مقدّمة – الظّرْف الزّماني:
تزامن إعلان الرئيس الأمريكي انسحاب دَوْلَتِهِ من معاهدات الحد من انتشار الأسلحة النّوَوِيّة، والمُوقّعة مع روسيا منذ أكثر من ثلاثة عقود (1987، بعد سنوات من المفاوضات)، مع اقتراب موعد فعاليات يوم 11 تشرين الثاني/نوفمبر في ذكرى مرور 100 عام على يوم الهدنة، بنهاية الحرب العالمية الأولى (11/11/1918)، وتزامن أيضًا مع مناورات ضخمة للحلف الأطلسي ومع انتشار غير مسبوق للقوات الأمريكية في مُحيط روسيا، وتُهدّدُ الولايات المتحدة بالتخلِّي أيضًا عن معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، وبرفض تجديد الاتفاق المعروف باسم “نيو ستارت”، والإنسحاب من مُعاهدات “نزْع الأسْلِحة”، وصرّح الرّئيس الرّوسي، بعد إعلان الرئيس الأمريكي، وقبل مناورات حلف “ناتو”: “إن نَشْر صواريخ أميركية متوسطة المدى في أوروبا سيدفعنا إلى استهداف الدول التي تنتشر فيها قواعد الصواريخ”، ويُهدِّدُ هذا الوضع بإعادة العالم إلى فترة “الحرب الباردة”، والتي كانت “مُبَرَّرَة” آنذاك بصراع قُطْبَيْنِ ونَمَطَيْن من الأنظمة في العالم: الرأسمالية الليبرالية الإحتكارية من جهة، و”الإشتراكية” أو رأسمالية الدّولة التي تعتمد على التّخْطِيط المركزي، وتعتمد على اهتمام الدّولة بتلبية الحاجيات الأساسية للمواطنين (السكن والنقل والتعليم والصحة والثقافة والتّرفيه…)، أما حاليًّا، فإن الرأسمالية تُشَكِّلُ قاسمًا مُشْتَرَكًا بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، رغم اختلاف الأهداف والتّطبيقات العَمَلِية، لكن الولايات المتحدة ترفض الإلتزام ببعض قواعد الرأسمالية الليبرالية، في فترات الأزَمات، أو عندما تقتضي مَصالح شركاتها ذلك، ومن بينها قانون حرِّيّة المُنافَسَة في الأسواق، لذلك تستخدم القُوّة العسكرية لإرهاب المنافسين والخصوم والأعداء، وما حلف “ناتو” سوى أداة عسكرية أمريكية، مُكَمِّلَة (أو ذِراع قَوِيّة) لسياستها الخارجية…
مواقف وممارسات عدوانية أمريكية:
قرّرت الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (29 دولة)، سنة 2014، توسيع نشاطها العسكري في أوروبا، وفي الحقيقة، توسّع هذا النّشاط قبل ذلك بعدة سنوات، وكانت الولايات المتحدة (العمود الفقري لحلف شمال الأطلسي) قد ضَمّتّْ معظم دول أوروبا الشرقية للحلف، ثم ضَغَطَت على الإتّحاد الأوروبي ليقبَل انتماء كافة دول أوروبا الشرقية للإتحاد، في زمن قياسي، رغم عدم اكتمال الشروط، وفي ترجمة لقرار توسيع النّشاط العسْكَرِي، نشر حلف شمال الأطلسي (ناتو) منذ بداية سنة 2018 قوات مسلحة في النرويج، كما تم منذ آذار/مارس 2018، نشر وحدات من الجيش الأمريكي في النرويج أيضًا، بهدف تدريب قوات مُشاة البحرية على خوض معارك في طبيعة مُناوِئة، وفي ظُرُوف جَوِّيّة غير مُواتية، وهو أول نشر لقوات أجنبية في هذا البلد منذ الحرب العالمية الثانية.
أعلن نائب وزير الدفاع الروسي يوم الثاني من آذار/مارس 2018، أن الولايات المتحدة الأمريكية تخطط لنشر حوالي 400 صاروخ من منظومة الدرع الصاروخية بالقرب من الحدود الروسية مع الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو، بهدف خفض قدرة الردع النووي الروسي، بشكل حاد، وردًّا على هذه الخطوة الأمريكية، أعلنت روسيا نشر صواريخ جديدة “لا تتعارض مع معاهدة القضاء على الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى”، وفق نفس المسؤول العسكري الرّوسِي، لكنه أعرب عن تخوفاته من التصعيد الأمريكي، ومن رفض الولايات المتحدة الحوار وحل المسائل العالقة أو الطارئة سِلْمِيًّا… تجدر الإشارة أن روسيا نظّمت خلال شهر أيلول/سبتمبر 2018 أضخم مناورة عسكرية منذ الحرب الباردة، بنحو 300 ألف جُنْدِي، تحت إسم “فوستوك 2018″، بمشاركة الجيش الصيني، بعد ارتفاع عدد القطع البحرية العسكرية الأمريكية في محيط البحر الأسود…
في بداية آب/أغسطس 2018، استضافت جورجيا، المجاورة لروسيا مناورات عسكرية مُشْتَرَكَة مع قوات حلف شمال الأطلسي “ناتو”، في الذكرى العاشرة للعدوان الذي شنّته ضد روسيا سنة 2008، بدعم أمريكي وأوروبي وصهيوني، واستمرت هذه المناورات أُسْبُوعَيْنِ كاملَيْن (من 01 إلى 15 آب/أغسطس 2018)، بمشاركة أكثر من ثلاثة آلاف جندي من 13 دولة، بقيادة أمريكا ( بريطانيا وتركيا وفرنسا وألمانيا…)، واعتَبَر وزير دفاع جورجيا: “إن المناورات دليل آخر على الدعم المتزايد الذي تحصل عليه جورجيا من الدول الأعضاء في حلف شمال الاطلسي”، شركائها الإستراتيجيين، وتعمل الولايات المتحدة على ضم جورجيا (وأوكرانيا) إلى الحلف، رغم الإعتراضات الشديدة لروسيا…
عقد وزراء الحرب في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، اجتماعا يومَي الثالث والرابع من تشرين الأول/اكتوبر 2018، في العاصمة البلجيكية بروكسل (مقر الحلف)، “لمناقشة ملفات عدة”، وفق البيانات الرسمية التي نُشِرَتْ قبل موعد الإجتماع، وأعلن أمين عام حلف الناتو، في مؤتمر صحفي: إن “تقاسم الأعباء، ومن بينها نفقات الأمن” سيكون من أبرز مواضيع جدول أعمال الاجتماع، وسبق أن أمرت أمريكا (قبل أن يُصْبِح “دونالد ترامب” رئيسًا) حُلَفاءها بزيادة ميزانية الحرب، وزيادة المُساهمة في نفقات حلف شمال الأطلسي، وزيادة حِصّتها من تمويل صناعة الأسلحة الأمريكية التي تُشَكّل أكبر حصّة من سلاح الحلف، وامتثلت دول الإتحاد الأوروبي وكندا، فرفعت ميزانيات الحرب سَنَتَيْ 2018 و 2019، بقرابة 5,2%، رغم عجز الميزانيات، وإقرار سياسات التّقَشُّف، وخفض الإنفاق الحكومي، ولكن النقطة الأهم في جدول الأعمال والتي لم يُعْلَنْ عنها مُسبقًا للعموم هي اجتماع “مجموعة التّخْطِيط النّوَوِي” لدراسة ملفّات “قوة الرّدْع، والإستعدادات الجارية للتصدي للتهديدات التقليدية والهجينة والإلكترونية…”، وادّعى الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “ناتو”: “إن الحلف مُنْزَعِجٌ لعدم وفاء روسيا بتعهداتها الدولية”، وتكمن أهمية هذا الإجتماع أيضًا في إدراج بند خاص بما سَمّاه بيان الحلف “الاضطرابات في شمال إفريقيا والشرق الأوسط”، وهذه التسمية الطويلة تعني الوطن العربي، مع الحرص على مَحْوِ لفظ “العربي” من قواميس الحلف، والمؤسسات المالية الدولية، والأمم المتحدة، وخَصّ البيان بالذّكر “تنفيذ مهمات تدريب جديدة في العراق، وتطبيق برامج مساعدة للأردن وتونس”، بحسب ما أكّده الأمين العام للحلف، وهو ما لا تُشير إليه وسائل الإعلام المحلِّية، لعلمِها إن الشعوب العربية مناوئة لنشاطات الحلف الأطلسي، ولتعزيز علاقات الأنظمة العربية معه…
ارتفاع صوت أجراس الحرب:
بدأت مناورات النرويج، والتي تحمل إسم “ترايدنت غانكتشر 2018” يوم الخامس والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر 2018، بالتزامن مع اجتماع هام للحلف يدوم يومَيْن، وتُعْتَبَرُ هذه أكبر مناورات عسكرية منذ 1991، أي منذ نهاية الحرب الباردة، وتهدف إلى “إظهار قدرات الحلف الدفاعية، وتوجيه رسالة واضحة موجهة لجميع المعتدين”، وفق الأمين العام للحلف الذي أوضح إنها يقصد ب”المُعْتَدِين” (المحتمَلِين) روسيا أولاً ثم الصين، واعتبرت وسائل الإعلام الغربية هذه المناورات “مناورات الحرب العالمية الثالثة”، التي يُشارك في تنفيذها نحو 51 ألف جُنْدِي (بعد زيادة عدد القوات الأمريكية بنحو ستة آلاف جندي إضافي)، و150 طائرة و60 سفينة حربية (وحاملة الطائرات الأمريكية الضّخمة “هاري ترومان”) وعشرة آلاف مركبة عسكرية، وأعلن ضابط بريطاني من المشاركين في التّدْريبات: “إن المناورات تهدف إلى إظهار قُدْرَتِنا على التّحرّك عبر أوروبا عند الحاجة، لحماية حُلفائنا، في غُضُون مُهْلَة قصيرة”، وتُشَكّل المناورات أكبر عملية نقل لعسكريين، ولمركبات الحلف، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991، وكانت الولايات المتحدة وأوروبا قد كَثّفَتْ منذ التدخّل العسكري الرّوسي في سوريا، الحضور العسكري في أوروبا الشرقية ودول البلطيق (خلال السنوات الأربع الأخيرة)…
خاتمة:
إن القُوّة العسكرية مُلازمة لكافة أساليب الهيمنة الإمبريالية، لأنها جُزْءٌ لا يتجزّأ، بل جُزْءٌ أساسي، من وسائل الإستعمار والهيمنة الإمبريالية على شعوب العالم، أما الجديد في هذه الفترة، التي تَلَتْ انهيار الإتحاد السوفييتي، فهي اجتماع القوة العسكرية والمالية بين أيدي الولايات المتحدة، التي تجاوزتها الصين في مجال الإنتاج الصّناعي، ويُشَكِّلُ الإستعراض الحالي للقُوّة العسكرية من قِبَل الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي تهديدًا لكافة بلدان وشُعوب العالم، وليس لروسيا وحدها، لأن القوات الأمريكية (مع حلفائها) تحتل أفغانستان والعراق (عبر القواعد العسكرية وعبر فرض الدستور الطائفي) وتدعم الكيان الصهيوني، كأشد ما يكون الدعم، وكثفت من وجودها العسكري في إفريقيا، وكثفت كذلك من حدة الهجمات على القوى التّقَدّمية في أمريكا الجنوبية…
إن الأنظمة القائمة في روسيا أو في الصّين تُدافع عن مصالحها (وهو أمر طبيعي)، ولا ننتظر منها الدفاع عن مصالحنا بدلاً عنّا نحن المعنيون بالأمر، بالإضافة إلى علاقاتهما المُتَطَوِّرَة مع الكيان الصّهيوني (في ظل تطبيع الأنظمة العربية وسلطة أوسلو)، لكن الهجوم الأمريكي على مثل هذه الدّول يُنْذِرُ بخطر الهجوم على كل ذي رأي مخالف وعلى كل دولة لا ترْضَخ للأوامر الأمريكية، أو لا تخدم المصالح الأمريكية، لذلك فإن الإمبريالية الأمريكية تُعَدُّ، في الفترة الحالية، مَصْدَر الخَطَر الرّئِيسِي لشعوب العالم وللطبقة العاملة في الولايات المتحدة وفي العالم، لأن الحرب التجارية التي أعلنها “دونالد ترامب” تُمثِّلُ الجانب الإقتصادي، أو التجاري، من هذه الحرب العدوانية الشّامِلَة…
وردت معظم البيانات في برقيات وكالات رويترز + أ.ف.ب، من أول كانون الثاني/يناير إلى 25 تشرين الأول/اكتوبر 2018
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.