بعض ملامح الوضع الدولي، الطاهر المعز

محاولات الصين وروسيا الإفلات من الكَمّاشَة الأمريكية

ورد في تعليقات لبعض الصحف الأمريكية “إن الصين تعتزم التّفَوُّقَ اقتصاديا على الولايات المتحدة بحلول 2049، بمناسبة الذكرى المائة لتحرير الصين ولحُكْم الحزب الشيوعي الصيني” (1949 – 2049)، وتعتبر الدولةُ الأمريكيةُ وإعلامُها ومصارفُها إن ذلك يُبَرِّرُ محاصرة الصين وشن الحرب التجارية ضِدّها بشكل استباقي “وِقائي” (وضد دول أخرى “حليفة” للولايات المتحدة)، رغم محاولات الصين (وكذلك روسيا) تَجَنُّبَ أي مجابهات مع القوى الرأسمالية “الغربية”، والبحث المُسْتمر عن “حلول وُسْطى”… تصطفُّ مؤسسات ودول الإتحاد الأوروبي وغيرها (اليابان وأستراليا وكندا…) وراء الموقف الأمريكي الذي يتعارض أحيانًا مع مصالح هذه الدّول و”شركاتها”، لأن الولايات المتحدة قاطرة وقائدة الإمبريالية، ولكن هناك أسباب أخرى، “منطقية”، ومنها إن ما يُسَمّى “السّوق”، أي شركات التكنولوجيا والصناعة والمصارف تعتبر السوق الأمريكية أهم سوق في العالم، ولذلك لا يمكن لأي شركة أو دولة أن تُعارض القرارات الأمريكية، رغم زيادة الرّسُوم الجمركية على دخول السلع إلى السوق الأمريكية، كما تُشِير تحليلات الصحافة الإقتصادية الأوروبية المُخْتَصّة إلى هيمنة فكرة “حَتْمِيّة انتصار أمريكا في الحرب التّجارية”، وهو موقف عقائدي (إيديولوجي) ولكنه مَبْنِيٌّ على أهمية واتساع وضخامة السّوق الأمريكية، التي تَسْمَحُ للولايات المتحدة بفرض شروطها على العالم، مع بعض التحويرات الطفيفة إن لزم الأمر…

أما في الصين، فإن الإندماج في الإقتصاد الرأسمالي العالمي (العَوْلَمة الرأسمالية الليبرالية) يفرض التّواجد في السوق الأمريكية، وبلغت قيمة صادرات الصين نحو أمريكا، قرابة 200% من وارداتها من الولايات المتحدة، مما يَسَّر عملية الضّغْط والإبتزاز الأمريكيين، عبر فَرْض الرسوم المرتفعة، بالإضافة إلى استغلال هيمنة الدولار في المبادلات التجارية والتحويلات المصرفية، وعمدت الولايات المتحدة إلى رَفْعِ قيمة الدولار (بشكل مُصْطَنع، لكن الإرتفاع حقيقي في الأسواق) بهدف إِضْعاف اقتصاد الأسواق المُسماة “ناشئة” مع زيادة أعباء الديون الخارجية للدول، بما فيها دول “الحُلفاء” (مثل تركيا).

تُغَيِّرُ أمريكا تكتيكاتها مع الدول التي لا تفِلُّ الإجراءات الإقتصادية في عزيمة حكوماتها (أو أنظمة الحُكم فيها) فتلْجأ إلى التهديد العسكري، والمحاصرة، لِيَكونَا كفيليْن بردع هذه الدّولة أو تلك، وفق نظرة التّعالي (واحتقار الغَيْر) الأمريكية، ما دام الإنفاق العسكري الأمريكي يفوق إنفاق كافة دول العالم مجتمعة، وما دامت الولايات المتحدة تقود جيوش دول حلف شمال الأطلسي، المتواجد في قواعد بحرية وجوية وبرية على حدود “الخُصُوم” (روسيا والصين بشكل أساسي)، لكن لكل قرار أو حَدَثٍ “تأثيراته الجانبية”، بعضها مُتَوَقّع والبعض الآخر غير مُتَوَقّع، فالسياسة لا تخضع لقواعد الرياضيات أو الفيزياء، والعلوم المسماة “صحيحة”، فقد التّهديدات والإجراءات الأمريكية المُعادية حُكُومَتَيْ الصين وروسيا إلى تعزيز التّعاون بينهما في مجالات الطاقة والإقتصاد والدفاع العسكري واستخدام العملات المحلية وغيرها من مظاهر التّعاون التي اجتذبت دولاً أخرى تتعرّض للْإجراءات التعسفية الأمريكية، مثل إيران وفنزويلا، باتجاه تأسيس جبهة “مقاومة”، تتجاوز أساليب تعاون مجموعة “بريكس”، إلى تأسيس سوق لتداول النفط بالذهب، بدل الدّولار، في “شنغهاي” (المدينة الصناعية والمالية الأولى في الصين)، وهي لبنة من لَبِنات برنامج طويل الأمد تُنَفِّذُه الصّين، بدون إثارة ضَجّة كبيرة، لكنه ليس برنامجًا بديلا لنمط الإنتاج الرأسمالي، بل هو برنامج يهدف استبدل الهيمنة الأمريكية بهيمنة صينية، في إطار النظام الرأسمالي العالمي، مع بعض الإختلافات في الشكل، خصوصًا في البداية.

 

الطريق والحزام“، برنامج طويل المدى

أعلن الرئيس الصيني إن استثمارات الصين في خطة “الحزام والطريق” بلغت سنة 2018 حوالي ستِّين مليار دولارا، فيما بلغ حجم التجارة مع البلدان المُنخرطة في البرنامج نحو خمسة مليارات دولارا، ويقدِّرُ مصرف “مورغان ستانلي” أن تنفق الصين وشركاؤها في مشاريع البنية التحتية، كالطرقات وخطوط السكك الحديدية والموانئ ومحطات توليد وتوزيع الطاقة حوالي 1,3 تريليون دولارا، ضمن خطة “الحزام والطريق”.

 يندرج برنامج “طريق الحرير الجديد” أو “الحزام والطّريق” ضمن الخطوات الصينية المتعددة والمتنوعة، وقد أعلَن عنه الرئيس الصيني – في نُسْخَتِهِ الأولى – سنة 2005، وسَرّعت الصين من خطواتها في إنجاز هذا البرنامج سنة 2013، إثر تواتر الخطوات العدوانية الأمريكية، من تصريحات “هيلاري كلينتون” وزيرة الخارجية آنذاك بأن القرن الواحد والعشرين سيكون قرنًا أمريكيا (وليس صينيا)، إلى قرارات الرئيس “باراك أوباما” سنة 2012 بمحاصرة الصين عبر نقل 60% من القوات العسكرية البحرية الأمريكية إلى المناطق القريبة من الصين، لتيْسِير عملية المُحاصرة التّجارية والخَنْق الإقتصادي، وإنفاق عشرات مليارات الدولارات على توسيع القواعد العسكرية القديمة (في اليابان وكوريا الجنوبية) وإنشاء قواعد عسكرية جديدة ضخمة في شمال أستراليا، وفي ميناء داننغ الفيتنامي…           

تُمَثِّلُ المضائق المائية أهم الطّرقات التجارية للصين، وهي في نفس الوقت أهم نقاط ضعف الاقتصاد الصيني، الذي أصبح عرضة لإغلاق مضيق ملقا من قبل السّفن الحربية الأمريكية، وتعمل الصين على سد هذه الثغرة، بواسطة تعديل خطة “طرق الحرير الجديد”، التي تهدف إلى بناء سكك حديد وطرق وموانئ في أنحاء العالم باستخدام قروض صينية بمليارات الدولارات، وشمل التّعْدِيل ضَمِّ ميناء “غوادار” الباكستاني واستثمار المليارات في شبكة الطاقة الباكستانية (وكانت باكستان حليفًا لأمريكا قبل سنوات، قبل أن تتعكّر العلاقات، وتتحالف أمريكا مع الهند)، وكذلك الموانئ الإيرانية (ميناء شابهار الذي لا يبْعُد كثيرًا عن ميناء “غوادار” الباكستاني)، وإنشاء خطوط أنابيب لنقل الغاز والنفط من روسيا إلى الصين، عبر الحدود المشتركة، وتُعتبر بلدان مثل إيران وباكستان وتركيا ضرورية للخطة الصينية، وكذلك لروسيا، مما جعل هاتين الدولتين (الصين وروسيا) تنسجان شبكة من العلاقات الإقتصادية، وتبادل السلع خارج هيمنة الدولار، خصوصًا في منطقة آسيا الوُسْطى، كما تحرص الصين وروسيا على نَسْجِ علاقات وطيدة مع بلدان أوروبا، رغم اصطفافها الحالي وراء الولايات المتحدة، وتأمل الصين، من خلال خطوات صغيرة وثابتة ومتواصلة، مُراكمة نفوذها في العالم، وبلوغ أهدافها، ليُصْبِح اقتصادها الأول في العالم، بحلول 2050، لأن الإقتصاد الصيني يعتمد على الإنتاج والإقتصاد الحقيقي، بينما يعتمد الإقتصاد الأمريكي على هيمنة الدولار (في المعاملات التجارية والمالية العالمية)، وعلى شراء السِّلع الرّخيصة المصنوعة في الخارج، للمحافظة على مستوى معيشي مرتفع للمواطنين الأمريكيين، ليُصْبح هذا المستوى مَدْعُومًا من بقية سُكان ودول العالم، كما تستخدم هيمنة الدولار لزيادة الإنفاق العسكري، وإجْبار حلفاء “حلف شمال الأطلسي” على تمويل الصناعات العسكرية الأمريكية، وأصْبَحت ميزانية الولايات المتحدة وعجزها وديونها الخيالية عالة على بقية العالم… لذلك يُصْبِح تحجيم دور الدولار، ووقْف تدفّق الأموال والإستثمارات نحو أمريكا، هدفًا استراتيجيًّا قاتلاً وقادرًا على تقويض هيمنة الإمبريالية الأمريكية على العالم، كما تعمد الولايات المتحدة إلى خفض الضرائب على رأس المال والشركات، مع رفع نسبة الفائدة، ما يزيد من التدفقات المالية نحو أمريكا، وبالتالي رَفْعَ قيمة الدولار، ليضطر الحُلفاء والمُنافسون والخُصُوم، على حد السّواء، خفض قيمة عملاتهم، أي خفض قيمة السلع التي تنتجها هذه البلدان، بهدف تسهيل عملية تصديرها، ويكون عمال هذه البلدان من أكبر وأول المتضرِّرين من هذه العملية. أما على مُسْتَوى الدول، فترتفع قيمة ديون الدول التي استدانت بالدولار سواء من صندوق النقد الدولي، أو من مؤسسات مالية أخرى، في الأسواق العالمية، مما يضاعف ضَرَرَ مواطني هذه البلدان، إذ تنخفض القيمة الحقيقية للرواتب وللدّخل، مع انخفاض قيمة العُمْلَة المَحَلِّية ومع ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم، واتخاذ الحكومات قرارات التقشف والخصخصة وغيرها من شروط صندوق النقد الدولي…

 

عراقيل ونقاط ضعف

يُمثل استيراد الطاقة من الخارج، إحدى نقاط الضّعف الأخرى للإقتصاد الصّيني، فالصين أكبر مُستورد للنفط والغاز في العالم، مما يجعل اقتصادها مُرْتَهِنٌ لواردات النفط وبتقلبات الأسعار، وتعمل الصين حاليا على تطوير الطاقات البديلة، وأصبحت أكبر مُصَنّع عالمي للألواح الشمسية، واتهمتها أوروبا وأمريكا بإغراق أسواقها، فقررت منذ عدة سنوات زيادة الرّسُوم الجمركية على الألواح الشمسية الصينية، كما أعلنت الصين خفض التلوث في المدن، وأصبحت أكبر بلد يصنع السيارات الكهربائية، مما يجعلها تُصِيب هدفَيْن، الأول خفض التلوث، والثاني خفض وارداتها من الطاقة الأحفورية، كما أصبحت الصين تُنافس الشركات الأمريكية العريقة في مجالات التقنية وصناعة الحواسيب وأشباه المواصلات، والهواتف المسمّاة “ذكية”، وصناعة الطائرات، غير أنها لا تزال تحتاج التقنيات “الغربية” في عدد من المجالات، وتُحاول الولايات المتحدة وضع العراقيل لتأجيل حصول الصين على بعض التقنيات…

تَصْطَفُّ معظم حكومات دول الإتحاد الأوروبي وراء موقف الولايات المتحدة بشأن الصين، خلافًا للموقف من روسيا، حيث توجد اختلافات بين بلدان الإتحاد الأوروبي، وبشأن الصين أوردت وكالة الصحافة الفرنسية “فرنس برس” (أ.ف.ب) يوم 26 أيلول/سبتمبر 2018 نبأ إعلان الإتحاد الأوروبي  “إطلاق استراتيجية مُنافسة للصين في قارة آسيا”، تحت عنوان “استراتيجية آسيا للتّواصل”، وسيُعْلن عن تفاصيلها خلال لقاء أوروبا وآسيا (اكتوبر 2018)، وهي خطّة بديلة لمشاريع البُنْيَة التحتية التي تُموّلها الصين، ضمن برنامجها “الحزام والطريق”، عبر قُرُوض مُيَسّرَة، وورد في إعلان الإتحاد الأوروبي إن الخطة الأوروبية “تهدف إلى تحسين العلاقات في مجالات النقل والتكنولوجيا والطاقة، وتعزيز المعايير الخاصة بالبيئة والعمل، وخلق وظائف، دون أن تُثْقِلَ كاهل الدول المستفيدة بأي ديون لا تستطيع سدادها” (هل تَحَوّل رأس المال الأوروبي إلى منظّمة خَيْرِيّة؟)، ولم يتطرق البيان الأوروبي ولا تصريح المسؤولة عن العلاقات الخارجية إلى مسألة تمويل هذا المشروع الأوروبي.

انطلق المشروع الأوروبي من النّقد الذي وَجّهَتْهُ بعض الأطراف إلى الصين التي ستجعل الدول النامية المنخرطة في “الحزام والطريق” تُعاني من وزن الدّيون الصينية، مثلما تُعاني اليوم من دُيُون صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وقد يكون أساس النقد سليمًا، لكن لا يمكن لأوروبا أن تدّعي النقاء والعِفّة، وتُنْسي العالم، ماضيها الإستعماري وحاضرها الإمبريالي، ومساهمتها الفعّالة في النظام الرأسمالي الليبرالي العالمي، بما في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ولا يُمكن نسيان أو تجاهل مشاركة دول أوروبا في كافة الحُرُوب العُدوانية التي تقودها أمريكا أو حلف شمال الأطلسي، مع حروب أخرى تشنها فرنسا أو غيرها على شعوب العالم…

 

المخاطر المُحْتَمَلَة للمشاريع الصينية على شعوب البلدان الفقيرة

بلغ عدد البلدان التي شملها برنامج “الحزام والطريق” نحو 76 بلداً، من إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، مع عدد قليل من بلدان أوروبا الشرقية والوُسْطى، وشملت المشاريع الموانئ وخطوط أنابيب نقل النفط وطُرقات لتيْسِير المبادلات التجارية خطوط البترول، ومن أهم المشاريع التي أُنْجِزت أو بصدد الإنجاز ميناء تجاري عميق في “ميانمار” (بورما سابِقًا)، وخطوط إمداد الكهرباء في جزر “مالديف”، وتمكنت الصين عبر هذه الخطة من تنشيط التجارة مع مجموعة من بلدان آسيا من الفلبين إلى إيران، عبر البحر أو السكة الحديدية، ولكن بعض مجموعات المعارضة في باكستان والفلبين أعربت عن تخوفاتها من تحويل الموانئ العميقة إلى محطات عبور السفن الحربية الصينية بعد عقديْن أو ثلاثة، حيث تعمل الصين حاليا على سد الفجوة التي تفصلها عن أمريكا بشأن القوة العسكرية، وتعمل على تصنيع السفن الحربية والغواصات وحاملات الطائرات، التي ستحتاج إلى قواعد عسكرية وإلى موانئ للصيانة أو للعبور…

ذكرنا سابقًا أن لا الصين ولا روسيا تَدّعي إرساء نظام بديل للرأسمالية، بل تُمَثّل مشاريعهما – الداخلية أو الخارجية – صنْفًا أو نَوْعًا من الإستثمار، من داخل منطق المنظومة الرأسمالية نفسها، وتمثل الإستثمارات الصينية في إفريقيا نموذجًا لهذا الشكل الجديد من الهيمنة “النّاعمة” على ثروات الشعوب، وكانت دولة “سريلانكا” قد عجزت سنة 2017 عن تسديد قرض صيني لمشروع بقيمة 1,4 مليار دولارا، فاضطرت إلى منح الصين عقد إيجار ميناء استراتيجي، لمدّة 99 سنة، وأعلن “مهاتير محمد” بعد فوزه في انتخابات ماليزيا تعليق إنجاز ثلاثة مشاريع تُمولها الصين، بسبب الشروط المُجْحِفَة، وفق رئيس الحكومة، ومن بينها مشروع بناء سكة حديدية بقيمة عشرين مليار دولارا، ومشروع بناء خط أنابيب نقل النفط…

أما في ميناء “مومباسا” (كينيا) فإن هيئة الطرق والجسور الصينية، تُدير الميناء وتُشْرِف على تشغيل خط السكة الحديدية الذي ينقل السلع إلى الميناء، خلال السنوات العشر المقبلة، كما تُشرف الشركة الصينية على عمل أكثر من ثلاثين ألف عامل كيني، إضافة إلى الموظفين الصينيين، ويعتبر الميناء شريانًا حيويا للبلاد وللبلدان المجاورة، خصوصًا بعد تمويل الصين (بداية من 2011) أشغال ترميم خط السكة الحديدية الرابط بين العاصمة “نيروبي” وميناء “مومباسا”، بنسبة 90% من إجمالي قيمة المشروع ( 3,8 مليارات دولارا)، مقابل إشراف الصين على خط السكة الحديدية وعلى الميناء… أدّت الأشغال إلى إلحاق الضرر بالسّكّان وبصغار التّجار الذين أُبْعِدُوا، كما أدت إلى أضرار بيئية، لأن خط السكة الحديدية يمر عبر جُسُور تشق محميات طبيعية…

يقع ميناء “غوادار” جنوب غرب باكستان، واتفقت الحكومة العسكرية التي كان يقودها “برويز مشرف”  مع الصين سنة 2013، لتُنَفِّذ شركات صينية أشغال تعميق مياه الميناء، ومشاريع تطوير المدينة وخصوصًا مخطط المناطق المحيطة بالميناء، في إطار خطة “الحزام والطريق”، ومسار البضائع الموسومة “صنع في الصين”، ويتضمن المُخطّط مشاريع الشوارع الواسعة والطرقات السريعة المُحيطة بالمدينة، ومحطة توليد الطاقة، ومطار، ومنطقة اقتصادية خاصة، مما أدّى إلى تهديم الأحياء القديمة، وإلى إبْعاد العديد من السكان من المناطق التي شملتها الأشغال، بالإضافة إلى تكثيف حضور الجيش وقوات الأمن والتّضْيِيق على حركة المواطنين، ويرتبط الميناء بميناء طبيعي في الجنوب، وتُقدّر تكلفة المشروع، الذي يضم كذلك مشاريع البنية التحتية والطاقة وغيرها، بنحو ستين مليار دولارا، وتعتبره الصين بمثابة “الرواق الاقتصادي بين الصين وباكستان”، بطول حوالي ثلاثة آلاف كيلومتر، ويُشْرِفُ نحو 150 صيني على إنجاز المشروع الذي تحاول الولايات المتحدة إجهاضه، للحُؤُول دون تحول باكستان من المظلة الأمريكية إلى المظلة الصينية، وفق “تيد يوهو”، عضو الكونغرس الأمريكي.

   

بدائل في الشكل، دون الجوهر

عمدت الصين وروسيا إلى خلق بدائل لصندوق النقد الدولي، عبر التعامل بالعملات المحلية، وعبر مقايضة السّلع، بالإضافة إلى إنشاء مؤسسات مصرفية إقليمية، مثل مؤسسة “بريكس” وإنشاء الصين مؤسسة مالية آسيوية لتمويل الإنفاق على البُنْيَة التّحتية، وهي خطط طويلة المدى، خلافًا للخطط الأمريكية قصيرة المدى… تتمتع الصين باحتياطي مالي ضخم، تتحكم به الدولة، وتملك الدّولة معظم الشركات الكبرى والمصارف، وتوجّه استثماراتها وبرامجها وِفْقَ مصلحة الدولة، وليس وفق مصلحة أصحاب الأسهم، كما في الدول الرأسمالية التّقليدية، وتمكنت الصين بفضل قُوة الإستثمارات من التّمدّد في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، ضمن قواعد النظام الاقتصادي العالمي، لكن بوسائل “سلمية” (أو غير عسكرية) لحد الآن، وقد لا تظهر السَّلْبِيّات قبل عقدين أو ثلاثة عقود…

ابتكرت الصين طُرُقًا جديدة، لم يَدْرُسْها طلبة مدارس الإتصالات أو مدارس التجارة (مَرْكتِنْغْ) في لندن وباريس ونيويورك، ومن بينها إنشاء مدينة “بيوو” التي أصبحت (بداية من سنة 2014) رَمْزًا لشعار وهدف رسمته الحكومة الصينية تحت إسم “صُنِع في الصين”. تستقبل مدينة “بيوو” تُجارًا ورجال أعمال من كل بلدان العالم، وهي مدينة تقع في جبال إقليم “تشكيانغ” على بعد حوالي 200 كيلومتر جنوب غربي شنغهاي، وازدهرت بفضل برنامج “صُنِعَ في الصين”، لتتسع لحوالي 1,2 مليون نسمة، وهي جزء من خطة “طريق الحرير الجديد”، واجتذبت حوالي 13 ألف تاجر، من أنحاء العالم، بهدف الإستقرار وممارسة نشاطهم التجاري، وخصوصا تصدير السلع الصينية نحو بلدانهم، والبلدان الأخرى، لترويج 1,8 مليون نوع من البضائع من الإنتاج الصيني.

أصبحت قطارات شحن السّلع تنطلق من مدينة “بيوو” منذ 2014 في رحلة تمتد على ثمانية آلاف ميل، باتجاه كازاخستان وروسيا، وشرق أوروبا وحتى مدريد، ثم توسّعت الرحلات إلى طهران في آسيا وإلى لندن وأمستردام في أوروبا الغربية، ثم أصبحت القطارات تحمل المُسافرين أيضًا، بعد التّوصّل إلى خفض زمن الرحلات بنسبة 30% تقريبًا، وارتفعت إيرادات القطارات الخارجة من “بيوو” والتابعة ل”شركة قطارات اكسبريس” الصينية، في الأشهر الأربعة الأولى من العام 2018 بنسبة 79% عن نفس الفترة من سنة 2017، وبلغت قيمة إيرادات هذه الرحلات ما يعادل 268 مليون دولار،

تهدف الصين من خلال خطة “الحزام والطريق” ربط الصين بمختلف محطّات تسويق السّلع الصينية، وتمكنت من إقامة محطات في آسيا وإفريقيا، وبدأت تغْزُو أمريكا الجنوبية، وفق خطة تتمثل في الإستثمار في البنية التحتية (من خلال قُرُوض) ثم الإشراف على إدارة هذه المُنْشآت التي أُعِدّت لترويج البضائع الصينية، أولاً وقبل كل شيْءٍ، وهي قُروض أقل إجحافًا وأَيْسر شُرُوطًا من قُرُوض صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، لكنها قُرُوض تخضع لقمنطق وقوانين رأس المال “المُعَوْلَم”، ولم تتمكن الصين من إنشاء مَحطّات في أوروبا، لأن الإتحاد الأوروبي والمصرف الأوروبي للإنشاء يتكفلان بإقراض الدول التي تحتاج استثمارات في البنية التحتية أو تحويل الزراعة التقليدية إلى زراعة رأسمالية على مساحات شاسعة (كما حدث في إسبانيا وبولندا وبلغاريا…)، باستثناء اليونان، حيث استغلّت شركة “كوسكو” -الحكومية الصينية للشحن- أزمة دُيُون اليونان، وشروط صندوق النقد الدولي والمصرف المركزي الأوروبي، التي اضطرت حكومة البلاد إلى خصخصة البنية التحتية والمرافق، فباعت الحكومة مطار أثينا القديم، وأَوْكَلَتِ الإشراف الكامل على ميناء “بيريوس” التاريخي (مركز إصلاح السُّفُن منذ 2500 سنة) إلى شركة “كوسكو”، وأُبْرِمت الصفقة على دُفْعَتَيْن (سنة 2009 ثم سنة 2016) لتتمكّن الصين من السيطرة تدريجيا على أحد أهم وأقدم الموانئ البحرية في أوروبا الجنوبية، والذي كان مُنْطَلَقًا للقوة البحرية اليونانية في التاريخ، وحصلت شركة “كوسكو” على 67% من أسهم هيئة الميناء مقابل 368,5 مليون يورو أو ما يعادل 430 مليون دولارا، وهو استثمار “رخيص”، يقل بكثير عن الإستثمارات الصينية في موانئ آسيا وإفريقيا، ومنذ إشراف الشركة الصينية على عَمل الميناء، ارتفعت مداخيله الصافية بنسبة 69%، إلى 11,3 مليون يورو، وانتقل ترتيب ميناء “بيريوس” من المرتبة 16 إلى المرتبة السابعة، ضمن أهم موانئ الحاويات الأوروبية، وزاد حجم الحركة في المناطق المحيطة بالميناء، وتُخطّط الشركة الصينية لإنجاز مشاريع تحويل الميناء إلى محطة للسلع الصينية، وربط ميناء “بيروس” لنقل هذه السلع وغيرها بواسطة القطار إلى منطقة وسط أوروبا (البلقان)…

لا تتطرق وسائل الإعلام إلى وضع العاملين المَحَلِّيِّين في مثل هذه المشاريع الصينية الضخمة، وفي ميناء “بيروس”، أعلن الأمين العام لعمال الميناء، إن انتقال ملكية الميناء من الدولة إلى شركة صينية أثَّرَ سَلْبًا على ظروف العمل والرواتب، وعلى المجتمع المحلي، وعلى العلاقات بين الأُجراء والمُشَغِّل، لأن شركة “كوسكو” تُمثّل إمبراطورية المال الصينية، ولها طريقتها في العمل وفي التّعامل مع الأُجَراء ومع المُحِيط، وهي طريقة تتعارض مع الحقوق العُمّالية والحقوق النقابية…

في سريلانكا، حصلت حكومة سريلانكا على قُروض من “مصرف الصادرات والواردات الصينية”، لتمويل المشاريع في ميناء “هامبانتوتا”، ولكن المشروع تَعَثّر ولم ينطلق في أوانه، بينما تسدد الدولة القُروض، إلى أن تعكّر الوضع سنة 2015 حيث أصبحت الدّولة تُخَصِّصُ 90% من إيراداتها لتغطية الديون، واضطرت الحكومة اللاحقة لها لتسليم إدارة الميناء للصين، لمدة 99 سنة، مقابل 1,1 مليار دولارا، وأصبحت الشركة الحكومية الصينية التي تُدير الميناء (ميرشانتس غروب) تملك حوالي 70% من قيمة الميناء، وتفوق عائداتها إجمالي الإيرادات الحكومية، ولها مشاريع أخرى “لتَطْوير المنطقة”، من بينها الإستيلاء على المزارع القريبة، وتهجير السكان، وهدم المساكن، لإنشاء منطقة صناعية، تُديرها لمصلحة اقتصاد الصين…  

 

خاتمة

كان الإتحاد السوفييتي والصين يمثلان تيارات اشتراكية، دعمت حركات التحرر من الإستعمار المباشر، وحركات التحرر من التبعية للإمبريالية مثل حركة عدم الإنحياز ومجموعة ال77 وغيرها من تَجمّعات الدول المُسْتقِلّة حديثًا أو المُسمّاة “نامية”، وتَغَيّر الوضع واندمجت الصين تمامًا في الإقتصاد الرأسمالي العالمي، مع محافظة الدّولة على الإشراف والتخطيط والإدارة، ولا يُغَيِّرُ إشراف الدّولة شيئًا من وضع العُمّال الذين تُبالغ الشركات في استغلالهم داخل الصين وخارجها، كما لا يُحسِّنُ إشراف الدولة من وضع 200 مليون من فُقراء الفلاحين الذين نزحوا من أراضيهم وقُراهم (التي نَهَبَها أعيان الحزب والدّولة) نحو المناطق الصناعية في المدن، مع حرمانهم من حق السكن والصحة والتعليم لأبنائهم، ووجب تسديد الرّشوة مقابل كل “خدمة” يحتاجونها.

انتقلت الصين، عبر شركات الدولة، منذ حوالي عقْدَيْن إلى “غَزْو” قارة إفريقيا ونهب ثرواتها وبيع إنتاجها الرديء والرخيص الذي قضى على الصناعات المحلية وعلى الحرف والمِهن التقليدية في بلدان القارة، إلى أن أصبحت تُشارك في عسْكرة الدبلوماسية عبر إرسال جنود ضمن “قوات حفظ السلام”، وبدأت مؤخرًا في إنشاء قواعد عسكرية، بدأتها في جيبوتي… أما فيما يعنينا بشكل خاص كعرب، فإن العلاقات الأمنية والعسكرية والإقتصادية مع الكيان الصهيوني متطورة جدا، وتساهم الصين مباشرة في سياسة تهجير فلسطينيي النقب، بإنشاء خط سكة حديدية يمر عبر أراضيهم بهدف رَبْط مينائي “أم الرشراش” (إيلات) وحيفا، وغيرها من المشاريع الكثيرة، وفي هذا الباب فإن لروسيا علاقات متميزة أيضًا مع الكيان الصهيوني.     

خلافًا للصين (التي بقي حزبها الحاكم والأَوْحد يُصِر على إطلاق صفة “الشيوعية” على نفسه) أعلنت روسيا منذ 1991 الطلاق البائن مع الأفكار التي تَحْمِلُ أي أثر للإشتراكية والشيوعية، ولا تُغَلِّف روسيا علاقاتها بشعرات “المساعدة” أو الدعم، بل تُعْلِن بوضوح أنها علاقات مبنية على المصالح، وقد تلتقي هذه المصالح مع أهداف آنية أو بعيدة لدول أخرى، لمجابهة غطرسة الإمبريالية الأمريكية مثلاً…

وجب التنويه إن عدو الشعوب الذي يلجأ إلى عمليات القصف والإعتداء العسكري والإحتلال والإبتزاز، يتمَثّل حاليا في الإمبريالية الأمريكية وحلف شمال الأطلسي، ولا تزال روسيا والصين في حالة دفاع، وتحاول تَجَنُّبَ الصدام المباشر مع الولايات المتحدة، التي تُحاصر البَلَدْين، عسكريا واقتصاديا ودبلوماسيا، لذلك قد يُخْطِئُ من يُصَنِّف درجة خطورة الإمبريالية الأمريكية وحلفائها في الإتحاد الأوروبي وخارجه (أستراليا وكندا…) في نفس درجة خطورة الصين وروسيا، على شعوب العالم، وعلى شعوبنا العربية والقضية الفلسطينية بشكل أساسي… نُذَكِّرُ إن كانت هناك ضرورة للتذكير، إن واجب المقاومة والنضال والتحرير هو واجبنا لوحدنا أولا وقبل كل شيء، ولا يتجاوز دور الغَيْر من أصدقاء وحلفاء، مهام الدّعم والمُساندة، ليكون من حقنا (ومن واجبنا) رفض الدّعم المشروط…      

 *****

يُرجى مراجعة عدد من التفاصيل الإضافية في بحث باللغة الإنغليزية نُشِر في أواخر شهر آب/أغسطس 2018، بعنوان  Asymmetric Financial War and Radical US Leverage – What Will It Bring?, Strategic Culture, August/ 28 2018  – أو ما يُمكن ترجمته “الحرب المالية غير المتكافئة، والرافعة الراديكالية للولايات المتحدة” (مقتطف من “ستراتجيك كلتشور” أو “الثقافة الاستراتيجية” 28/08/2018 )

*****

مصدر البيانات الواردة من وكالة “شينخوا” (الصين الجديدة) + موقع صحيفة “يومية الشعب” الصينية (النُّسْخة العربية) + وكالة “سبوتنيك” + أ.ف.ب + معهد “كلينغيندايل” (هولندا) – مُتابعات المواقع الإلكترونية للمصادر المذكورة (مع الأرشيف) من حزيران إلى أيلول 2018  

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.