“الشرق احمر لقد غابت الشمس”
هذه العبارة التي بثها القمر الصناعي الصيني يوم رحيل ماوتسي تونغ 1976. الرجل ورفاقه الذين نقلوا الصين من منطقة نفوذ استعماري أي متعدد، إلى النووي والفضاء.
لا يمكنك تجاهل حقيقة الوجع الشعبوي الأمريكي من الصعود الاقتصادي للصين الشعبية، ولا يمكنك التقليل من إصرار أمريكا وخلفها الغر ب الرأسمالي على محاربة الاقتصاد الصيني الذي يحكمه قرار سياسي سيادي لا حالة من الصدفة والعفوية.
يتشابه القلق الغربي الراسمالي من الصعود الصيني مع قلق نفس المعسكر بل الثورة المضادة وخاصة الكيان الصهيوني من صعود محور المقاومة مما يشجع الطرفين على عدوان استباقي، بمعزل عن نوع و/ أو تعدد اشكال العدوان، بل الحرب. وتتغير الحرب طبقاً لموازين القوى لا سيما في طبيعة الحرب المُدارة.
كلا القلقين محكوم بعبارة واحدة:
“إقض على عدوك قبل أن يتفوق عليك، هو يصعد وانت تتراجع”
هي السياسة نفسها التي حكمت علاقة الغرب بالثورة البلشفية منذ 1917 وحتى تفكك الاتحاد السوفييتي. منذ تلك الفترة كانت الشيوعية الحربية اي عدوان ب 1.5 مليون جندي غربي هاجموا الثورة البلشفية في سنواتها الأولى مدعومين بالجنرالات البيض قوات القيصر.
تغير شكل الحرب إثر صمود السوفييت فكانت الحرب الاقتصادية، المقاطعة وفرض ما أُسمي الستار الحديدي بزعم أن الاتحاد السوفييتي هو الذي حاصر نفسه. لكنه حوصر من جهة ودفعه التحدي إلى تطوير سياسة اقتصادية طبقاً للظرف ووجوب الخروج على مقتضيات النظام الراسمالي العالمي في حينه.
ماذا نتج عن ذلك؟ كانت النواة الأولى لفك الارتباط بالسوق الرأسمالية العالمية في فترة حكم ستالين الذي قال فيه الإمبريالي المتوحش ونستون تشرشل: “ستالين هو الذي نقل الاتحاد السوفييتي من المحراث اليدوي إلى العصر النووي”.
فك الارتباط الذي أسس له السوفييت التقطته الصين الشعبية كاستخلاصات مادية ميدانية ومن هذا وذاك طوَّر الراحل سمير امين نظريته المتكاملة في فك الارتباط.
لفك الارتباط أو المقاطعة إن شئت وجهه البرجوازي التنظيري ايضا. وهو ما اسماه الاقتصادي الأمريكي من اصل الماني جوزيف شومبيتر بالانعزال أي بان بوسع الولايات المتحدة الانعزال عن العالم والاكتفاء! ولكن هيهات لراس المال أن لا يتوسع بأي ثمن وبكل ثمن. كان شومبيتر حينها في قلق حاد من الصعود الإشتراكي، وهوالقائل تشاؤميا حينها “إن الراسمالية سوف تهز كتفيها باستسلام للإشتراكية”.
جميل، السياسة والعسكر تجليات للاقتصاد. لذا، اختصر ترامب المسألة فقفز إلى الحرب التجارية مباشرة بمعزل عن قدرة امريكا على إدارة حرب وبغض النظر كذلك عن التداعيات الإهلاكية للحرب على العالم.
أطلق ترامب أول قذيفة اقتصادية ضد الصين ب 200 مليار دولار، لتتبعها قذائف أخرى تؤكد اختيار أمريكا للحرب التجارية والتي تتضمن كذلك حربا تكنولوجية عالية المستوى ضد كل من روسيا والصين وغيرها. فهي الحرب التجارية المعولمة إذن. إنها استباق الصعود لهذه الدول كي لا تأكل أكثر من الحصة التي تلتهمها امريكا والغرب من السوق العالمية التي هي أساساً احتكار لهم.
حافز أمريكا في حرب التجارة ضد الصين هو مواجهة التوسع التجاري السوق الصيني عالميا حتى قبل سياسة “الطريق والحزام”. والمفارقة أن الرطانة النظرية للراسمالية منذ ثلاثة قرون على الأقل عن حرية السوق والتجارة تكشف عن نفسها بأنها حرية المركز في استغلال المحيط ونهبه وحرية المركز في تبني وتطبيق الحمائية. هذه سياسة امريكا اليوم مقرونة بالضغط على كل دولة بقدر تبعيتها وحاجتها لأمريكا كي تتبنى قرارات امريكا في الحرب التجارية. وهذا يعني أن العالم في حرب التجارة اليوم.
وفي حين تأخذ الحرب على الصين طابعا افقياً في الأغلب، فإنها تأخذ طابعا عاموديا ضد روسيا حيث تحاول امريكا قطع صعود الشركات الروسية التي تعتمد على مكونات أمريكية وخاصة في التكنولوجيا المتقدمة، اي تشريك قطع الصناعات وخاصة المتطورة، كتب أركادي سافيتسكي مقالاً في موقع «Strategic-culture» بعنوان: «إنّه الاقتصاد أيها الأحمق يُفصِّل فيه القرارات الأمريكية للضغط على صناعات روسية،:
تهدف الولايات المتحدة من ذلك إلى إعاقة تطوير صناعة الطائرات الروسية التي باتت تجذب العالم وخاصة «MC-21» الفريدة من نوعها في العالم. فالمواد المنتجة روسياً تجعل من الطائرة أخف وزناً وأرخص ثمناً، ولهذا قد يشكل حظر الألياف الكربونية والأغلفة مشكلة لإنهاء المشروع وتطويره، ووزارة الخارجية الأمريكية تعرف ذلك تماماً ولهذا ضربت هنا.
والمحرّك يشكّل مشكلة هو الآخر، فهو الأوّل الذي يبنى في روسيا 100% منذ انهيار الاتحاد السوفييتي والذي سيستبدل المحرّك الذي تستخدمه طائرات «MC-21» حتّى الآن من إنتاج شركة «Pratt & Whitney» الأمريكية. وتكمن نقطة الضعف الروسية في هذا السياق إلكترونيات الطيران «Avionics» المتخلفة. فرغم أنّ التطوير قائم ولكنّه لا يزال ضعيفاً، ولاتزال روسيا تعتمد هنا على الشركات الأمريكية والبريطانية والفرنسية العملاق”.
هذا ناهيك عن القلق الأمريكي من تطور صناعة السلاح الروسية ربما أكثر من قلقها من اتساع سوق هذه الأسلحة.
إنه تناقض مفهوم تماماً إذن حيث تتراخى قبضة الإمبريالية على العالم، ومع ذلك، بل ولذا، تشن حربا تجارية لأنها ترى في ذلك فرصتها الأخيرة كي تَحول دون صعود قطبيات قوية تطرح نفسها بدائل لها.
وبمعزل عن ذكر تفاصيل عدد وارقام السلع التي طالتها وستطولها الحمائية الأمريكية، وهو ما يهم طلبة يقومون بأبحاث مدرسية أكثر مما يهم القارىء، فإن السؤال الأهم هو:
هل ستلجآ/ وبالمعنى الأقدم هل ستعودان الصين وروسيا إلى فك الارتباط؟ أم ستلجآن إلى هجوم الانخراط؟ أم إدغام الفك والانخراط معاً. لِم لا؟ ففي عالم متغير تتغير الاستراتيجيات بناء على الحدث المادي.
لا يمكن للصين وروسيا فك ارتباطهما بالسوق العالمية. فعلى الأقل، أقامت الصين شبكة استثمارات وبالطبع تجارة معولمة لن تتخلى عنها باختزال اقتصادها بالانسحاب إلى الداخل رغم اتساع السوق الصيني، وهي مرغمة على استيراد النفط من توابع أمريكا وروسيا معتمدة إلى حد كبير على تسويق نفطها إلى حلفاء أمريكا.
تحتل الصين بمنتجاتها المدنية المزيد من اسواق العالم بهدوء، وتحتل روسيا المزيد من اسواق العالم بتصدير السلاح ولعب دور هادىء ومتسع في الدبلوماسية الدولية.
يبقى السؤال عن حرب العملات. وهي الحرب المؤجلة بنظر الصين. فهي تمارس الحرب الاقتصادية، حرب الإنتاج والتوسع السوقي،وهي الحرب التي ستفرض نتائجها حرب العملات وخاصة حين تجد الدول التي تتعاطى تجاريا مع الصين أن بوسعها مغادرة الدولار إلى اليوان. فلا بد للورق والدفع الإلكتروني أن يقوم في النهاية على ملموسات مادية.
على أرضية الإنتاج المادي المتسع، يمكن ان يمتد قانون القيمة المحلي الصيني إلى قانون قيمة منافس لقانون القيمة الذي يتقرر في المراكز الغربية.كيف سيكون هذا القانون؟ بالطبع رأسمالي لأن قانون القيمة بغض النظر عن الجغرافيا هو قانون مقترن بالنظام الراسمالي. ولكن هل سيكون أرحم من قانون القيمة المعولم الحالي؟ وهل هناك قانونا راسماليا رحيماً، أم أنه سيكون محكوم بدرجة نسبية من التبادل المتكافىء؟ أسئلة لا تجيب عليها التشخيصات النظرية، لكن المعني بالإجابة عليها الدولة/السلطة في المحيط وهل تعتمد إخضاع العلاقات الخارجية لمقتضيات تطورها هي؟ أي التنمية بالحماية الشعبية. ولكن، هل هي حماية شعبية يقودها تمثيل قاعدي شعبي أم حماية شعبية قيادتها دولانية عليا؟
بكلام آخر، في صراع الكبار ماذا يفعل فقراء المحيط؟
هنا نستدعي سمير امين مجددا. لا بد من فك الارتباط مع السوق العالمية ورفض مقتضياتها لصالح مقتضيات التطور الذاتي لبلدان المحيط سواء تجاه الغرب أو الشرق وكليهما راسماليات وإن ببعض الاختلافات. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، لا بد من التحول للتبادل مع الكتلة الجديدة المنافسة للغرب الراسمالي ولكن بحمائية شعبية واضحة من نمط كميوني أو نمط الانتفاضة الفلسطينية لعام 1987 وبدون انخراط تابع.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.