عشر سنوات بعد أزمة الإئتمان العقاري، الطاهر المعز

شهد النظام الرأسمالي العالمي أزمة مالية حادة سُمِّيَت أزمة “الرّهْن العقاري”، في شهر أيلول/سبتمبر 2008، بسبب الدّيون المشبوهة المستخدمة لشراء العقارات (عبر تزييف الوثائق والبيانات)، وانطلقت “رَسْمِيًّا” مع انهيار مصرف “ليمان براذرز”، الذي بلغت أصولُه نحو 700 مليار دولارا، فيما ارتفعت دُيُونه إلى حوالي 600 مليار دولارا (لم يتمكن من استخلاص الدّيون المشبوهة)، وأدّى انهيار هذا المصرف، بسبب الدّيون التي تراكمت، إلى سلسلة من التّداعيات، تمثلت بانهيار مجموعة من المصارف في الولايات المتحدة وفي أوروبا وآسيا، في عملية شبيهة بأزمة الديون العقارية في اليابان سنة 1997، والتي بلغت حوالي تريليون دولارا، وأدت إلى أزمة مالية حادة عصفت باقتصاد العديد من البلدان…  

بدأت بوادر الأزمة تَظْهر في شهر آب/أغسطس 2007، عندما واجه مصرفان أوروبيان يعملان في الولايات المتحدة (“بي إن بي – باريبا” الفرنسي، و “آي كي بي – دويتشه” الصناعي الألماني) مصاعب في استخلاص سندات القروض العقارية التي بحوزتهما، بسبب عجز الزبائن عن سداد هذه القُروض، ويكمن جزء من الصعوبات في تغليف هذه القُروض “المَسْمُومَة” بأسماء “مُنْتَجات مالية” أخرى، وخرج المَصْرِفان بأقل الأضرار، لأنهما تخلّصا من معظم السندات التي بحوزتهما، وتَوَقّفا عن قبول سندات جديدة، بعد أن فَقَدا الثقة في النظام المصرفي الأمريكي، الذي كان يَدْعَم هذه العمليات المصرفية المُعَقّدَة، التي أدّت إلى انهيار مصرف “ليمان براذرز” في سبتمبر 2008، وعندها فقط، توقفت عمليات الإقراض والإقتراض في الولايات المتحدة، لفترة أُسْبُوعَيْن، قبل أن تتدَخّل الحكومات (خلافًا لأُصُول ولقواعد الرأسمالية الليبرالية) لضَخِّ السيولة وإعادة تمويل المصارف (من المال العام)، بفائدة ضعيفة جدًّا أو بدون فائدة أصْلاً، إلى أن أصبحت هذه المصارف والشركات تُحَقِّقُ أرباحًا، بفضل أموال الأجراء الذين فرضت عليهم الحكومات إجراءات تقشّف وخفض الرواتب والتسريع من الوظائف، وزيادة سن التقاعد، وغيرها من القرارات الظّالِمة، وكانت الحكومات مسؤولة عن الأزمة، عبر مُباركتها عمليات إعادة صوغ الديون واعادة تغليفها وتسويقها بصفتها “أدوات مالية ذكية”، مما رفع المديونية الأمريكية بنسبة 24% سنة 2007، وفق صحيفة “فايننشال تايمز”…  

أنفق لاحتياطي الفيدرالي “المصرف المركزي الأميركي” تريليونات الدولارات بشكل مباشر في رأسمال المصارف، من بينها 700 مليار دولار، خلال بضع ساعات، لمنع الانهيار في أسواق أميركا، ولتجَنُّبِ إفلاس الشركات الكبرى العابرة للقارات في البلدان الرأسمالية، واشترى الإحتياطي الفيدرالي من أموال الأُجراء والفُقراء (في أمريكا والعالم) السندات الفاسدة من المصارف والشركات، بالإضافة إلى سياسة “التّيْسِير الكمِّي”، أي ضخ تمويلات مباشرة ومَجانية (بدون فائدة) في خزائن المصارف والشركات الأمريكية، من سنة 2008 إلى 2015، وفَتح الإحتياطي الفيدرالي خطوط الائتمان للمصارف المركزية في أوروبا وآسيا لمنع انهيار الاقتصادات الرأسمالية العالمية، بأموال أُجراء أمريكا والعالم، وأموال السعودية والصين وغيرها من الدول التي أودَعَتْ أموالاً في الخزينة الأمريكية، وقُدِّرَت تكلفة أزمة 2008 بنحو 54 تريليون دولارا، وملايين الوظائف…

بلغت ديون العالم (ديون الحكومات والشّركات والأُسَر) منذ سنة 2007 وحتّى منتصف سنة 2017 نحو سَبْعِين تريليون دولارًا، وتستحوذ الصين على ثُلُث هذه الديون، فيما بلغت دُيون الشركات العالمية (بما فيها شركات الصّين) قرابة 66 تريليون دولارا، ولئن انخفضت الديون العقارية (وربْحيّة المصارف) في الولايات المتحدة وفي معظم دول أوروبا، بسبب الصرامة في الموافقة على الديون منذ 2008، فإنها ارتفعت في العديد من الدول الأخرى، ومن بينها الإقتصادات الرأسمالية المتطورة مثل سويسرا وكندا وأستراليا، ويتخوف خبراء الإقتصاد سنة 2018 من النتائج التي قد تكون سيئة جدًّا، بسبب الحرب التجارية، وعرقلة الولايات المتحدة لحركة التجارة العالمية، ولحركة رأس المال، بالإضافة إلى تَعَدُّد بُؤَر التّوتر في العالم، وفق شركة “ماكنزي” للإستشارات (أمريكية)…

أدت أزمة 2008 إلى صعود الصين كقوة مُنافسة للولايات المتحدة، كما أدّت إلى خسائر فادحة للشعوب في اليونان وإيرلندا وإيطاليا والبرتغال، وبدأت بوادر الإنهيار تظهر سنة 2017 و 2018 على اقتصادات البرازيل والارجنتين، وجنوب إفريقيا وفنزويلا وتركيا وغيرها، وبالمقابل، استفاد كبار الأثرياء في العالم من هذه الأزمة (فالأزمة كانت مصدر إثراء للبعض) بفضل حصولهم على قروض مجانية من مصرف الاحتياط الفدرالي ومن المصارف المركزية في أوروبا، واستخدموا هذه الأموال المجانية، للمتاجرة والمضاربة، والإقراض بأسعار فائدة مرتفعة، خصوصًا في أسواق آسيا وأميركا الجنوبية، وما يُسَمّى “الإقتصادات النّاشِئَة”، التي اعتبرت إن هذه الإستثمارات تُشَكِّل فُرْصة لتحقيق النمو، فلجأت إلى زيادة الإقتراض بأسعار فائدة منخفضة (ولو إنها أعلى من نسبة الفائدة في أمريكا وأوروبا)، ولكن هذه الأموال لم تكن تُسْتَثْمر في الصناعة والزراعة والقطاعات المُنْتِجة، بالإضافة إلى خُروجها حال ارتفاع نسبة الفائدة في أوروبا وخصوصًا في أمريكا، وبارتفاع نسبة الفائدة هناك، وسعر الدولار، ترتفع تكاليف تسديد ديون الإقتصادات “الناشئة”، وهو ما يحصل في تركيا التي فقدت عملتها ما بين 40% و 50% من قيمتها مقابل الدولار خلال ثمانية أشهر، ويطاول التهديد سعر عملات، واقتصاد  دول أخرى، ومن بينها الأرجنتين وجنوب أفريقيا وإندونيسيا وربما الهند…

يتخوف خُبراء “معهد التمويل الدولي” (إحدى مؤسسات مجموعة “البنك العالمي” – واشنطن)، من تجدد الأزمة الإقتصادية، ومن انفجار أزمة مالية جديدة، قد تكون أقوى من سابقاتها، لعدّة أسباب، ومن بينها ارتفاع حجم ديون الدّول والشركات العالمية، إذ فاقت ديون الولايات المتحدة عشرين تريليون دولار، وديون اليابان 11 تريليون دولار، وديون دول الإتحاد الأوروبي ما بين تريليون و3,5 تريليونات دولارا لكل من دُولِهِ الكُبْرَى، وارتفعت قيمة الدين العالمي خلال الربع الأخير من سنة 2017، لتصل 237 تريليون دولار، أو ما يُعادل 317,8% من إجمالي الناتج المحلي العالمي لسنة 2017…

طالب بعض الباحثين الإقتصاديين وخبراء المالية بتقليص حجم المصارف، إثر أزمة 2008، كي لا تُهدّد الإقتصاد العالمي، ولكن حَصَل العكس، وتضخم حجم المصارف، وارتفع حجم الأصول التي تمتلكها أكبر خمس مصارف أمريكية من 44% من إجمالي الأصول المصرفية سنة 2007 إلى 47% سنة 2017، وتمتلك 1% من صناديق الاستثمار 45% من الأصول، مما يعني إن هذه المؤسسات المالية هي المتسببة في الأزمة، التي سدّد ثمنها الأُجراء (وهم دافعو الضرائب) واستفاد المتسببون في الأزمة من المال العام (وهم يصرحون دائمًا وأبدًا ضد القطاع العام وضد تدخل الدولة في تحديد الأسعار والرواتب…)، ليتضخم حجم القطاع المالي بعد عشر سنوات من الأزمة، بل وارتفع حجم قطاع صناديق و”مصارف الظّل”، (أي مؤسسات تمارس النشاط المالي، دون احترام النظم والتشريعات المالية) من 28 تريليون دولارا سنة 2010 إلى 45 تريليون دولارا، أو قرابة 13% من إجمالي الأصول المالية… البيانات والأرقام عن “معهد التمويل الدولي” + “فايننشال تايمز” + “بلومبرغ” + رويترز” 12/09/18

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.