علي قادري: التنمية تحت تهديد الحرب في العالم العربي (الجزء الثاني والأخير)، ترجمة أسامة غاوجي

بسبب تراجع التصنيع وقدرات التزويد الصناعي المحلّي المنخفضة -على نحوٍ متعمّد- أي الإنتاج الذي ينشأ عن شبكات التزويد متعدّدة الطبقات وذات الأساس الوطني، فإنّ الدول العربيّة قد ظلّت معتمدة على تصدير الموادّ الخام. بالنسبة لدعاة الإصلاح النيوليبرالي ودعاة الإصلاح البطيء على السواء، فإنّ الظروف الحاليّة من تراجع أسعار النفط والعجز الحاد في النموّ يخبرنا كم أنّ السياسات العقيمة، في الماضي والحاضر، قد فشلت، أو لم تكن مهتمّة، بتحديد القناة الرئيسيّة المسبّبة للتخلّف. وهذه القناة، كما قلت وأكرّر، كانت تاريخيّاً هي الاقتصار المفرط في الاندماج في الاقتصاد العالمي على قنوات النفط والحرب المتشابكة.

لا يعني ذلك عدم وجود استثناءات لقاعدة الفشل المتكرّر في التنمية. ولكن، في حالة وجود إنجازات شاذّة من هذا النوع، كالأردن، فإنّ تفسير هذا النجاح في التطوير والتنمية يجب أن يُعزى إلى الظروف الجيوسياسيّة، أو كنتيجة للريوع الجيوسياسيّة، وليس إلى أي أرضيّة من “الأداء الاقتصادي المحلّي”. فالطوق الصحّي Cordon sanitaire المفروض على المنطقة عاملٌ تفسيريّ أساسيّ في هكذا تنمية. إذ يُسمح لبعض البلدان بأن تُحقّق تنميةً نسبيّة أو أن تكون بمنجى عن آفة الإرهاب الإسلامي، وفي بعض الأحيان تموّلها الولايات المتحدة الأميركيّة، بسبب تحالفاتهم الجيوسياسيّة. ولكنّ الازدهار المنشود للمنطقة بأكملها لا يُمكن أن يحدث في ظلّ الترتيبات المؤسسيّة القائمة والحروب المفروضة من الخارج لتمزيق المنطقة.

إنّ الديباجة التي كانت تتكرّر في الثمانينيّات هي أنّ التنمية تتطلّب تنويعاً يتجاوز المنتجات الأساسيّة (النفط بالدرجة الأولى). على أنّ التنويع يتطلّب بنية تحتيّة قانونيّة واجتماعيّة وماديّة يُمكن لها أن توسّع الأسواق على نحوٍ لاعدائيّ مع شركاء التنمية في المنطقة. إنّ النزوع الإقليمي Regionalism و/أو الدول المتحوّلة إلى بناء كتلة إقليميّة لدمج الأسواق المحليّة وجذب الاقتصادات الكبرى تتطلّب بدورها تعزيز البنية التحتيّة الاستثمارية المابينيّة [أي بين دول المنطقة]. ونظراً لمعدّل التكامل الإقليمي المنخفض (حيث إنّ التبادل التجاري والاستثمار بين بلدان المنطقة منخفضٌ للغاية مقارنة بالمعايير العالميّة، وحيث إنّ اتفاقيّات التعاون العربي اتفاقات غير مُلزمة وغير ذات قيمة بالتالي)، فإنّ بلدان المنطقة لم تخط خطوةً جدّية في مسار التخلّي عن الاعتماد على النفط10. وما إن يتجذّر ويترسّخ نمط التراكم التجاري الكمبرادوري، الذي يعتمد على الاستفادة من الاستيراد والصناعات الاستخراجيّة، باعتباره مقابلاً للنمط الصناعي، فإنّ الاستغلال يتحوّل من الإنتاج ذي القيمة المضافة وتوسّع الأسواق والسلع ذات الغايات المدنيّة إلى تنويعة من المركّبات الثانويّة من الاستغلال التجاري. ولعلّ حالة الفقر المدقع التي تعمّ خدم البيوت الآسيويين والعاملين في قطاع التوظيف منهم في دول الخليج وغيرها هو مثال على هذه الحالة التي أشرت.

إنّ عمليّة استخراج النفط لا تتطلّب إلا عملاً سهلاً وضئيلاً، كما إنّ علاقاتها الإنتاجيّة سُرعان ما تؤدّي إلى سلاسل إنتاج أو عمليات خارج البلد المُنتج. إنّ التجارة المعتمدة على مبادلة المنتجات الأساسيّة لا تخلق قيمةً مُضافة لوحدها. تاريخيّاً، بدلاً من الاتجاه إلى اختيار سياسة تقوم على توسيع حجم السوق وبالتالي زيادة عدد المستهلكين، أصبح رجال الاعمال في المنطقة في حالةٍ من الانطوائيّة الاقتصاديّة. فربحهم يأتي من تصفية الأصول الوطنيّة وزيادة حصّتهم من الدخل الوطني، ضمن إقطاعياتهم الخاصّة، ذات معدّلات دوران سريع لرأس المال، ومن ثمّ تخزين ثروتهم بالدولار الأكثر ثباتاً. وهكذا تقوم البنوك المركزيّة بدعم الأثرياء من خلال ربط العملات الوطنيّة بالدولار وفرض الضرائب على الطبقة العاملة. ولعلّ ظهور مناورة النخبة اليمنيّة البارعة وسط الحرب المستمرّة، بالاستفادة من السمسرة على استيراد الحبوب وصادرات الهيدروكربون [المنتجات النفطيّة]، مثال مهمّ في هذا السياق.

عندما نتعامل مع أطر التوزيع الكلّي في الدول المصنّفة ضمن فئة الدول المعرّضة للحروب، كالعراق ولبنان في الماضي والحاضر، ومعهم الآن زمرة من الدول الموزّعة عبر المنطقة العربيّة والأفريقيّة، يجب عندها أن نطرح أسئلة من نوعٍ مختلف. ثمّة ضعف متأصّل بالفعل نتيجة نشوء هذه البلدان في رحم الاستعمار وبقائها متأخّرة النموّ، بحيث دخلت جميع اقتصادات المنطقة في حقبة ما بعد الاستعمار مع قاعدة صناعيّة صغيرة جدّاً، وأحياناً بأسواق داخليّة متعثّرة بفعل التخلّف الاستعماري. وهكذا كانت التنمية متعثّرة وأصبح هذه البلدان صغيرة ومهدّدة في الوقت الذي يعتمد سباق التنمية فيه على الحجم والاستقرار الآمن. في هذه الأثناء، لم يكن ثقل الاستعمار هو وحده ما أثّر في هذه البلدان. فالاعتداءات الإمبرياليّة ما بعد الكولونياليّة لم تتوقّف البتّة، سواء عسكريّاً، بالهدم الذي تُشيعه “إسرائيل” في المنطقة أو بخلقها لمنصّة قوّة غير متكافئة تستنزف الموارد، أو من خلال وضعيّة التبادل وسياسات التقشّف التي تُخفّض من أجر العمل وغيره من الموارد. لا تكمن أسباب التخلّف في التنمية في حدود سايكس-بيكو كما يُشاع دوماً. إنّ ضرورة الحرب كأداة لخلق فائض القيمة والقوّة هي سبب هذا الركون إلى التخلّف. كان [أنور] عبد الملك (1981) قد أشار سابقاً إلى أنّ فائض القيمة التاريخيّ الذي أتحدّث عنه، أكثر من مجرّد كومة من السلع، فهو أيضاً كومة من الأفكار التي تقابل رأس المال المتوسّع، والذي يتضمّن على سبيل المثال موافقة خطاب النسوية الغربيّة على القصف الأميركي في العراق وسوريا وليبيا، وهي الدول التي تتمتّع فيها النساء بحقوق واسعة نسبيّاً.

فيما يخصّ استنزاف الموارد، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار كيف أنّه حين تزداد العوائد من صادرات السلع الأساسيّة في المنطقة، فإنّ معدّلات الادّخار تقلّ بعدها، مثلما هو الحال في متلازمة المساعدات حيث تستهدف المساعدات الإمبرياليّة استثمارات الفقراء أو الاستهلاك، والذي يُقلّل بدوره من معدّل الادّخار. عندما تتحرّك توليفة الاستهلاك العربي نحو الزيادة، فإنّها تسحب باستمرار من الادخارات الوطنيّة والاحتياطيّات، وهكذا لا يتبقى إلا أقلّ القليل للاستثمار في الأنشطة المنتجة عندما تتراجع أسعار النفط. علاوة على ذلك، فإنّ الدول الأقلّ نفطيّة مثل مصر وسوريا واليمن، لا تؤمّن مدّخرات كافية من التبادل الأجنبي لتسهيل التقلّبات الخارجيّة التي تفرضها أسواق النفط. ومع استثمار رؤوس أموال في مشاريع ذات مدّة حمل Gestation  قصيرة الأمد ومع العجز المتزايد والمتكرّر في الحسابات الجارية، فإنّ هذه الدول تعيش حالة من الانكماش الاقتصادي الطويل. في واقع الأمر، حقّقت الدول العربيّة نموّاً حقيقيّاً بنسبة 1% من إجمالي الناتج القومي GDP لكلّ نسمة، كمعدّل ما بين 1980 و201011. من المهم أن نلاحظ بأنّ الانتقال من المشاريع الاستثماريّة التي تُلقّب بمشاريع “الفيل الأبيض”12، والتي تنتمي إلى حقبة ما بعد الاستقلال، تزيد من سوء الأداء الاقتصادي. فمشاريع نكروما13 والمشاريع العربيّة الكبرى لم تفشل بنفسها، بل إنّ الحروب الإمبرياليّة الصريحة والخفيّة والعقوبات هي ما أخمدها وأفشلها.

ولعلّ الدليل الحاسم بخصوص الانهيار الاقتصادي المدعوم من الإمبرياليّة يتوضّح في أنّه على الرغم من معرفة المؤسسات الحكوميّة مسبقاً بأنّ عليها أن تعمل على تنويع الاقتصاد ودعم الصناعات الوطنيّة، فإنّنا لا نرى منذ أربعة عقود أيّ تحسّن في منحنى التعلّم لديها. إنّها تصرّ على الفشل في تطبيق هذه المشاريع. لا يُمكن لهذا المسار أن يسير من تلقاء نفسه بل لا بدّ أن تنظّمه أيديولوجيا الطبقة المهيمنة، والتي تمفصلت بالخضوع للإمبرياليّة.

حرّر العالم العربي البيئة للاستثمار، ولكنّ النتائج كانت مخيّبة وكارثيّة على نحوٍ متكرّر. فقد انخفضت معدّلات الاستثمار من نحو 30% في 1980 إلى نحو 20% في 201014. فدون وجود مؤسسات توجيهيّة وإطار تأميني يكفل ظروف الحرب الطارئة أو يُعوّض عن الخسارات الناجمة عن قوى قاهرة، فإنّ الأسواق الصغيرة المُخاطرة والمجزّأة لا يُمكن لها أن تُعزّز استثمارات إنتاجيّة. تُمرّر الطبقة التجاريّة الكمبرادوريّة استثماراتها في رأس مال قصير الحمل، وفي أنشطة مضاربة غير إنتاجيّة. إنّ القطاع الذي يجب احتضانه هو الاستثمار الموجّه للقطاعات القوتيّة Subsistence الأساسيّة، بخاصّة الزراعة الأساسيّة للثروة القوميّة. بالطبع، فإنّ الاستثمارات النيوليبراليّة والمضارِبة تستلزم وظائف قليلة الإنتاجيّة في قطاع الخدمات أو التوظيف الضعيف في القطاعات غير الرسميّة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تقليل معدّل خلق الوظائف في القطاع العام وخفض النفقات لا يُحسّن ظروف التوظيف. وبجانب الاقتطاعات من القطاع العام في ظلّ إملاءات المؤسسات الماليّة الدوليّة على المنطقة، من مصر إلى العراق، فإنّ تفكيك الصناعة قد قلّل من معدّل خلق الوظائف المحترمة إلى درجة أقلّ بكثير من معدّل الداخلين الجدد في القوى العاملة.

علينا أن نتذكّر بأنّ معدّلات النموّ السكاني قد تناقصت باضطراد منذ الستينات. ومن ثمّ فلا يصحّ أن نعزو مشكلة البطالة إلى ارتفاع عدد السكان لأنّ الوصفة النيوليبراليّة قد قلّلت من معدّل خلق فرص العمل إلى ما هو دون معدّل الداخلين الجدد في سوق العمل. إنّ الحجّة الديموغرافيّة ليست إلا أزمة من جانب العرض15 Supply-sided. فالسياسات الكلّية التي تمّ تبنيها منذ بداية الثمانينيّات قد قلّلت من معدّلات النموّ، وغيّرت من تركيبة مدخلاتها (مزيد من النموّ من الجانب التجاري) واعتمدت إمّا على إضعاف كفاءة العمالة الوطنيّة أو تحريرها. ومن ثمّ فإنّ زيادة البطالة والفقر كانا بالضرورة نتيجة لسياسة اللبرلة غير المشروطة.

من غير المرجّح فيما يبدو أن تقوم القوى الاجتماعيّة التي سيطرت على الدولة في المنطقة، بما فيها العديد من الجمهوريات العربيّة، بتطوير سياسات من الرفاه التي تُراعي المصالح الخاصة وتُحقّق المصالح العامّة أيضاً (أو ما يُطلق عليه الأثر الإنتشاري16 Trickle-down effect) في الحالة التي يقوم فيها ممثّلو طبقة صنّاع القرار، من خارج البلدان أو من التابعين داخلها، بالسعي لإفقار المنطقة، يبدو اقتراح ملتون فريدمان “Bang for buck [أي تحقيق قيمة عالية من خلال تكاليف منخفضة]” متماسكاً، إنما بالاتجاه المعاكس. فهو يُحاجج بضرورة الحسم من النفقات العامّة لأنّها فيما يزعم مضيعة للمال ولا تُولّد نتائج ملموسة. في الواقع، يبدو بأنّ حروب إنقاص عدد السكان والتراجع البيئي، والجانب المُبدّد من التراكم المرتبط ارتباطاً وثيقاً برأس المال، تتحوّل إلى استثمار إمبرياليّ ماكر يستطيع أن يُسدّد نفقاته بسهولة ويجني الأرباح.

على المدى البعيد -أعني أفق التخطيط بعيد المدى في الحقبة القوميّة، الممتدّة تقريباً من النصف الثاني من الخمسينيّات إلى بدايات الثمانينيّات، عندما كانت الاقتصادات المُدارة من قبل الدولة سائدة من الجزائر وتونس إلى مصر وصولاً إلى دول المشرق في سوريا والعراق- كان هناك مستوى أعلى من عائدات التنميّة من الاستثمارات الاجتماعيّة، أو مما يُسمّى جمود السوق وتدخّل الحكومة. ووصولاً إلى الحاضر، فإنّ جميع هذه النفقات لم تنقل إلا جزءاً ضئيلاً من النزاهة المؤسسيّة. وحتّى في الحقبة النيوليبراليّة الحاليّة، استمرّت الشركات المملوكة من الحكومة والبيروقراطية في المساهمة في التخطيط والتنسيق لتحقيق شيء من النموّ الاقتصادي. بهذا المعنى، تمكّنوا من تحقيق عائدات تفوق النفقات الأوّلية.

في التطبيق العملي، فإنّ القضايا الكليّة Macro مترابطة ولا يُمكن فصل بعضها عن بعض. فالأسئلة حول الفعاليّة تستدعي إجاباتها الخاصّة. على سبيل المثال، إلى أيّ حدّ يُمكن أن تكون مشكلة البطالة في بعض الدول نتيجةً للسياسات النقديّة التي تستهدف الوصول إلى معدّلات دنيا من التضخّم دون أخذ مشكلة البطالة بعين الاعتبار؟ إلى أيّ مدى يُمكن أن يكون الركود التضخّمي في بعض الدول نتيجةً لخلط السياسات لزيادة معدّلات الفوائد على المدى القصير وانخفاض قيمة العملة الوطنيّة؟ إلى أيّ مدى يُمكن أن يكون التأثير السلبي لمعدلات البطالة المرتفعة والمزمنة قد فاقم التقلّص والانكماش الذي تسبّبت فيه صدمة خارجيّة (مثل نزول أسعار النفط)، ومن ثمّ يخلق مساراً من التبعيّة المنهكة؟

يُمكن أن ننظر إلى الميكانيزمات الكامنة وراء هذه الأسئلة والقرارات السياسيّة التي تكمن وراءها على أنّها بمثابة صمامات نظام الريّ، والتي تتحكّم بالموارد وتصرّفها بين الطبقات الوطنيّة المختلفة والمصالح الماليّة الدوليّة.

بعبارة أخرى، إنّ الأمر يتعلّق بمن -أي طبقة- يملك القوّة الكافية للحصول على الحصّة الأكبر من الدخل، وكم هو. إنّ تراجع تدخّل الدولة في الاقتصاد، وإعادة تجهيز السياسات النقديّة والماليّة للدولة لم تكن قرارات عمياء طبقيّاً. إنّها تعكس مصالح برجوازيّة صاعدة تدفع العامل إلى الوراء. ونتيجةً لذلك انخفضت حصّة العامل من إجمالي الناتج إلى المعدّلات الأدنى عالميّاً نتيجةً للتضخّم وضغط الأجور. هذا يعني أنّ الثروة المحليّة ستتركّز، في البلد تلو الآخر، في أيدي قلّة؛ وانظر سوريا ومصر كمثال على ذلك. في المقابل، فإنّ ثبات العملات الوطنيّة في مقابل الدولار -أي تثبيت سعر الصرف- يعني أنّ هذه الثروة المحليّة اسماً يُمكن أن تُخزّن على شكل عملات أجنبيّة. لم تعد أسعار الصرف الثابتة وسيلة لمنع تدفق العملة الساخنة17، وتحوّلت إلى وسيلة لنقل الثروة، ليس فقط إلى الأعلى ضمن المجتمع، بل إلى الخارج أيضاً18.

بالطبع، لا يُمكن للبلد أو تربط نفسها بالدولار في حساب رأسمالي مفتوح وأن تحافظ على سياسة نقديّة فاعلة في آن. إنّ ما يهم أوّلاً ليس فعاليّة السياسة النقديّة، وإنّما امتلاك السياسة أو الاستقلال في السياسات، والتي تنبع عن هامشيّة سيادة الدول. فسيادة الدول العربيّة قد اتسمت بالنقص الكبير في القدرات التنمويّة ورفاه الإنسان والمشاركة البروليتاريّة. بعبارة أخرى، إنّ للسيادة عنصراً طبقيّاً بالضرورة.

في أزمنة الحروب، أو الظروف الشبيهة بالحروب، كتلك السائدة في اليمن بوضوح أو في سوريا والعراق، ومن ثمّ في العالم العربي بالمجمل، فإنّ السيادة المطلقة يُمكن أن تُستحضر مجازيّاً من النقش المكتوب على جانب مدفع لويس الرابع عشر: الحكم النهائي للملوك Ultima ratio regum. إنّ التوازن العسكري للقوى، بما في ذلك القواعد العسكريّة الأميركيّة والإسرائيليّة، أصبح هو السمسار الوسيط المشرف على السيادة؛ فهو الذي يقرّر متى يحقّ للدول أن تنال سيادتها وضمن أيّة شروط. إنّ احتلال العراق مثالٌ صارخ لذلك. بالإضافة إلى الانهيار الأيديولوجي للنيوليبراليّة، فإنّ العنف الخارجي يُمكن أن يُفسّر كثيراً من الافتقاد إلى السياسات المستقلّة الذاتيّة منذ 1980.

إنّ استعادة دفّة التنمية يعني استعادة الاستقلاليّة في السياسات، أو قدرة الدول المحليّة على التصرّف بما يتواءم مع مصالح الطبقات الشعبيّة. إنّ العلاقة الإيجابيّة بين حيّز السياسات وبين المخرجات التنمويّة الإيجابيّة علاقة مباشرة. وقد أكّد الكثيرون على أهميّتها.

فعلى سبيل المثال أكّد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD على أنّ “فكرة حيّز السياسات تُشير إلى حريّة الحكومات وقدرتها على تحديد ما هو المزيج المناسب من السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي يُمكن بواسطتها تحقيق  التنمية العادلة والمستدامة”19. على أنّ ذات المؤتمر، وبنبرة فوقيّة، سيعزو أسباب تقلّص حيّز السياسات لأسباب لا علاقة لها بأشكال القوى الواقعيّة (كما لو أنّ هشاشة سيادة الدول في البلدان الأضعف نتيجةٌ جانبيّة لقانون دولي ديمقراطي عالمي!). ماذا سيجني مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية من عزو ضعف حيّز السياسات لـ”مجموعة من الالتزامات القانونيّة النابعة من الاتفاقات الإقليميّة متعدّدة الأطراف والاتفاقات الثنائيّة”، إلا إن كان يهدف إلى حجب الحقيقة؟20.

إنّ معدّلات القيمة الفعليّة المرتفع واقتلاع الموارد الناجم عن العنف، تأتي بالدرجة الأولى بسبب، أو بتسهيل، الفاعلين الأجنبيين مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو ما يتناقض مع جميع مواثيق القانون الدولي. إنّ في نصف الحقيقة هذا محاولة لحجب طبيعة بنية القوى الاجتماعيّة ذات التشكيل الهرمي، التي تتجاوز الحدود القوميّة، والتي تستهدف أيديولوجيّتها مستوى أعلى من تأييض المدخلات لتطوير النظام الاجتماعي (استهلاك البشر والطبيعة)، أحياناً عبر وسائل متوحشة، كمقدّمة ضروريّة للنموّ الاقتصادي العالمي.

إننا ببساطة لا نستطيع أن نتخلّى عن دراسة العلاقات الاجتماعيّة، إعادة التشكيل الاجتماعي للعنف، وجهودها التاريخيّة المتراكمة لإتلاف القيمة في العالم النامي ثمّ إعادة تركيبها. إنّ التاريخ مهمّ، وتجنّب النظر إلى التأريخ التأسيسي للعنف الخارجي لا يندرج تحت العلوم الاجتماعيّة، بل تحت الخيال العلمي!

هوامش:

  1. يعني مصطلح التحقّق/ التحقيق/ الإنجاز: عمليّة تحويل الموجودات والسلع والخدمات إلى نقد من خلال البيع (المترجم).
  2. Ali Kadri, The Cordon Sanitaire: A Single Law Governing Development in East Asia and the Arab World (Singapore: Palgrave Macmillan, 2018).
  3. United Nations General Assembly, Resolution 41/128, “Declaration on the Right to Development,” December 4, 1986.
  4. القطاع الثالث هو قطاع الخدمات، تمييزاً له عن القطاع الأوّل (الزراعة، المواد الأوّلية، الثروة الحيوانيّة)، والقطاع الثاني الصناعي (المترجم).
  5. University of Texas Inequality Project, Estimated Household Income Inequality Data Set, 2008.
  6. Ali Kadri, “Productivity Decline in the Arab world,” Real-world Economics Review 70 (February 2015): 140–60.
  7. Saudi Arabian Monetary Authority (SAMA), “51st Annual Report,” 2015. http://www.sama.gov.sa/en-
  8. Ali Kadri, “A pre Arab Spring Depressive Business Cycle,” in The New Middle East: Protest and Revolution in the Arab World, ed. Fawaz Gerges (New York: Cambridge University Press, 2014).
  9. John Everington and Shereen El Gazzar, “Consumers hit hard as Egypt subsidy cuts send fuel prices soaring 78%,” The National, July 5, 2014.
  10. United Nations Survey of Economic and Social Developments in Western Asia, 2007–2008 (New York: United Nations, 2011).
  11. World Bank, World Development Indicators, (WDI) (Washington, DC: World Bank). http://databank.worldbank.org/ddp/home.do?Step=12&id=4&CNO=2.
  12. مشاريع الفيل الأبيض تعني المشاريع ذات التكلفة التشغيليّة والتأسيسيّة العالية، والتي لا تُحقّق مردوداً يُكافئ تكاليفها، وأصل التسمية يعود إلى التقديس الذي كان يحظى به الفيل الأبيض في بعض بلدان شرق آسيا، فكان امتلاك فيل أبيض يعني نفقات رعاية باهظة له من توفير العلف والمأوى دون الحصول على مردود مقابل ذلك. وقد تمّ استعمال المصطلح في وقتٍ مبكّر (نحو نهاية القرن التاسع عشر) لوصف المشاريع المتعطّلة وغير المكتملة (المترجم).
  13. كوامي نكروما، أوّل رئيس لغانا بعد الاستقلال، وكان من أبرز المناضلين ضدّ الاستعمار ومن أبرز دعاة الوحدة الإفريقيّة وأحد مؤسّسي “منظّمة الوحدة الإفريقيّة” التي تحوّلت إلى “الاتحاد الإفريقي” (المترجم).
  14. المرجع نفسه
  15. أي أزمة السياسة الاقتصاديّة التي ترى بأنّ تحقيق النموّ يتمّ من خلال تحرير الأسواق من الضرائب والتنظيم الحكومي، مما يُفترض به أن يؤدّي لانخفاض الأسعار وزيادة الوظائف (المترجم).
  16. الأثر الانتشاري هو ظاهرة انتشار أساليب الاستهلاك من الطبقة العليا نزولاً إلى الوسطى فالدنيا. فالسلع والموضات الجديدة تدخل الأسواق بأسعار مكلفة في البداية، ثمّ يتمّ تعميمها وانتشارها على نطاق أوسع، وتقلّ أسعارها في أثناء هذه العمليّة (المترجم).
  17. تعني دخول العملات الصلبة إلى السوق المحلّي لفترات زمنيّة قصيرة، وهي عبارة عن استثمارات سريعة الخروج (المترجم).
  18. Countries with balance of payment constraints are short leashed by institutional lenders who can wreak havoc on the nation-states by simply delaying disbursements to support the national currency (if national currency devalues, inflation rises).
  19. United Nations Conference on Trade and Development, Trade and Development Report, 2014.
  20. المرجع نفسه

:::::

المصدر: “متراس”

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.