّة العمل، والنابعة منه. إنّ البشر هم الذات المُنشئة للقيمة وهم موضوعها. فهم ينتجون السلع وهم من يُستهلكون بالأشياء التي يُنتجونها. ولعلّ الموت في الحروب هو المثال الأقصى لذلك. في هذه الحلقة المغلقة، فإنّ إنتاج القوّة العاملة، بما في ذلك إعادة إنتاجها، هو الخطوة الأولى والأخيرة للتحقّق1 Realization  في دائرة تشكّل القيمة.

ولأنّ عمليّة تشكّل القيمة عمليّةٌ دائريّة لا نهاية لها، فإنّ اختيار المرء لنقطة بداية أو نهاية معيّنة ليُقيَّم منها حسابات فائض القيمة تصبح عمليّةً خاضعة للأهواء الأيديولوجيّة. إنّ قياس القيمة اعتماداً على ما ابتكره الغرب من أشكال إنتاجيّة الدولار وسعر الدولار ليست عمليّة بريئة. فالقوّة، والمشروع الاستعماري في الماضي، والقواعد العسكريّة الأميركيّة المتوزّعة في العالم اليوم، هي ما يُحدّد قيمة الدولار. إنّ قياس القيمة من خلال الدولار، دون حساب أبعاد القوّة والسلع التي تعمل كمُدخلات أو نتاجات للتبديد والنزعة العسكريّة، هي وسيلة مخادعة عندما يتعلّق الأمر بالعالم الثالث. إنّها تجعل مساهمة العرب والأفارقة في التراكم العالمي تافهة لأنّهم لا يمتلكون “الآلات الصحيحة”. ففي حين أنّ العالم بات مصنعاً واحداً منذ وقت طويل، فإنّ قَصْرَ فهمنا على ما هو مجرّد وصلب للتنمية في المصنع الغربي وماكيناته يدفعنا لتجاهل الحرب كمجال للتراكم، وكميدان للإنتاج وفي الآن ذاته كتمظهر للصراع الطبقي. إنّ نظريّة القيمة لا تشرح كلّ شيء، وبالطبع لا توجد نظريّة قادرة على شرح كلّ شيء. إنّ تحديد ما يجب تضمينه وما يجب تركه يجب أن يخضع لمنهجيّة الصعود من المجرّد إلى المادّي الصلب بحسب ماركس. كيف يتحوّل العمل الشخصي، المقولة المجرّدة، إلى عمل اجتماعي، المقولة الماديّة الصلبة، ليس مسألة قابلة للدحض والنفي في وسط منطقيّ، بل تتعلّق بتوسّط موضوع الدراسة نفسه، أي العمل، باعتبار أنّه يتحوّل إلى شيء بروليتاري في الصراع الطبقي. إنّ هذه العمليّة عالميّة، ومن ثمّ فإنّ المقولة الماديّة الصلبة للقيمة بوصفها علاقات قيمة هي أيضاً عالميّة، بما أنّ العالم أصبح مصنعاً واحداً مُبتلى بآفة إنتاج المخلّفات المُهدرة. كمثال توضيحيّ، بينما تتضاءل مبيعات العلكة في عواصم الإمبراطوريّة الكبرى (المتروبوليس)، فإنّ النزوع نحو التفجير يتزايد، لا فقط لتحقّق القنبلة نفسها، بل أيضاً لتحقيق حياة البشر أيضاً. يقوم رأس المال أيضاً بتنظيم إنتاج القوّة العاملة من خلال تدابير إنقاص عدد السكان. ويُمكن صوغ الأمر بالمعادلة التالية: كلّما اضطربت صيرورة تحقّق السلع للغايات المدنيّة، كلّما شاهدنا مزيداً من الإنتاج من خلال المخلّفات والحروب الإمبرياليّة. وبالتالي، دواميّة الحرب.

كما هو الحال في أيّ عمليّة إنتاجيّة، فإنّ التبديد بصفته العسكريّة يُحقّق السلعة كموضوع ويُعيد تشكيل الذات المُنشئة للقيمة. إنّها تستهلك البشر والبيئة وموادّ الحرب، وتشكّل الأفكار التي تدعم توسّعها الذاتيّ. إنّ الحروب الإمبرياليّة تعزّز من قوّة الإمبرياليّة أو تتحكّم بالميزان في الصراع الطبقي -التاريخ- لصالحها. فكما استعمرت واستعبدت الشعوب في السابق، فإنّ الإمبرياليّة في طورها الكولونيالي/ الاستعماري الجديد تزيد من حدّة تمزيقها للدول وانتهاكها لسيادتها. إنّ تجاهل إرادة الناس وسيادتهم، يعني استعبادهم جزئيّاً أو كلّياً. إنّ الاستغلال الذي ينطوي على شكل من الاستعباد، أي الاستغلال الاقتصادي، يُنتج معدّلات مرتفعة من فائض القيمة، والتي تقوّي بدورها وتشجّع معدّلات ربح مرتفعة. إنّ المنطقة العربيّة خاضعة لديناميكيّة من الاستغلال الاقتصادي من خلال الحروب العدوانيّة التي ما تفتأ تجهض محاولات الأمم لاستئناف مشاريعها التنمويّة.

صحيحٌ أنّ التحكّم الاستراتيجي بالنفط سببٌ من أسباب الحروب الإمبرياليّة، إلا أنّ الحرب من أجل الحرب عاملٌ لا يقلّ أهميّة في نشر العنف في المنطقة. فالحروب التي تُعيق التنمية على المدى القصير تمثّل أكثر من مجرّد عامل خطر أكتواري Actuarial؛ فهي تولّد حالة من عدم اليقين التاريخي الكامل. بدلاً من التحوّط من صدمات العنف المستقبلي، فإنّ وضعيّة الاقتصاد العربي الكلّي قد ضخّمت من الصدمات السلبيّة على دائرة الأعمال، التي تتحدّد بالأساس من خلال النفط والحروب. ومن ثمّ فإنّها زادت من سوء أداء التنمية العربيّة، والتي لو نجحت لكان لها أن تخفّف من غلواء الحرب وأن تكون ترياقاً لها. فيما يلي، سأناقش كيف لبعض الأواليات/ الميكانزمات الاقتصاديّة الكلّية أن تعمل ضدّ التنمية.

لنبدأ بالتالي، تعيش البلدان العربيّة إمّا في حالة صراع -سوريا، اليمن، فلسطين، ليبيا، العراق، الصومال، وبعض دول الخليج- أو قريباً من الصراع إما مكانيّاً أو زمانيّاً. إنّ احتماليّة الحرب تضاعف من هشاشة عمليّات التنمية، حتّى في الدول التي لا تعيش حالة صراع. فبدءاً من المُصدِّرين الصغار للنفط كاليمن وسوريا، فضلاً عن المصدّرين الكبار كالعراق، لا تزال هذه البلدان معتمدةً على أرباح صادرات منتج أساسيّ لتحقيق النموّ الاقتصادي. وحين تهبط أسعار النفط، يتعثّر النموّ الاقتصادي. وهكذا تُعاني التنمية الضعيفة أصلاً من نكسة إضافيّة تُعيق التنمية العربيّة.

إنّ نقمة النفط تفوق نعمته. إنّه التيار الأكبر الذي يربط معظم البلدان العربية بفضاءات السلع والأموال العالميّة. كما إنّه مصحوب بالتدخّلات العسكريّة المستمرّة من خارج المنطقة، وفي مقدّمتها الإمبرياليّة التي تتزعّمها الولايات المتحدة. في هذه الأثناء، فإنّ المصدّرين الثانويين للنفط -تونس واليمن على سبيل المثال- كانوا تاريخيّاً يُصدّرون الأيدي العاملة إلى الدول النفطيّة الكبرى، جاعلين من تدفّق الحوالات وتوفّر رأس المال رهينةً بيد أسعار النفط (هذا فضلاً عن الريوع الجيوسياسيّة).

ومن ثمّ، يُمكننا أن نلاحظ بأنّ تحطيم مسار التنمية في البلدان العربيّة المتخلّفة في التنمية، وهي تشمل الغالبيّة الساحقة من تلك البلدان، قد بات مضاعفاً مرتين.

أوّلاً، فإنّ القوى التي تحدّد هذه التنمية هي في الحقيقة دوائر صنع القرار التي تشارك فيها القوى الخارجيّة في كثير من الأحيان، وهي قوى لا ترغب بأن يتمكّن بلد صغير آخر من تطوير قدراته الإنتاجيّة في عالم يُعاني بالفعل من فائض في الإنتاج. علاوة على ذلك، فإنّ القوى العالميّة الخارجيّة الكبرى، أعني الطبقات الحاكمة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تستخرج القيمة وتستدرّ الفوائد من الحرب ومن آثارها الاجتماعيّة والسياسيّة والماليّة. كما أحاجج في غير هذا الموضع، فإنّ معدّل فائض القيمة الذي عزّز معدلات عالية من الربح في الغرب لا علاقة له بالإنتاجيّة العالية.2 تفترض الإنتاجيّة درجة من التراكم. لا يُمكن قياس كميّة فائض القيمة من خلال الأسعار التي تفرضها القوى الإمبرياليّة على العالم النامي (فمثل هذه المصالحة بين السعر والقيمة، أو بين المظهر والجوهر، غريبة تماماً ودخيلة على الماديّة التاريخيّة). إنّ معدّل فائض القيمة يتحدّد من خلال الدرجة التي تستهلك بها الإمبرياليّة العامل الحيّ والقوة العاملة في عمليّة الإنتاج العالميّة المتكاملة. ومن ثمّ، فإنّ تحديد القيمة لا يتعلّق بقياس نوعيّة السلعة من جهة سعر الدولار، والتي هي في حقيقة الأمر نتيجة لمجموعة من الميكانزمات/ الأوّاليات الإمبرياليّة الدوليّة. إنّ القيمة هي نوع من العلاقة، ولقياس هذه العلاقة، من الأفضل قياسها من خلال القوى ورأس المال ومن خلال جانبها المتوحّش، الإمبرياليّة، التي تعمل على تجريد المنتجين المباشرين ممّا يحوزنه. ولأنّ الحرب، بوصفها إنتاجاً وشكلاً من الصراع الطبقي، هي الفرن الذي يخلق فائض القيمة، فإنّ الإمبرياليّة كانت تميل دوماً إلى تصوّر نوع من التنمية الذي يُؤدّي إلى مزيد من الحرب. في العالم العربي، ومنذ الثمانينيّات، لا نكاد نرى أيّ استثمار بعيد الأمد في القطاعات الزراعيّة والصناعيّة للاستجابة لاحتياجات القطاعات الشعبيّة.

ثانياً، إنّ الأضرار المباشرة للحرب تفرض عوائق على التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمؤسساتيّة. في العديد من الحالات، كانت الحرب الإمبرياليّة تعزّز الاستغلال الاقتصادي وتتصرّف كعمليّة تراكم بدائيّة هائلة. إنّها تفصل العمل وغيره من الموارد عن علاقاته الإنتاجيّة، بالتزامن مع عمق أزمة الإنتاج المفرط. وما أن يتمّ اقتلاع البشر والموارد [من علاقاتهم الإنتاجيّة] بسبب الحرب -كما حصل في لبنان والعراق على سبيل المثال- حتّى يبقى الوضع كذلك. إنّ التنمية ما بعد الحرب ليست إلا وهماً.

ثالثاً، على الرغم من أنّ النموّ الاقتصادي، والتصنيع السريع، والتحسين التكنولوجي تُصوّر جميعها على أنّها شروط لا تنفصل عن عمليّة التنمية، فإنّها تصبح كلّها أموراً لا معنى لها عندما تُقيّد الحكومات المشاركةَ الشعبيّة أو قدرات البشر على تحقيق أعمال إنسانيّة قيِّمة جديدة (وفقاً للاتفاقيّات البارزة بشأن الحقّ في التنمية)، أو تحقيق مشاركة ذات معنى في الحياة الاجتماعيّة بوصفهم منتجين فيها. من أجل حصول التنمية، لا بدّ من تمثيل البشر العاملين في الدولة3. بالطبع، فإنّ الغالبيّة العظمى من حكومات المنطقة ليست ديمقراطيّة داخليّاً. ومن ثمّ فإنّها تستثني جزءاً كبيراً من السكان من المشاركة في عمليّة صناعة القرار. علاوة على ذلك، فلأنّ حصّة رأس المال اللاتصنيعي أو الكمبرادوري-التجاري تزيد كلّما خفّضت من حصّة القوّة العاملة لا من حصّة الإنتاجيّة، فإنّ النتيجة هي حصول انخفاض عام في الأجور. ومن ثمّ نشهد أزمة القطاع الثالث 4 المنتفخ المألوفة: عمالة فقيرة، وبطالة مزمنة ومتزايدة.

رابعاً، إنّ العالم العربي منطقة تعاني من التفاوت واللامساوة على نحوٍ حادّ5. ودون توزيع متساوٍ للمداخيل والثروة بين طبقات المجتمع المختلفة، فإنّ عنصر الطلب، والذي من شأنه أن يدفع الزخم نحو النموّ ذاتيّ التوليد والمعرفة المُشربة Knowledge-infused سيتباطؤ ويضعف. هناك أزمة في الطلب، ومن ثمّ فإنّ النموّ الموجّه بالطلب مستحيل في هذا السياق، دون نضال اجتماعيّ لتوسيع السلطة الاجتماعيّة، وبالتالي القوّة الشرائيّة، للشرائح الأفقر في المنطقة.

منذ بداية العصر النيوليبرالي ونموّ الاقتصادات العربيّة نموّ آتٍ من الخارج. فالقوى المتضاربة لاحتمالات الحرب، وأسعار السلع، والريوع الجيوسياسيّة، والتي تأخذ شكل ضخّ المساعدات، كلّها في الغالب خارجيّة المصدر. أي إنّ القوى الخارجيّة قد حدّدت مصير المنطقة بدرجة كبيرة جداً.

لم يحقّق النموّ الفارغ معدّلات توظيف جيّدة، كما لم يُقدّم تجربة لتنمية الفقراء على مدار العقود الثلاثة الماضية. على الرغم من ذلك، فإنّ بنى الاقتصاد الكلّي العربي، أي الآليات الأساسيّة لتوزيع الموارد والدخل التي تحابي القطاع الخاصّ، ظلّت كما هي. كما إنّ الطبقة الاجتماعيّة، والوكيل التاريخي المسؤول عن التنمية -وهي ذاتها الطبقة التي تدير الدولة- قد كرّرت نفس السياسات بنفس النتائج الهزيلة. إنّ هذه الأنماط تعكس هدفاً مقصوداً.

إنّ الصعود البطيء، أو التراجع، في الإنتاجيّة يُشير إلى غياب شبه كامل لـ”النموّ من الداخل”، أو النموّ الذي يعتمد على ضخّ “البحوث والتطوير” والمعرفة العمليّة في عمليّة الإنتاج6. وبسبب ضعف القوة العاملة، ليس ثمّة تحسّن في ظروف العيش تبعاً لنموّ الإنتاج أو لدوائر التنمية الفعالة. تظهر حالة الاضطراب والفوضى في الإنتاج على نحوٍ أكثر حدّة في دول الخليج. فقبل نحوِ عقد من الزمن، صاغت دول الخليج موازناتها الحكوميّة بناءً على سعر برميل النفط آنذاك 20-30$. في عام 2015، صارت الميزانيّة تتطّلب ثبات أسعار النفط عند 80-100$ لموازنتها7. تمّ تعديل اتفاقيّات الرفاه الاجتماعي بناءً على أسعار النفط المرتفعة، وتزايدَ الاعتماد على النفط في النموّ بدرجة عالية جداً. تزايدت الهشاشة، وتعرّضت الميزانيّة للعجز بمجرّد هبوط أسعار النفط في 2014. إنّ ميزانيّات الدول عُرضة للتأثّر بحسب حركة أسعار النفط، والتي لا تستطيع الدول المحليّة التحكّم فيها، بل يُمكن المحاججة بسهولة بأنّها تخضع لإرادة المركز الإمبرياليّ.

في أوقات ارتفاع أسعار النفط، يُحقّق الناتج الإجمالي لكلّ عامل نموّاً إيجابيّاً، بل ونموّاً مرتفعاً على نحوٍ ملحوظ. ولكن، حين نخصم عائدات النفط من الناتج الإجمالي، فإنّ حصّة العامل من النموّ تصبح في السالب غالباً. وهذه النتيجة الخطرة والفتّاكة تعمّ معظم دول الخليج، وتعمّ غيرها بدرجة أقلّ. إنّها تعني بأنّ حصّة العامل من رأس المال الإنتاجي، أو معدّات التكنولوجيا الحديثة التي تنمو بناءً على الحاجة إلى استثمار رأس المال والعمل لتلبية الاحتياجات، لا تحقّق أيّ صعود8. كما إنّها تعني بأنّ سياسات التنويع [في مصادر الدخل] قد فشلت. وهذه النتيجة ترجع إلى القرارات المؤسّسيّة للطبقات الحاكمة في المنطقة. إنّهم جزء من البنية الهرميّة العالميّة، التي تمتلك الإمبرياليّة الأميركيّة فيها القرار الاستراتيجيّ النهائيّ. وكجزء لا يتجزّأ منها، نجدهم يرفضون إعمال أيّ صيرورة تنمية تهتمّ بتطوير النتائج الزراعيّة والصناعيّة.

إنّه لمن الصحيح، بل والبدهيّ، أن نؤكّد على أنّ إحياء هذه الاقتصادات المنهكة والضعيفة يتطلّب إنهاء الصراع في المنطقة وخلق بيئة سياسيّة مستقرّة تشجّع على الاستثمار المحلّي والأجنبي (من نوع الاستثمارات ذات معدّلات الإنتاج المرتفعة بالنسبة لرأس المال المُستثمَر). وبترافق ذلك مع زيادة الطلب الداخلي، سيتضمّن ذلك خلق فرص عمل. لا شكّ بأنّ هذه النتائج لا يُمكن أن تتحقّق إلا كثمرة لقرارات تخطيطيّة تشرع فيها الدولة، أو بنوعٍ من تدخّل الدولة في توجيه الاقتصاد Dirigisme. ولكن، برغم صحّة التأكيد السالف، فإنّ ترتيبات المنطقة الأمنيّة، والتي تعتمد بالأساس على التراكم من خلال الحرب ودعم الولايات المتحدة لـ”إسرائيل”، وثانياً على صفقات شراء الأسلحة الأميركيّة من قبل دول الخليج، لا تزال عالقةً في ظروف الحرب المستمرّة الناشئة عن الانقسامات الدوليّة الحادّة، بخاصّة الحروب التي تهدف لاحتواء نفوذ الصين. قد يُؤدّي ذلك إلى مزيدٍ من إعاقة أيّ استثمار جدّي على المدى الطويل، ما لم تبدأ خطط إعادة الإعمار في وقت الصراع، رابطةً بين التنمية والحرب، وعاملةً على تقويةً للدول.

يُمكن وصف المشهد السياسي في العديد من هذه الدول على أنّه عمليّة من “الديمقراطيّة الانتقائيّة” التي تكرّس حقّ أقليّة على حساب الأكثريّة (كمقابل لنوع من الديمقراطيّة الكلّية أو الشعبيّة). وباستثناء الحالات التي يتمّ فيها تمثيل العامل في الدولة بهدف شقّ صفّ الطبقة العاملة (لخلق أرستقراطيّة عمّاليّة شركاتيّة)، فإنّ شعوب هذه المنطقة ممنوعون من حقّ التعبير عن أنفسهم. ولعلّ أحد الأمثلة على هذه التركيبة السياسيّة هي رفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسيّة في دولة مثل مصر، والتي تعاني بالفعل من مستويات مرتفعة من سوء التغذية لدى الأطفال9. ومثل هذه السياسات ستدفع بالمزيد من الأطفال إلى هاوية سوء التغذية.

قد يكون من العمليّ تطوير سياسات اقتصادية كلّية تتوخّى التنمية وتأخذ الأخطار المحيطة بعين الاعتبار، أعني أخطار العنف الخارجي الذي فُرض منذ التسعينيّات وظلّ يتعاظم. على أنّ السياسات الحاليّة التي تعمل وسط الصراعات والصدمات الخارجيّة من جهة وبين الاقتصاد الوطني الذي يعيش في ظلّ حالة التوتّر من جهة، مبنيّةٌ في الغالب على افتراضات غير موجودة أساساً، افتراضاتٍ عن ميدان لعب متساوٍ ونزيه وبيئة خالية من المخاطر، وعن السوق الذي يعمل بالشكل الأفضل دون تدخّل الدولة. قد لا تكون المطالبة بدورٍ محدود للحكومة في الاقتصاد أمراً صالحاً في كلّ مكان. ولكن اقتراح بقاء حكومات صغيرة وهزيلة في ظلّ الحرب أو في ظلّ ظروف شبيهة بالحرب، كما تفعل المؤسسات الماليّة الدوليّة IFIs، هو أمرٌ غير مقبول البتّة. عندما تقوم المؤسسات والوكالات العابرة للقوميّات، والتي تستطيع تحفيز عمليّة التنمية، بتجاهل الفيل الذي في الغرفة [تنكر الشمس في وضح النهار]، أي حين تتجاهل الحروب وآثارها وتتجاهل السياق المؤسساتي غير المتوازن، فإنّ ذلك يُؤكّد بأنّ تكرار الأخطاء القديمة لا علاقة له بقصر النظر، بل بغياب إرادة التنمية.

:::::

المصدر: “متراس”

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.