“كنعان” تنشر كتاب “بين حل الدولتين وحل الدولة الواحدة: دراسة نقدية”، تأليف: محمود فنون (حلقة 2)

في حلقة اليوم: سقوط حل الدولتين لشعبين، “البدء” وسلامة كيلة

القسم الأول

سقوط حل الدولتين لشعبين

“البدء” وسلامة كيلة

1- “في البدء كانت الكلمة”

2 – “وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة..” وروح سلامة كيلة يرف على وجه المبادرات.

3 – وقال سلامة: لتكن وثيقة يوقع عليها الفلسطينيون لصالح اليهود.

4 – ورأى سلامة أن هذا حسن وسمّاها وثيقة تأسيسية

وقال: لتمتلئ الأوراق بالتواقيع وتنشر في الصحف.

وكي يؤمن بها الناس قال: “إنها كانت من “البدء” (اقتباس مع تحوير من العهد الجديد)

 من هو سلامة كيلة؟

 هو فلسطيني يتكفل بمهمة شبيهة بالمهمة التي تكفل بها أنصار فتح وأنصار الجبهة الديموقراطية والتنظيم الشيوعي الفلسطيني في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لإقناع الشعب الفلسطيني بشعار “إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع وحق العودة وتقرير المصير” الذي شغل حيزا واسعا من النقاش.

هذا الشعار الذي تفاوضت عليه الفصائل مع نفسها وطرحته على نفسها وأخذت تدافع عنه أمام الجماهير الفلسطينية وتشرح مزاياه الإيجابية حين تحقيقه…!!!

لم يكن هذا هروبا إلى الأمام ولا من أجل تسهيل المهمة بل كان ارتدادا ونكوصا.

قبل دورة المجلس الوطني اتضحت التوجهات من خلال النقاش الدائر في حينه وهذا نموذج من النقاش أقتطفه من كراستي المنشورة في صحيفة الحوار المتمدن:

 “وكرر صلاح خلف موضحا “استعداد الشعب الفلسطيني لإقامة سلطته الوطنية على أية أرض ينحسر عنها الاحتلال…ولكن لا يجب أن تكون هذه السلطة على حساب استمرارية الثورة فلا اعتراف ولا صلح مع إسرائيل ولا حدود آمنة معها…”

“وأكد عرفات …استمرار النضال الفلسطيني بعد بناء السلطة الوطنية لتحرير باقي الارض الفلسطينية.”
وطرحت الجبهة الديموقراطية “ضرورة أن يعلن الشعب الفلسطيني أن مطالبه في هذه المرحلة هي: أن يعترف العالم بحقوقه المشروعة والوطنية في فلسطين وبحق تقرير المصير على أرضه كسائر الشعوب أي حقه في الاستقلال الوطني وبناء كيانه المستقل على أية أرض فلسطينية يتم تحريرها ..وأن هذا أقصى ما يمكن أن تحققه الثورة الفلسطينية” (نفهم هنا أن كلمة أرضه أخذت تعني ليس كامل الارض الفلسطينية، بل فقط أي جزء يتم الحصول عليه بالتسويات) …ومدافعا عن البرنامج، قال ياسر عبد ربه “إن إقامة السلطة الوطنية لا تنهي القضية الفلسطينية بل تنقلها إلى موقع أكثر تقدما …لانتزاع بقية الحقوق الفلسطينية في المدى اللاحق”.

“أما الجبهة الشعبية فقد أكدت أن أية سلطة فلسطينية تقام على أرض فلسطينية نتيجة التسوية السياسية القائمة على قراري مجلس الامن 242 و338 لا يمكن إلا أن تكون سلطة رجعية ومستسلمة …واستبعدت انسحاب اسرائيل من الضفة الغربية كهدف منظور”، تصريحات منشورة في كتاب مهدي عبد الهادي– المسألة الفلسطينية ومشاريع الحاول.(محمود فنون، أزمة القيادة الفلسطينية، الحوار المتمدن).

كانت هذه صيغاً تمهيدية للانتقال الجديد تستهدف تمرير الطرح وتجنيد المريدين للدفاع عن السياسة الجديدة التي تمت بلورتها لاحقا كما سنرى في مكان آخر. حيث تغيرت الصيغة من إقامة سلطة الشعب على أي أرض يمكن تحريرها إلى ما عرف بالبرنامج الوطني المتمثل بالعودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ثم تلتها صيغة دولتين للشعبين.

وفي المجلس الوطني خاضت الفصائل المؤيدة للتنازلات نضالا مريرا في داخلها وبين أنصارها ومؤيديها من أجل إقرار الصيغة المناسبة في دورة المجلس الوطني الثانية عشرة. وعندما أقر المجلس الصيغة المطلوبة المذكورة أعلاه شعر ممثلو الفصائل المؤيدة أنهم انتصروا (!)، ليس على العدو لأن الذي انتصر في هذه الحالة هو العدو.

إذن هم انتصروا على الرفض وادعوا وهم يخادعون أنفسهم أن أبواب جنة أمريكا وإسرائيل قد فتحت لهم. وكانت الصيغ الجديدة تطرح بشكل ناعم لتجنب الهزة الناتجة عن الإنتقال لصيغ كانت الفصائل جميعها تعارضها في كل أدبياتها، وجاء في قرارات المجلس للدورة الثانية عشرة:

 ” ….ومن الايمان باستحالة إقامة سلام دائم وعادل في المنطقة (أي من وجهة نظرنا- م. ف.) دون استعادة شعبنا لكامل حقوقه الوطنية وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير مصيره على كامل ترابه الوطني، (حتى الآن يبدو أنه لم يتغير شيء وأن كلمة كامل ترابه الوطني تعني كل فلسطين بحدودها الانتدابية- م.ف.). وعلى ضوء دراسة الظروف السياسية التي استجدت في الفترة ما بين الدورة السابقة والحالية للمجلس يقرر المجلس ما يأتي:
“1- تأكيد موقف منظمة التحرير السابق من القرار 242 الذي يطمس الحقوق الوطنية لشعبنا…ولذا يرفض التعامل مع هذا القرار…”(مع أن قبوله شرط للمشاركة في التسوية التي تنص كل القرارات والتصريحات أن هذه التسوية على أساسه وتنفيذ له- م.ف.)

” 2- تناضل منظمة التحرير بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة (على) أي جزء من الارض الفلسطينية يتم تحريرها، وهذا يستدعي إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله” (قرارات الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني)

وكانت هذه التعابير كما جاء على لسان خالد الحسن “… لقد تمت صياغة الكلام بحذر شديد ولا تنسَ أننا نبيعه لشعبنا” في مقابلة معه مع صحفي إسرائيلي “وولتر روبي الصهيوني، جيروزالم بوست 18-11-1988”

كانت الفصائل الموافقة تبرهن لمؤيديها ومريديها بأنها قدمت الصرعة التي تفوقت فيها على نفسها وعلى غيرها وأنها اخترعت العجلة من جديد وأن هذا الكشف يدفعها خطوات إلى الأمام وذلك عبر نقاش مستمر.

والآن، وبعد 45 سنة، ثبت بالقول وبالفعل أن هذه الشطحة هي حمل وهمي مصحوب بمقدار كبير من سوء الصحة.

نقاش انقسم الناس فيه وظهر ما يعرف بجبهة الرفض الفلسطينية والعربية.

تولت جبهة القبول الدفاع عن قرار حل الدولة المستقلة والدولتين وتسويغ قبوله وتولت جبهة الرفض النقاش المضاد- حوار ذاتي لا أكثر ولا أقل، ولكن جبهة الرفض كانت تدافع عن الوطن وثقافة الجمهور.

لم يكن أمر الدولة الفلسطينية المستقلة مطروحا  كتسوية ممكنة من قبل إسرائيل المتحكمة في رقبة الأرض، كتسوية ممكنة بينها وبين القيادة الفلسطينية، ولم يتعهد أحد بإحداث تسوية تضمن مثل هذا الشعار. كان بمثابة شعار وتعبير عن حسن النية وتعبير عن سياسة “معتدلة” في الصراع العربي الإسرائيلي آنذاك ومن أجل إيجاد موطئ قدم في قطار التسوية الذي انطلق منذ تلك الفترة ما بعد حرب أكتوبر بقيادة السادات كأداة من أدوات خدمة المشروع الصهيوني.

كان نقاشاً عبّر عن نفسه بالكتابة والمقالات والنقاشات والطرح والرد واستهدف فيه طابور القبول “طابور التسوية” بأن يقتنع الشعب الفلسطيني بصوابية خياره وكذلك بمحاسن هذا الخيار. بل إن الخطاب كان موجّهاً أصلا للداخل الفلسطيني وهذا ما دعا له إيلان بابيه المؤرخ الإسرائيلي الجديد في مرات عديدة. إنه لم يكن موجها للقيادة الإسرائيلية ولا الأمريكية.

وفي ما يخص القيادة الأمريكية والإسرائيلية، كان هذا الخطاب بمثابة إعلان هوية جديدة أمامهم وموقف جديد يعبر عن استعداد طارحيه للطراوة والمرونة في الموقف من إسرائيل والاعتراف بحقها في البقاء على الأرض الفلسطينية. وبالمناسبة، هذا حال كل مبادرة طرحها فلسطينيون أو عرب، رسميا أو ذاتيا. هذه المبادرات تقول لأمريكا “نحن نحمل هذه الهوية اليوم وقد غادرنا وبشكل نهائي المواقف الفلسطينية التي ثبتها الميثاق الوطني الفلسطيني والتي أعلنتها مواقف وبرامج الفصائل الفلسطينية لتحرير فلسطين.”

لقد نجح العدو في اختراق المواقف الفلسطينية السائدة تحت عنوان أنها “متطرفة” وبالتالي ومن أجل التخلص من صفة التطرف، وتساوقا مع مواقف الدول العربية الرجعية، وتعبيرا عن العجز، اتخذ الطارحون مبادرات تقر لإسرائيل بالوجود وبحقها في الاستيطان كعربون حسن نية لا أكثر، وإعلان هوية وموقف جديد لا أكثر.

إذن كانت ارتدادا.

إن تجربة العقود الماضية كلها قد أثبتت بالملموس أن الموقف الأمريكي والإسرائيلي لم يتغير ولم تتم النظرة بإيجابية للتغير العميق الذي طرأ على مواقف طارحي المبادرات سوى ما كانت تكتبه الصحافة الأجنبية عن اعتدال ما ومطالبة برفع وتيرة الإعتدال درجة أخرى، إلى أن وصل الموقف إلى إعلان تقادم الميثاق الوطني الفلسطيني على لسان عرفات نفسه  في خطابه أمام الأمم المتحدة في سويسراعام 1988م، وأن الميثاق الوطني الفلسطيني (كادوك- أي قديم/عتيق/بالي) وكأنه ينبذ عاراً ما.

ثم الإقرار بشطب كل البنود التي تتعارض مع حق إسرائيل في الوجود كما جاء في رسالة عرفات لرابين في 9 أيلول 1993م: “تؤكد منظمة التحرير الفلسطينية أن الفقرات الواردة في الميثاق الفلسطيني والتي تنفي حق إسرائيل في الوجود، والبنود الواردة في الميثاق والتي تتعارض مع الالتزامات الواردة في هذه الرسالة هي اعتبارا من الآن غير موضع التنفيذ ولم تعد سارية المفعول. وبالتالي، منظمة التحرير الفلسطينية تتعهد برفع التعديلات الضرورية في الميثاق الوطني الى المجلس الوطني الفلسطيني للمصادقة الرسمية عليها.” (صحيفة الركن الأخضر في 16 /11/2007م)

 كانت هذه الرسالة بناء على طلب العرّابين وتتويجا للتوغل في سياسة ومناهج اتفاقات أوسلو وما تلاها، ودون إحداث أي نقلة نوعية في المواقف والسياسات الإسرائيلية والأمريكية تجاه حقوق الشعب الفلسطيني سياسيا وجغرافيا، وحتى دون أن تكف إسرائيل عن قضم الأراضي وبشكل مضاعف وبناء المستوطنات والتنكيل بالشعب الفلسطيني بكافة  طبقاته الإجتماعية وأطيافه السياسية.

لقد أضاعوا المواقف وأضاعوا آليات النضال وساهموا ويساهمون في حماية الأمن الاستيطاني في فلسطين، وتحت شعار الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.

قالوا في البداية أن هذا الخيار “يؤمّن دولة للفلسطينيين بعد أن لم يكن لديهم دولة”، وأنه خيار يؤمن لهم أرضا ينطلقون منها لتحرير باقي فلسطين، وأن هذا الخيار هو مجرد محطة على طريق تحرير ما تبقى من فلسطين ….”، كما جاء في أدبيات فصائل التسوية.

هذا، علما أنهم دافعوا عن أوسلو بمبرر نقل القيادة الفلسطينية للداخل من أجل قيادة النضال من الداخل، ولكن محمود عباس رئيس سلطة الحكم الذاتي صرّح في مرات ومناسبات عديدة، بأنه لا يمكنه الخروج من بيته دون إذن من الاحتلال!

بينما كان تيار الرفض يفند بحق هذه الادعاءات على أنها ليست أكثر من أوهام وأن التحرير لا يأتي إلا بالكفاح، وأن طرح التسويات ليس أكثر من تنازل مسبق عن فلسطين المحتلة عام 1948م دون الحصول على أي شبر من الضفة والقطاع، وخاصة أن الناطقين الإسرائيليين كانوا يعبرون عن رفضهم لمجرد التعاطي مع المنظمة ورفض أي تفاوض معها ورفضهم التنازل عن أي شبر من فلسطين، ويطرحون مشاريعهم الخاصة بهم (مشروع ألون، غاليلي.. الخ).

ينص مشروع آلون الأساسي في تموز 1967م على ما يلي :تصرّ (إسرائيل) على أن حدودها الشرقية يجب أن تكون نهر الأردن، وخطاً يقطع البحر الميت بكل طوله، في حين تبقى حدود الانتداب، على طول وادي عربة كما كانت قبل “حرب الأيام الستة” (مؤسسة الدراسات الفلسطينية نفلا عن الشؤون الخارجية في أوكتوبر عام 1970م  Yiagal Allon: Israel; The case of the defensible borders, Foreign Affairs, October 1976)

تمثل هذه المشاريع  ما تريده إسرائيل بعد أن أقرت ونفذت، وتغلق الباب على أي تنازلات من قبلها، وفي نفس الوقت تستمر في تنفيذ مشروعها وتقضم الأرض وتقيم المستوطنات وتستقدم المهاجرين الجدد وتستفيد من الوقت الثمين؛ أي أن مشروع التهويد والصهينة مستمر دون توقف وحتى لحظة كتابة هذه السطور.

اليوم، وقد تأكدت طروحات الرفض، ولم تحصل المنظمة على أي شبر من أرض فلسطين، وإسرائيل ومن معها لا يبدون أي استعداد للتنازل عن أي شبر من الأرض، وبعد أن تغيرت معطيات الحركة الفلسطينية جذريا وأصبحت هياكل ضعيفة وغير قادرة على إنجاز أي تقدم أو أي ضغط على العدو. في ظل ما سبق، يستمر البعض في طرح المبادرات وهذه المبادرات هي من ذات نهج التنازلات، هي ارتداد ونكوص وتخلٍّ عن الهدف المنشود أصلا كما سنرى لاحقا. وكان بعض طارحي هذه الأفكار والتنازلات من أصول نضالية، أما اليوم فإن معظمهم لا يرتكز على ماضٍ كفاحي.

والآن ثبت بالقول وبالفعل أن هذه المبادرات هي شطحات، وهي حَمل وهمي مصحوب بمقدار كبير من سوء الصحة وهي  تعبر عن تقارب مع العدو.

وثبت أنها مقدمات لطروحات أشد سوءا وهذا تقييمها التاريخي مأخوذا في ذات سياق التنازلات الخطرة.

واليوم، فإن أنصار طرح حل الدولتين ومؤيديه ومنظّريه في حينه يبرهنون بعد فوات الأوان أنه كان وهما ولكن يطرحون مخرجا باستبداله بوهم جديد.

طرحهم هو وهم للفلسطينيين ولكنه حقق أهدافا مهمة للصهيونية ومعسكر الأعداء، ما عدا خالد الحسن  الذي طرح بوضوح أن طرح حل الدولتين هو مقدمة لطرح الدولة الواحدة حيث يقول في مقابلة له مع وولتر روبي من صحيفة جروسلم بوست الإسرائيلية مبكرا في عام 1988 في أوج الإنتفاصة الأولى:

“غداء مع مستشار م.ت.ف المُر. بقلم وولتر روبي الصهيوني، جيروزالم بوست 18-11-1988

“قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية في المجلس الوطني الفلسطيني بأن مؤتمر الجزائر اتخذ قرار القبول بحل الدولتين. ولكنه وهو أحد اثنين هما إيديولوجيي م ت ف، والثاني هو ياسر عرفات، أنه يأمل أن يتم اندماج الدولتين لاحقا في دولة ديمقراطية علمانية…. أنا لم أخف هويتي بل قصدت أن أقول بأنني صهيوني. وحين سألته لماذا كان موقف م.ت.ف غامضاً تجاه قراري الأمم المتحدة 242 و 338، أجاب: “… لقد تمت صياغة الكلام بحذر شديد ولا تنس أننا نبيعه لشعبنا…ينص البيان بأن المؤتمر الدولي سيعقد بموجب 242 و 338، نقطة على السطر. ..لكننا في المؤتمر سوف نتحدث عن قرارات الأمم المتحدة الأخرى… إننا ننبذ الإرهاب”

“لقد تمت صياغة الكلام بحذر شديد ولا تنس أننا نبيعه لشعبنا” كما قال خالد الحسن. أما المواقف فتمرر كلها من خلال العرابين.

واليوم يدور النقاش بين  شرائح حزب استدخال الهزيمة بتلاوينه المختلفة ومن جذور سياسية متعددة ويتبارون في طرح صيغ حل الدولة الواحدة بديلا عن صيغ حل الدولتين على أنه الحل الصحيح والسديد الذي يلوي عنق إسرائيل وحلفائها ويحقق الحلم الفلسطيني في الدولة والعودة، وبالتالي ليؤكدوا أن طرح حل الدولتين كان مجرد فتح الباب للنزول درجة  أخرى عن السلم ليتبعها نزول درجات أخرى لصالح العدو. وهذا الطرح كما سنرى هو نكوص وارتداد عن كل الطروحات السابقة عليه، وحتى أنه ليس هروبا إلى الأمام. استبدال وهمٍ مكان وهم كما سنرى بالتحليل والإستعراض والدراسة.

إنهم يستميتون في طرح موقف التعايش مع الاستيطان اليهودي في فلسطين وتطبيع العقل الفلسطيني والعلاقات الفلسطينية مع الاستيطان والمستوطنين في فلسطين كلها كبديل عن هدف التحرير.

إن هذا الطرح لا يزيد عن دعوة لتطبيع العقل الفلسطيني والوعي والثقافة الفلسطينية مع برنامج التهويد القائم على الاستيطان في كل فلسطين وإقامة وطن قومي لليهود فيها.

هنا تجد الكثيرين من الطارحين يشكلون فيلقا يندفع في درب “الآلام” حاملا صليبه ويحفّ بهم الموقعون والنافخون في البوق والمستحسنون. بينما الممولون يرقبون باستحسان ولكنهم “يدفعون” لهم ليحثوا الخطى ويتعجلونهم ليتنازلوا أكثر وأكثر وليتعمقوا في غرقهم في الوحل. 

هنا ينطلق النقاش والجدل الداخلي حول سقوط شعار حل الدولتين وضرورة استبداله  بشعار الدولة الواحدة بصيغ تلتقي كلها على بقاء الاستيطان والمستوطنين  والمستوطنات، ومرفق مع مطالبة ب: عودة اللاجئين وتخلي اليهود عن صهيونيتهم وتخلي الدولة عن عنصريتها تحت عنوان تفكيك الدولة الصهيونية وتغيير جلدها بما ينسجم مع مصالح طارحي الشعارات والأوهام التي يسوقونها وبما يكفي لتسويغ طرحهم وتسويق الأوهام للشعب الفلسطيني.

وسنرى ذلك خلال استعراض نماذج من البرامج المقترحة على الشعب الفلسطيني. إنها تقول للفلسطينيين نعم للتطبيع ونعم للتعايش مع الاستيطان “كسكان أصليين”، “كطوائف غير يهودية” تبقى بمقدار ما إلى جانب الإستيطان.

إن طارحي هذه البرامج يشكلون صفا واحدا مدافعا ومنافحا عن طروحاته ومستنجدين بأدبيات منظمة التحرير والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأدبيات الجبهة الديموقراطية وفتح والحزب الشيوعي. وقد وظفوا هذه الأدبيات واجتزأوها بما ينسجم مع طرحهم.

هنا يكون إطار النقاش ذاته الذي صبغ فترة السبعينيات والثمانينيات، ولكن هذه المرة في سياق مرحلة انحطاط في الوضع الفلسطيني والعربي، هو نقاش يستهدف القول “يا إسرائيل ضمّينا وسمّي نفسك دولة فلسطينية واعطينا حقوقاً وتخلّي عن العقيدة الصهيونية والتمييز العنصري”، وهي لن تتخلى بغير هزيمة شاملة على الأرض تؤدي إلى تدمير جيشها ووجودها كله.

ويخاطبوننا وكأن مبادراتهم أصبحت محققة أو أن إسرائيل قد وافقت عليها، ويطلبون أن نراها حسنة ونتمسك بها ـ علما أن السياسة الإسرائيلية توغل في عنصريتها وصهيونيتها وتوغل في تهويد فلسطين، كل فلسطين، وتتسلح بمواقف عنصرية مدعومة من الغرب الإستعماري وبقوة السلاح. والأنكى من كل ذلك، أنه في عز فيضان عرائض التطبيع والدولة الواحدة والصرخات، يطالب الكيان الصهيوني مجلسَ الأمن بدعم اغتصابها هضبة الجولان السورية المحتلة!! لن تتغير الأوضاع إلا بالهزيمة الحاسمة للمشروع الصهيوني كله ومن أساسه.

لمن يوجهون التنظير والشرح:

الجواب للداخل الفلسطيني والعربي!

إن مهمة هؤلاء المنظرين هي استكمال لمهمة المنظرين والشارحين الغربيين في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين

“لا بد من استذكار أدبيات العقلية الإستعمارية التي جسدها المنظرون والكتاب والدعاة والساسة منذ عام 1840م (مقالات بالمرستون وغيره) كي نفهم ما هو الدور الذي يقوم به منظرو اليوم من كتبة ودعاة وساسة فلسطينيين وعرب لخدمة ذات الفكرة الصهيونية، ولكن في محطة جديدة من تطور وتمكين عملية الاستيطان اليهودي في فلسطين مع فارق أساسي أن هذا الدور تقوم به ألسنةٌ تنطق بالعربية.

كان منظّرو الأمس يوجهون خطابهم، للدول الإستعمارية تارة ولليهود تارة أخرى، من أجل القبول بفكرة تحويل فلسطين إلى مستوطنة في خدمة السياسة الإستعمارية وكل ما يحيط بالفكرة، ويبررون دوافعهم بأن المسألة مهمة للاستعمار وضرورية لليهود بوصفهم أداة مناسبة لخدمة هذه الفكرة، وموجهة لليهود بنوازع الفائدة والدين والخوف لدفعهم للإستجابة للإنتقال إلى فلسطين.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.